إذا كان التاريخ دليلاً يعتد به في محاولاتنا العبثية المستمرة لفهم الواقع - أقله عندما نتأمل خطوطه العريضة ودوراته الكبرى - فإنه يشير ودونما لبس إلى أن أياً من إمبراطوريات العالم القديم لم تقم على أسس من التفاهم والتفاوض السلمي، إنما دائماً على بحور من الدماء، وتحالفات شقية مع الموت. على أن تلك الإمبراطوريات البائدة جميعها كانت تُبنى على الإيمان بإمكان بناء غد أفضل، وتبرر أخلاقياً سلوكها الدّموي القاهر بوعدها بتحقيق سلام عالمي شامل مستقر، تعيش في ظله كل القبائل والأقوام المقهورة، وتوحّد الجميع في الخضوع لقانون روما أو بريسبوليس أو الباب العالي.
لكن تلك لم تعد الصورة ذاتها في راهن الأيام، فالإمبراطوريّة الغربيّة المعولمة السائدة، وإن قامت كما سابقاتها على ثلاثي الموت والقهر والدماء، لم تَعُد تَعِدُ أحداً بسلام عالمي، إذ هي استبدلت بالأمل الرعب، وبالاستقرار القلق، وبالإيمان التيه. وبدلاً من أن يكون الخوف بين رعاياها صفة مذمومة لوصف ضعاف القلوب، تحول إلى صفة الحكمة والتبصر، وإطار يحكم تعاطي البشر مع تجربة الوجود بمجملها.
لم يعد الخوف في الإمبراطوريّة المعاصرة حتى أمراً شخصياً، بل صار أداة مركزيّة أولى للسيطرة والتحكم بالكتل الشعبيّة: خوف لحظي ودائم من الإرهاب، والحروب العالميّة الطابع، وفقدان الوظائف، والديون المتراكمة، وتغيرات المناخ، وتحولات السياسة، وتصاعد الكراهيّة، وعودة أجواء التموضع الفاشي، وموجات المهاجرين المتلاحقة، وتفشي الأمراض المستعصية والأوبئة، إلى نهاية القائمة.
هذا المزاج المعقد من تراكم المخاوف الجمعيّة والفرديّة (والتداخل بينهما ديناميكيّة تغذّي كليهما بالطبع) يبدو أنه أفرز ظاهرة فريدة تكتسح عالم الروايات في الغرب، فيما يمكن وصفه بأنه زمان الديستوبيا (أدبيات تستشرف المستقبل بعيون متشائمة): استعادة غير مسبوقة لكلاسيكيات الديستوبيا القديمة، وانتعاش استثنائي للأعمال الديستوبية الجديدة، في إطار هستيريا جماعيّة لمواجهة الواقع، سمتها الأساسيّة اليأس والقنوط، والتحسّر على الماضي القريب الذي كان بمثابة مرحلة ذهبيّة مقارنة بما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل.
وقد تقاطعت عدة مصادر أدبيّة ونقديّة على رصد تكثّف جدير بالملاحظة لظاهرة الديستوبيا المستجدة هذه، تزامن مع مزاج الانعزال الذي يأخذ بناصية الغرب على جانبي الأطلسي، والذي تمثل في تصويت أكثر من نصف البريطانيين لمصلحة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وبعدها انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ولعل هذا يذكرنا بأن موجة الديستوبيا الأولى في الآداب الغربية («1984» لجورج أورويل، و«عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي، و«المواطن كين» لأورسون ويليس، و«لا يمكن أن يحدث ذلك هنا» لسنكلير لويس، وغيرها) إنما ترافقت ونتجت عن صدمة صعود الفاشية والأنظمة الشمولية في أوروبا خلال أواسط القرن العشرين، فكأن القنوط توأم الانعزال، لا يأتي أحدهما دون الآخر.
لكن هذا التماثل بين الموجة الديستوبية الأولى وتلك المعاصرة يتوقف ربما عند مناخات تصعيد هذا النوع الأدبي الشديد التشاؤم فحسب، إذ إن مراجعة سريعة للأعمال التي تتصدر أرقام مبيعات الروايات الصادرة حديثاً تُظهر سرديات لا تبدو وكأنها تصف أجواء مستقبليّة يستشرف أصحابها فيها تحولات الأزمنة، كما كانت الحال في روايات موجة الدستوبيا الأولى، بقدر ما هي وصف يكاد يكون شديد الدقة لأجواء من الحاضر الذي نعيش، حتى أنه يمكننا الادعاء بنشوء نوع أدبي جديد أشبه ما يكون بـ«ديستوبيا واقعية»، إن جاز التعبير.
مثلاً «حرب أميركية» لعمر العقاد، وهي رواية أولى لصحافي أميركي غطى غزو أفغانستان وعدة حوادث إرهابية، يصوّر فيها نشوب حرب أهليّة دمويّة داخل الولايات المتحدة في مستقبل قريب، حيث الطائرات بلا طيار أدوات للقتل، والتفجيرات الانتحاريّة، وسقوط وانحلال المجتمعات المحليّة، إضافة إلى التغييرات المناخية القاصمة والدمار المديني الواسع النطاق. العقاد يقول إنه لم يكن بحاجة إلى أعمال الخيال على نحو استثنائي لوضع حبكة نصه، إذ إن معظم ما في الكتاب نتاج خبرات حدثت فعلاً، وقد شاهد بعضها بأم عينه من خلال عمله الصحافي، وإنه رغم سعادته المطلقة بالإقبال الشعبي الواسع على كتابه، فإنه اعتبر أن ذلك دليل واضح على شدة الانقسام المجتمعي في الولايات المتحدة منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والمخاوف التي تعاظمت في صدور الأميركيين حول انسداد الآفاق، ونهاية الحياة الديمقراطية كنموذج للعيش.
رواية ليديا يكنافيتش «كتاب جوان»، التي بدورها حظيت باحتفاء شعبي واسع، تصف العالم بعد ربع قرن تقريباً، حيث كوكب الأرض قد أنهكته الحروب والتغييرات المناخية، فانسحبت نخبته الثريّة إلى الفضاء لتقيم داخل مجمع مغلق يدور في مدار حول الكوكب، ويحكمه نجم شديد الثراء تحوّل إلى ما يشبه ديكتاتوراً، بينما يستمر المجمع الطائر في امتصاص ما تبقى من خيرات الكوكب عبر الهيمنة على كتل الدهماء التي بقيت على الأرض. يكنافيتش صرحت بأنها لم تبتكر شيئاً جديداً في «كتاب جوان» بقدر ما جمعت قلق الإنسان العادي المتراكم من الحروب المستمرة، والمناخ المتردي، واستنفاذ موارد الكوكب لمصلحة نخبة صغيرة تزداد انفصالاً عن بقيّة البشر لتعيش في عالمها الخاص.
وزاكري ماسون في «نجمة فارغة» لا يبتعد كثيراً عن الصياغة نفسها. فالمستقبل يرسم وكأنه الآن هنا: تغييرات مناخيّة تحول أجزاء واسعة من الكوكب إلى مناطق غير مأهولة، بينما يزدحم بقيّة العالم في أحزمة بؤس ممتدة، ويعيش الأثرياء منعزلين بمجمعات مغلقة تحميهم فيها جيوش خاصة، ويتنقلون بسيارات مصفحة ذاتية القيادة، ويخضعون لعمليات طبية تجميلية وعلاجات لإطالة العمر وإدامة الشباب، بينما يتم التحكم بالعالم من خلال برمجيات ذكاء اصطناعي جبارة تتلاعب بعواطف الناس العاديين، وهذه كلّها أمور لا شيء منها على الإطلاق ما زال يقبع في عالم الخيال.
وحتى في ديستوبيا مايكل تولكن «إن كيه 3»، حيث يتسرب ميكروب من الترسانة العسكريّة الكيميائيّة لكوريا الشماليّة، ليتحول إلى وباء عالمي يستهدف ذاكرة البشر، فيفقدون هويّاتهم الذاتية، ويهيمون بلا غاية عبر الكوكب؛ فإن هذا السيناريو لا يبدو مستقبلياً بقدر ما هو سرد أحداث يمكن أن تقع اليوم قبل الغد.
هذه النماذج وغيرها كثير من الروايات المتشائمة لا تنافسها على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في الغرب سوى كلاسيكيات الديستوبيا الأولى، التي كانت عند صدورها تصف شكل المستقبل كما تخيله الروائيون قبل نصف قرن تقريباً، لكنها تحولت الآن إلى ما يشبه نبوءات عرافين ما لبثت أن تحققت.
«الحقائق البديلة» والأخبار الملفقة، وفق النموذج الأورويلي في «1984»، تحولت إلى عناوين أخبار يوميّة، بعد أن وظفت تلك المصطلحات كأسلحة في يد طاقم الرئيس ترمب لمواجهة معارضيه، ودفعت بمبيعات رواية أورويل الكلاسيكية لتصدر أرقام البيع على موقع أمازون لتجارة الكتب لعدة أسابيع متعاقبة. مثلها أيضاً رواية «حكاية خادمة» لمارغريت أوتوود، التي تعرض الآن في مسلسل تلفزيوني يحظى بمتابعة واسعة، وتقدم صورة قاتمة لمستقبل النساء في أميركا يحكمها تحالف الأثرياء والبيوريتانيين المتطرفين. كذلك «لا يمكن أن يحدث ذلك هنا» لسنكلير لويس، التي كانت نبوءة تحذير مبكرة (صدرت الرواية عام 1935) من أن الفاشية عندما ستأتي إلى الولايات المتحدة لن ترتدي صلباناً معقوفة أو قمصاناً سوداء، بل ستولد في قلب المجتمع الأميركي ذاته، على أيدي الرأسماليين الأثرياء في صيغة «أميركا أولاً» الشوفينية المقيتة.
الهروب إلى الديستوبيا، جديدها وكلاسيكياتها معاً، هو عَرَضٌ لتأزم الحياة المعاصرة دون شك، لكن ما يقلق في الأمر أن هذا الأدب كله لا يقدّم حلولاً، ولا يطرح عوالم ممكنة بديلة، بل يجزي أجل خدمة للنخبة المنتفعة من الأوضاع القائمة. إنه أدب يجمّل الحياة الشقية كما نعايشها في ظل العولمة والرأسمال، دافعاً بنا نحو الاعتقاد أنه نعيش أفضل عالم ممكن مقارنة بالأسوأ الممكن، وهو بذلك يحاصر المخيّلة في مساحات انحدار العيش وغياب الضوء، ويحرمنا من تصور يوتوبيا (طوباوية) بشريّة، ليس يمنع قيامها سوى هيمنة تلك النخبة بالذات.
الرواية في زمن إمبراطورية الخوف
«الديستوبيا» الغربية... من استشراف المستقبل إلى محاكاة الواقع
الرواية في زمن إمبراطورية الخوف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة