جناية الانغلاق ووأد الحداثة

التطرف عزلة وانقلاب ممنهج

إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
TT

جناية الانغلاق ووأد الحداثة

إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)

تختنق، ربما حتى تحتضر، كل دعوة إصلاحية أو ديمقراطية في سبيل الحداثة والتحديث والتقدم الإنساني وسط دخان وسياقات الخطر الأصولي والإرهابي، وما يستتبعه من خطورة الوضع الأمني وصعود العمليات التطرف العنيف، بل قد تتراجع القيم الحداثية والإنسانية أمام هذا الخطر مؤقتا أو دائما. وتمكن ملاحظة ذلك التراجع بسهولة بعد أن غدا الإرهاب هاجس العالم وشاغله، وتتصاعد تأثيراته السلبية على المناخات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أشهر من أن يعرف، من قوانين أشكروفت الأميركية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وصولا إلى المواقف الراهنة من اللاجئين والمهاجرين إلى الإسلاموفوبيا ونزوعات وصعود اليمين في الغرب، والنزعات الطائفية في كل مكان، فضلا لإزاحة مقولات الحداثة والحوار الحضاري والتقدمي لصالح هيمنة خطاب التحدي والطوارئ والصراع والاستقطاب في كل مكان.
بينما كانت النازية ومعاداة السامية التحدي الأبرز في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت الحرب الباردة أبرز تحديات نصفه الثاني، يبدو الإرهاب والتطرف العنيف التحدي العالمي الأول والأبرز منذ بدايات هذا القرن وربما لعقود مقبلة بشكل واضح، منذ أن داهم العالم بعملياته الانتحارية في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، وصولا للحظة الداعشية، وسياقات ما بعد الثورات العربية التي وجدت فيها الكثير من تنظيمات التطرف، وكثير من الأنظمة الداعمة أو الموظفة لها، فرصتها لإنهاك خصومها والتمكين لأمارات التطرف المتشظية في أكثر من مكان، وهو التهديد الذي وصفته الأمم المتحدة بـ«غير المسبوق» في أغسطس (آب) سنة 2015.
وليس أدل على مبلغ الخطورة ذاك من حالة الاستنفار الأمني، العالمي والإقليمي والوطني، لصد أخطاره الداهمة واستباقها، ويكفي أن نشير مثالا على ذلك، أنه في يوم واحد أغلقت فرنسا مساء الجمعة، صباح السبت مطار باريس الدولي تحسبا لخطر عملية إرهابية أخيرة، بعد أن نجح الإرهاب الداعشي في استهدافها بعدد من جرائمه التي راح ضحيتها العشرات خلال العامين الماضيين، وفي اليوم نفسه أحبطت قوات الأمن السعودي قبل ذلك بساعات عملية أمنية استهدفت الحرمين الشريفين، وقبضت على مجموعتين إرهابيتين قبل تنفيذها، أو ما نفذه الإرهاب من عمليات انتحارية راح ضحيتها عدد من رجال الشرطة والأمن المصري في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) الماضي، كما ما زالت معارك الموصل مشتعلة، وكذلك سوريا وليبيا.
* التطرف أصل... والإرهاب نتيجة
يطن العالم بضجيج الإرهاب، مخاطره وخططه وعملياته، هواجسه ومفاجأته، ما بين عناصره وتنظيماته لخلاياه النائمة وذئابه المنفردة، ولكن الإرهاب ليس الوجه الوحيد للتطرف والتشدد، وإن أدى وبرر كل منها للآخر، بل هو وفقط الصورة السائدة والمنتج الأخير له، ولكن التطرف تجلى في تعبيرات وتماثلات مختلفة بدءا من الفتاوى والتحريض، لحركات إعادة الخلافة والتكفير والعزلة والصدام الشعوري والمجتمعي، التي كان لها أيضا عظيم الأثر في إنتاجه خلال العقود الخمسة الأخيرة، وما زال بعضها يمارس السياسة ويدعي الاعتدال، لكنه يتفق مع تنظيمات الإرهاب في غاياتها، بل وخطاباتها وأوصافها لمعارضيها ومعارضيه بالصحوات والتكفير الديني والتخوين السياسي للأنظمة التي تناهضها أو أسقطتها، شأن حركة الإخوان المسلمين وموقفها من النظام المصري بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي حراك يونيو سنة 2011، ويصف إعلامها - قبائل سيناء بـ«الصحوات»، كما جاء في برنامج تحت عنوان «تسريب سيناء» في 20 أبريل (نيسان) الماضي، أذاعته قناة إخوانية تبث من تركيا - وهو التعبير الذي وصفت به «داعش»، أو «قاعدة العراق» سابقا، مناهضيها ومحاربيها من أبناء القبائل، بما فيهم تيار الإخوان نفسه الذي انصاع لخريطة الطريق الأميركية بعد سقوط صدام حسين، لكن بعض أصوات وإعلام إخوان مصر انتبهوا فقط لمصطلح «داعش» في وصف خصومهم دون ما وراءه، كما لم يدينوا بصراحة يوما أيا من ضحايا الإرهاب وعملياته، مكتفين والإعلام المساند لهم - كقناة «الجزيرة» القطرية - بتوظيف عمليات الإرهاب لصالحهم في نزع هيبة الدولة المصرية وشرعيتها وسعيا لإسقاطها.
من هنا نرى أن العمل الإرهابي ليس غير نتيجة أخيرة وغاية قصوى تؤدي إليها أفكار التشدد والغلو وتؤسس له أدبياته وآيديولوجياته، لتتجلى مقولاته وفتاواه وخططه في عمليات انتحارية أو عمليات دهس عدمية، وهو ما يوقد نزعات التطرف المضاد والإسلاموفوبيا التي عادت معدلاتها للارتفاع في السنتين الأخيرتين بدرجة أعلى من موجتها السابقة في السنوات الأولى عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
التطرف عزلة، والتشدد استعلاء، وليست الجماعات الأصولية والغلواء - قديما وحديثا - إلا جيتوهات مجتمعات صغيرة معزولة عن المجتمع الكبير، تعاني هم الهوية ورعب الخوف عليها، نافرة من سياقات الواقع والتاريخ.
مثل هذه التعبيرات التي صاغها الراحل سيد قطب لم تكن إلا ترجمة لمشاعره وطليعته المقاتلة التي تستهدف تحقيق الحلم والهدف الكبير في «الانقلاب» حسب تعبيراته وتعبيرات ملهمه الراحل الأستاذ المودودي، حتى يعود التاريخ عن حركته نحو المستقبل ماضيا، بل ويكون المستقبل محددا سلفا، رغم أن الغيب كتاب مفتوح لا يعلمه إلا الله، ويتطلب إعدادا وتوكلا وتدبيرا.
من هنا، تنتاب التطرف بارانويا التميز والرسالية والاصطفاء، فيرى في تحقيق انقلابه استئنافا لحياة المسلمين وللحياة الإسلامية بشكل عام، حسب تعبيرات تقي الدين النبهاني مؤسس «حزب التحرير»، الذي وقف حياة المسلمين على ضرورة استعادة «الخلافة»، التي هي شأن تاريخي غير إيماني وغير عقدي، التي ركز في استهدافها على الانقلاب وعلى استثمار مراكز القوى والقوة من أجل ذلك، دون اعتبار في ذلك منه أو من غيره من قادة الجماعات الأصولية والمتطرفة للأمة أو للشعب، فالديمقراطية دين يكفّر صاحبه المؤمن به أو الداعي له، أو من يجوّز حتى اقتباسها - حسب تعبير أمير «حزب التحرير» الثاني عبد القديم زلوم، أو تعبيرات غيره من قادة ومنظري السلفية الجهادية، مثل المقدسي وأبي قتادة أو منظري «داعش» بالطبع، فالديمقراطية عند هؤلاء جميعا دين يناقض دين الإسلام، واختيار الأمة يكون عبر الأوصياء عليها فقط ممن يحددهم قادة هذه الجماعات، ولو كانوا غفلا مجهولين عند عمومها أو عند غيرهم من الفصائل والجماعات، كما فعلت «داعش» وحدها حين أعلنت خليفتها وخلافتها، وهو ما انتقدها عليه منظرو القاعدة والسلفية الجهادية، فضلا عن سائر المسلمين.
ولعل المحاولة الفاشلة لتفجير الحرمين الجمعة الماضي دلالة على هذه العزلة التي يحيا داخلها المتطرفون وجماعاتهم، وقد سبقت مرات كثيرة استهدف الإرهاب فيها كذلك الحرمين ومساجد ومزارات مختلفة للهدف ذاته، ليس فقط في المملكة العربية السعودية، لكن في غيرها مثل استهداف المساجد والمزارات في العراق - سنية وشيعية على السواء - أو المعابد الدينية كالمعابد والكنائس في تونس وفي ليبيا وفي باكستان وغيرها خلال الأعوام الماضية.
* التطرف إعاقة للأمة تاريخياً
كان التطرف والغلو منذ أول ظهوره مع الفتنة الكبرى التي اشتعلت ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان إعاقة للأمة، مجتمعا ودولة، وخصما عنيفا من قوتها؛ فمع صحوته - أو فتنته - الأولى توقفت الفتوحات، وانتشر التكفير والتخوين وانقسم المسلمون وتفرقت فرقهم وشيعهم وكان فشلهم الذريع، وعطبت في عثرته الدعوة لدين الله، وركبه المستفيدون والمتآمرون من كل صوب وحدب فبلغوا فيه مبلغهم في إضرار المسلمين أو السيطرة عليهم واستهداف عقلائهم ورموزهم، فلم يسلم منهم البيت الحرام ولا الحجر الأسود، كما لم يسلم منه أمير المؤمنين علي وسبط رسول الله الحسين، ولم يسلم منه عبد الله بن خباب بن الأرت، ولا جنين كان في بطن زوجته... كما لم يسلم منهم مفسر كالطبري فقتلوه، ولا مجاهد كصلاح الدين استهدفوه، ولا وزير مصلح عالم ناصر للسنة كنظام الملك اغتالوه!
وكان الأثر والمعاناة عربيا وإسلاميا من ويلات الانغلاق وتيارات العنف الديني، كانت أسبق وأعمق بكثير من معاناة العالم الراهنة، فمعاناة منطقتنا بدأت مبكرا قبل عقود من عولمة الإرهاب، مع صعود القاعدة في تسعينات القرن الماضي، أو «داعش» خلال السنوات الأولى الماضية عقب زلزال الانتفاضات العربية، وكان خطابها النظري - القطبي والمودودي والنبهاني وغيره - الذي أسس لتيارات الانقلاب الإسلامي والمجابهة والتكفير فيما بعد حائط صد قويا في وجه موجات الحداثة والتحديث التي كانت وجدت طريقها قبله بعقود كذلك، فكانت مواجهتهم الحادة لكل تمكين للتعددية والمواطنة، وحقوق المرأة، وتعلم اللغات، وإقامة الحكم الرشيد، كما كانت مواجهتهم العنيفة لكل تجديد فكري ونظري يناقض مسلماتهم، من مدنية الدولة والقوانين إلى نقد مقولات الخلافة التاريخية أو العثمانية، أو الدعوة لتعليم البنات والترجمة والتثاقف وغيرها من أمور، ويمكننا أن نشير مثالا على ذلك إلى عشرات الحالات والأمثلة التي عانت من هذا التغول والتسلط الأصولي وقمعها، بدءا من علي عبد الرازق ومعركة «الإسلام وأصول الحكم»، مرورا بطه حسين ومعركة «في الشعر الجاهلي»، ووصولا لكل الحالات الشبيهة في حالنا الراهن والسابق.
كذلك، نجحت الانغلاقية الأصولية في وأد أفكار تحديثية مبكرة، نعود إلى بذورها الآن، لنبدأ من جديد، ويكفي أن نذكر أن بلدا كمصر عرفت حزبا يحمل اسم الحزب الديمقراطي سنة 1918، أو عرفت جماعة لحقوق البشر في عشرينات القرن الماضي، وأخرى للدفاع عن حقوق الإنسان في ثلاثينات القرن الماضي، وكانت تشهد حراكا ثقافيا أعظم مما تشهده الآن، بعدد مجلاته وإصداراته وترجماته، وكذلك تواصلا ثقافيا أعمق وألصق، وأسرع مما نشهده الآن في عصر الإنترنت والشبكة العنكبوتية.
عن هذا التواصل يكفي أن نذكر أنه في العقد الأول من القرن العشرين كنا نقرأ لكتّاب من الهند كأبي الكلام أزاد في مجلة كـ«المنار» المصرية، أو نقرأ افتتاحية جريدة «السياسة» اليومية بقلم الشاعر والفيلسوف العراقي الراحل جميل صدقي الزهاوي، وغير هذا كثير، مما تراجع حتى تلاشى مع الصعود الأصولي والانغلاقي الفكري والحركي ثم العنيف منذ ثلاثينات القرن الماضي على الخصوص، وتحديدا بعد الثورة الفلسطينية سنة 1935 التي أعطت للتيارات الماضوية والأصولية - شأن الإخوان المسلمين - شرعية الضور القوي والمقاومة وأزاحت من الواجهة كل دعوات الحداثة والتحديث ليسود الانغلاق والتراجع كل المساحات فيما بعد وصولا لثورات الضباط في الخمسينات وهيمنة الآيديولوجيات القومية الاندماجية والبعثية، وإزاحة كل مختلف وآخر عن الحضور، وهو ما تكرر شبه به كبير بعد الثورات العربية عام 2011 بفعل إصرار تيارات الآيديولوجية السلطوية والأصولية الانغلاقية على سرقتها والانفراد بغنائمها وحدها.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».