جناية الانغلاق ووأد الحداثة

التطرف عزلة وانقلاب ممنهج

إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
TT

جناية الانغلاق ووأد الحداثة

إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)

تختنق، ربما حتى تحتضر، كل دعوة إصلاحية أو ديمقراطية في سبيل الحداثة والتحديث والتقدم الإنساني وسط دخان وسياقات الخطر الأصولي والإرهابي، وما يستتبعه من خطورة الوضع الأمني وصعود العمليات التطرف العنيف، بل قد تتراجع القيم الحداثية والإنسانية أمام هذا الخطر مؤقتا أو دائما. وتمكن ملاحظة ذلك التراجع بسهولة بعد أن غدا الإرهاب هاجس العالم وشاغله، وتتصاعد تأثيراته السلبية على المناخات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أشهر من أن يعرف، من قوانين أشكروفت الأميركية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وصولا إلى المواقف الراهنة من اللاجئين والمهاجرين إلى الإسلاموفوبيا ونزوعات وصعود اليمين في الغرب، والنزعات الطائفية في كل مكان، فضلا لإزاحة مقولات الحداثة والحوار الحضاري والتقدمي لصالح هيمنة خطاب التحدي والطوارئ والصراع والاستقطاب في كل مكان.
بينما كانت النازية ومعاداة السامية التحدي الأبرز في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت الحرب الباردة أبرز تحديات نصفه الثاني، يبدو الإرهاب والتطرف العنيف التحدي العالمي الأول والأبرز منذ بدايات هذا القرن وربما لعقود مقبلة بشكل واضح، منذ أن داهم العالم بعملياته الانتحارية في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، وصولا للحظة الداعشية، وسياقات ما بعد الثورات العربية التي وجدت فيها الكثير من تنظيمات التطرف، وكثير من الأنظمة الداعمة أو الموظفة لها، فرصتها لإنهاك خصومها والتمكين لأمارات التطرف المتشظية في أكثر من مكان، وهو التهديد الذي وصفته الأمم المتحدة بـ«غير المسبوق» في أغسطس (آب) سنة 2015.
وليس أدل على مبلغ الخطورة ذاك من حالة الاستنفار الأمني، العالمي والإقليمي والوطني، لصد أخطاره الداهمة واستباقها، ويكفي أن نشير مثالا على ذلك، أنه في يوم واحد أغلقت فرنسا مساء الجمعة، صباح السبت مطار باريس الدولي تحسبا لخطر عملية إرهابية أخيرة، بعد أن نجح الإرهاب الداعشي في استهدافها بعدد من جرائمه التي راح ضحيتها العشرات خلال العامين الماضيين، وفي اليوم نفسه أحبطت قوات الأمن السعودي قبل ذلك بساعات عملية أمنية استهدفت الحرمين الشريفين، وقبضت على مجموعتين إرهابيتين قبل تنفيذها، أو ما نفذه الإرهاب من عمليات انتحارية راح ضحيتها عدد من رجال الشرطة والأمن المصري في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) الماضي، كما ما زالت معارك الموصل مشتعلة، وكذلك سوريا وليبيا.
* التطرف أصل... والإرهاب نتيجة
يطن العالم بضجيج الإرهاب، مخاطره وخططه وعملياته، هواجسه ومفاجأته، ما بين عناصره وتنظيماته لخلاياه النائمة وذئابه المنفردة، ولكن الإرهاب ليس الوجه الوحيد للتطرف والتشدد، وإن أدى وبرر كل منها للآخر، بل هو وفقط الصورة السائدة والمنتج الأخير له، ولكن التطرف تجلى في تعبيرات وتماثلات مختلفة بدءا من الفتاوى والتحريض، لحركات إعادة الخلافة والتكفير والعزلة والصدام الشعوري والمجتمعي، التي كان لها أيضا عظيم الأثر في إنتاجه خلال العقود الخمسة الأخيرة، وما زال بعضها يمارس السياسة ويدعي الاعتدال، لكنه يتفق مع تنظيمات الإرهاب في غاياتها، بل وخطاباتها وأوصافها لمعارضيها ومعارضيه بالصحوات والتكفير الديني والتخوين السياسي للأنظمة التي تناهضها أو أسقطتها، شأن حركة الإخوان المسلمين وموقفها من النظام المصري بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي حراك يونيو سنة 2011، ويصف إعلامها - قبائل سيناء بـ«الصحوات»، كما جاء في برنامج تحت عنوان «تسريب سيناء» في 20 أبريل (نيسان) الماضي، أذاعته قناة إخوانية تبث من تركيا - وهو التعبير الذي وصفت به «داعش»، أو «قاعدة العراق» سابقا، مناهضيها ومحاربيها من أبناء القبائل، بما فيهم تيار الإخوان نفسه الذي انصاع لخريطة الطريق الأميركية بعد سقوط صدام حسين، لكن بعض أصوات وإعلام إخوان مصر انتبهوا فقط لمصطلح «داعش» في وصف خصومهم دون ما وراءه، كما لم يدينوا بصراحة يوما أيا من ضحايا الإرهاب وعملياته، مكتفين والإعلام المساند لهم - كقناة «الجزيرة» القطرية - بتوظيف عمليات الإرهاب لصالحهم في نزع هيبة الدولة المصرية وشرعيتها وسعيا لإسقاطها.
من هنا نرى أن العمل الإرهابي ليس غير نتيجة أخيرة وغاية قصوى تؤدي إليها أفكار التشدد والغلو وتؤسس له أدبياته وآيديولوجياته، لتتجلى مقولاته وفتاواه وخططه في عمليات انتحارية أو عمليات دهس عدمية، وهو ما يوقد نزعات التطرف المضاد والإسلاموفوبيا التي عادت معدلاتها للارتفاع في السنتين الأخيرتين بدرجة أعلى من موجتها السابقة في السنوات الأولى عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
التطرف عزلة، والتشدد استعلاء، وليست الجماعات الأصولية والغلواء - قديما وحديثا - إلا جيتوهات مجتمعات صغيرة معزولة عن المجتمع الكبير، تعاني هم الهوية ورعب الخوف عليها، نافرة من سياقات الواقع والتاريخ.
مثل هذه التعبيرات التي صاغها الراحل سيد قطب لم تكن إلا ترجمة لمشاعره وطليعته المقاتلة التي تستهدف تحقيق الحلم والهدف الكبير في «الانقلاب» حسب تعبيراته وتعبيرات ملهمه الراحل الأستاذ المودودي، حتى يعود التاريخ عن حركته نحو المستقبل ماضيا، بل ويكون المستقبل محددا سلفا، رغم أن الغيب كتاب مفتوح لا يعلمه إلا الله، ويتطلب إعدادا وتوكلا وتدبيرا.
من هنا، تنتاب التطرف بارانويا التميز والرسالية والاصطفاء، فيرى في تحقيق انقلابه استئنافا لحياة المسلمين وللحياة الإسلامية بشكل عام، حسب تعبيرات تقي الدين النبهاني مؤسس «حزب التحرير»، الذي وقف حياة المسلمين على ضرورة استعادة «الخلافة»، التي هي شأن تاريخي غير إيماني وغير عقدي، التي ركز في استهدافها على الانقلاب وعلى استثمار مراكز القوى والقوة من أجل ذلك، دون اعتبار في ذلك منه أو من غيره من قادة الجماعات الأصولية والمتطرفة للأمة أو للشعب، فالديمقراطية دين يكفّر صاحبه المؤمن به أو الداعي له، أو من يجوّز حتى اقتباسها - حسب تعبير أمير «حزب التحرير» الثاني عبد القديم زلوم، أو تعبيرات غيره من قادة ومنظري السلفية الجهادية، مثل المقدسي وأبي قتادة أو منظري «داعش» بالطبع، فالديمقراطية عند هؤلاء جميعا دين يناقض دين الإسلام، واختيار الأمة يكون عبر الأوصياء عليها فقط ممن يحددهم قادة هذه الجماعات، ولو كانوا غفلا مجهولين عند عمومها أو عند غيرهم من الفصائل والجماعات، كما فعلت «داعش» وحدها حين أعلنت خليفتها وخلافتها، وهو ما انتقدها عليه منظرو القاعدة والسلفية الجهادية، فضلا عن سائر المسلمين.
ولعل المحاولة الفاشلة لتفجير الحرمين الجمعة الماضي دلالة على هذه العزلة التي يحيا داخلها المتطرفون وجماعاتهم، وقد سبقت مرات كثيرة استهدف الإرهاب فيها كذلك الحرمين ومساجد ومزارات مختلفة للهدف ذاته، ليس فقط في المملكة العربية السعودية، لكن في غيرها مثل استهداف المساجد والمزارات في العراق - سنية وشيعية على السواء - أو المعابد الدينية كالمعابد والكنائس في تونس وفي ليبيا وفي باكستان وغيرها خلال الأعوام الماضية.
* التطرف إعاقة للأمة تاريخياً
كان التطرف والغلو منذ أول ظهوره مع الفتنة الكبرى التي اشتعلت ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان إعاقة للأمة، مجتمعا ودولة، وخصما عنيفا من قوتها؛ فمع صحوته - أو فتنته - الأولى توقفت الفتوحات، وانتشر التكفير والتخوين وانقسم المسلمون وتفرقت فرقهم وشيعهم وكان فشلهم الذريع، وعطبت في عثرته الدعوة لدين الله، وركبه المستفيدون والمتآمرون من كل صوب وحدب فبلغوا فيه مبلغهم في إضرار المسلمين أو السيطرة عليهم واستهداف عقلائهم ورموزهم، فلم يسلم منهم البيت الحرام ولا الحجر الأسود، كما لم يسلم منه أمير المؤمنين علي وسبط رسول الله الحسين، ولم يسلم منه عبد الله بن خباب بن الأرت، ولا جنين كان في بطن زوجته... كما لم يسلم منهم مفسر كالطبري فقتلوه، ولا مجاهد كصلاح الدين استهدفوه، ولا وزير مصلح عالم ناصر للسنة كنظام الملك اغتالوه!
وكان الأثر والمعاناة عربيا وإسلاميا من ويلات الانغلاق وتيارات العنف الديني، كانت أسبق وأعمق بكثير من معاناة العالم الراهنة، فمعاناة منطقتنا بدأت مبكرا قبل عقود من عولمة الإرهاب، مع صعود القاعدة في تسعينات القرن الماضي، أو «داعش» خلال السنوات الأولى الماضية عقب زلزال الانتفاضات العربية، وكان خطابها النظري - القطبي والمودودي والنبهاني وغيره - الذي أسس لتيارات الانقلاب الإسلامي والمجابهة والتكفير فيما بعد حائط صد قويا في وجه موجات الحداثة والتحديث التي كانت وجدت طريقها قبله بعقود كذلك، فكانت مواجهتهم الحادة لكل تمكين للتعددية والمواطنة، وحقوق المرأة، وتعلم اللغات، وإقامة الحكم الرشيد، كما كانت مواجهتهم العنيفة لكل تجديد فكري ونظري يناقض مسلماتهم، من مدنية الدولة والقوانين إلى نقد مقولات الخلافة التاريخية أو العثمانية، أو الدعوة لتعليم البنات والترجمة والتثاقف وغيرها من أمور، ويمكننا أن نشير مثالا على ذلك إلى عشرات الحالات والأمثلة التي عانت من هذا التغول والتسلط الأصولي وقمعها، بدءا من علي عبد الرازق ومعركة «الإسلام وأصول الحكم»، مرورا بطه حسين ومعركة «في الشعر الجاهلي»، ووصولا لكل الحالات الشبيهة في حالنا الراهن والسابق.
كذلك، نجحت الانغلاقية الأصولية في وأد أفكار تحديثية مبكرة، نعود إلى بذورها الآن، لنبدأ من جديد، ويكفي أن نذكر أن بلدا كمصر عرفت حزبا يحمل اسم الحزب الديمقراطي سنة 1918، أو عرفت جماعة لحقوق البشر في عشرينات القرن الماضي، وأخرى للدفاع عن حقوق الإنسان في ثلاثينات القرن الماضي، وكانت تشهد حراكا ثقافيا أعظم مما تشهده الآن، بعدد مجلاته وإصداراته وترجماته، وكذلك تواصلا ثقافيا أعمق وألصق، وأسرع مما نشهده الآن في عصر الإنترنت والشبكة العنكبوتية.
عن هذا التواصل يكفي أن نذكر أنه في العقد الأول من القرن العشرين كنا نقرأ لكتّاب من الهند كأبي الكلام أزاد في مجلة كـ«المنار» المصرية، أو نقرأ افتتاحية جريدة «السياسة» اليومية بقلم الشاعر والفيلسوف العراقي الراحل جميل صدقي الزهاوي، وغير هذا كثير، مما تراجع حتى تلاشى مع الصعود الأصولي والانغلاقي الفكري والحركي ثم العنيف منذ ثلاثينات القرن الماضي على الخصوص، وتحديدا بعد الثورة الفلسطينية سنة 1935 التي أعطت للتيارات الماضوية والأصولية - شأن الإخوان المسلمين - شرعية الضور القوي والمقاومة وأزاحت من الواجهة كل دعوات الحداثة والتحديث ليسود الانغلاق والتراجع كل المساحات فيما بعد وصولا لثورات الضباط في الخمسينات وهيمنة الآيديولوجيات القومية الاندماجية والبعثية، وإزاحة كل مختلف وآخر عن الحضور، وهو ما تكرر شبه به كبير بعد الثورات العربية عام 2011 بفعل إصرار تيارات الآيديولوجية السلطوية والأصولية الانغلاقية على سرقتها والانفراد بغنائمها وحدها.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.