«داعش»... نقل نشاطه إلى الفلبين

أمام خلفية الخزان البشري... وإشكاليات التنوع والاختلاف والتشدد

«داعش»... نقل نشاطه إلى الفلبين
TT

«داعش»... نقل نشاطه إلى الفلبين

«داعش»... نقل نشاطه إلى الفلبين

أعلنت السلطات العراقية خلال الأسبوع تحرير مدينة الموصل من احتلال تنظيم داعش المتشدد، وذلك في الذكرى السنوية لسقوطها تحت احتلاله، وإعلانه فيها «دويلته» المزعومة. ولكن، بينما مُني التنظيم بنكسة كبرى في شمال العراق، وبات يواجه انحساراً كبيراً في مناطق سيطرته على الأراضي السورية، ولا سيما، معقله مدينة الرّقة، فإن امتداداته و«ذئابه المنفردة» ما زالت ناشطة في أنحاء العالم الأخرى. وبعد سلسلة الهجمات الإرهابية في عدد من المدن الأوروبية، يخوض مسلحو «داعش» معارك شرسة في جزيرة مينداناو، ثاني كبرى مدن الفلبين.
يبدو أن العالم على موعد مع فصل جديد من فصول «داعش»، في موقع وموضع آخر بعيد عن الشرق الأوسط والعالم العربي. فخلال الأيام القليلة المنصرمة نجح مسلّحو التنظيم المتشدد في الاستيلاء على مدينة ماراوي في الجزيرة الكبيرة الواقع في جنوب أرخبيل الفلبين. وللعلم، توفر هذه المنطقة مزايا كثيرة له ولمسلحيه. ذلك أنها من جهة تعدّ ملاذاً آمناً من الناحية الجغرافية بسبب قربها من دول آسيوية إسلامية كبرى، ومن جهة ثانية تقدّم الفلبين وما يجاورها من إندونيسيا وماليزيا نقطة جذب لخزان بشري حيث أكبر وجود إسلامي في شرق آسيا.
للوهلة الأولى يدرك الناظر للمشهد أن مخططات «داعش» الخاصة بالانتقال إلى جنوب آسيا وشرقها إنما جاءت كردات فعل بعد تعاظم الخسائر الميدانية التي لحقت بالتنظيم في الشرق الأوسط على أكثر من صعيد. وكما سبقت الإشارة أعلاه، بدأ في العراق العد التنازلي للقضاء على «داعش» في أعقاب طرده من قلب «المدينة القديمة» في الموصل، كما أن وضعه في سوريا ما عاد وضعه مريحاً مع اقتراب ما يتوقع أن يكون «معركة حسم» في الرّقة، بتعاون دولي ومشاركة أميركية بنوع خاص. أيضاً، في ليبيا وشمال أفريقيا يبدو التضييق على الميليشيات الداعشية سيد الموقف.
بناءً عليه بات البحث عن ميادين «لوجيستية» جديدة تزخم وتدعم الحضور الداعشي، هو ما يشغل الدواعش لنقل أساليبهم الوحشية إليها. وهنا، يتبادر إلى الأذهان السؤال: لماذا اختار القائمون على التنظيم جنوب شرقي آسيا، تحديداً، لانطلاقتهم الإرهابية الجديدة، ولم يختاروا أوروبا أو أفريقيا أو أي بقعة جغرافية أخرى حول العالم؟

الخزان الآسيوي البشري
في تقرير لها نشر أخيراً، ذكّرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» البريطانية بأن قارة آسيا تضم من المسلمين أكثر مما في العالم العربي. وعلى سبيل المثال فيها إندونيسيا، كبرى دول جنوب شرقي آسيا من حيث عدد السكان، إذ يقطنها أكبر من 250 مليون نسمة غالبيتهم العظمى مسلمون، وهي أيضاً أكبر بلد إسلامي في العالم من حيث عدد السكان.
على صعيد آخر، فإن غالبية دول جنوب شرقي آسيا تعاني من حالة تراخٍ أمني كبير، ربما لأنها لم تعهد مثل هذا النوع من الإرهاب الداعشي على مرّ تاريخها. ولهذا كان وما زال من اليسير على الدواعش استجلاب المزيد من العناصر الجديدة المتطرفة وتجنيدها لصالح التنظيم، وبالذات، من إندونيسيا.
والمؤكد أيضاً أن المنطقة الجغرافية التي نحن بصدد الحديث عنها تعد ذات أهمية استراتيجية كبرى للمصالح الاقتصادية الغربية. ووفق العقيدة الفكرية والقتالية لـ«داعش»، تعد هذه المصالح أهدافاً يسيرة في الوصول إليها وتحقق لـ«داعش» عوائد أدبية ومالية معاً.
ولعل «داعش» تدرك أن تلك المنطقة من آسيا، لا سيما، الفلبين تعاني من إشكاليات صراع هويات تاريخية وثقافية استغرقت أجيالاً كثيرة، مما يجعل اللعب على المتناقضات فيها أمراً سهلاً. وهذا ينطبق - تحديداً - على جزيرة مينداناو، كبرى جزر جنوب البلاد، التي شهدت تمرداً مسلحاً في الشهر الماضي. وهذا ما حدا بالرئيس الفلبيني المثير للجدل رودريغو دوتيرتي لاعتبار الأمر «تمرداً داعشياً بحتاً»، حسب تعبيره، لافتاً إلى أنه حذّر منذ وقت طويل، من قرب وصول «داعش» إلى بلاده.
أمر آخر يجعل من جنوب شرقي آسيا محل جذب لـ«داعش» هو سهولة التمويل عبر الحصول على أوال تجارة المخدرات. ومثلما موّلت «داعش» عملياتها في العراق وسوريا من النفط المهرّب وبيع الآثار، فإن تهريب المخدرات في جنوب شرقي آسيا يُعد الطريق الأيسر للتمويل. وثمة جهات غربية تتهم الشقيقين عبد الله وعمر ماوتي، اللذين تحمل اسمهما «جماعة ماوتي» (أو «دولة لاناو الإسلامية») التي بايعت «داعش»، بالتورط في هذه التجارة.
غير أن ما تقدم ما كان ليدعم نشوء وارتقاء «داعش» في جنوب شرقي آسيا عموماً، والفلبين بصفة خاصة، لو لم تكن هناك جذور فكرية متشددة هيأت تربة مناسبة تتقبل مثل هذا التشدد الذي تحول إلى التوحش في مرحلة لاحقة.

عن الأصولية في الفلبين
ما يتوفر من معلومات يشير إلى أن إشكالية التشدد في الفلبين - بوجهيه الإسلامي والمسيحي - لديها اتجاهان تاريخيان. ذلك أن الأزمة هناك قائمة بين الغالبية المسيحية الكاثوليكية والأقلية المسلمة منذ الاحتلالين الإسباني والأميركي للأرخبيل الفلبيني، وهما احتلالان أنهيا هناك حكم السلطنة الإسلامية، وأجبرا شعب المورو على الاندماج في الجمهورية الفلبينية الحديثة. والمورو مجموعة عرقية ودينية مسلمة تعيش في جنوب الفلبين، وعرفوا عالمياً في مسرح السياسة في أعقاب تأسيس أطلق عليه «جبهة تحرير مورو الإسلامية». وهو ما يعني أن الصراعات العرقية والدينية كانت حاضرة في الأصل، ولاحقاً أَضحت حاضنة جاهزة للصدام.
أما الاتجاه الآخر فتبدو إشكاليته أكبر من مجرد الخلاف والاختلاف بين الغالبية والأقلية وصراعاتهما. إذ تلقى عدد من قادة جبهة مورو الإسلامية علومهم الدينية في الأزهر الشريف خلال ستينات القرن المنصرم. وفيما بعد تأثر عدد منهم بأفكار وآراء أبو الأعلى المودودي، ثم سيد قطب، وبخاصة كتابه الأشهر «معالم على الطريق»، الذي غلبت عليه فكرة «الحاكمية» بالمعنى المعروف «ما الحكم إلا لله». وبالتالي، فإن كل الأنظمة الحاكمة الحالية «أنظمة كافرة «يتوجب إسقاطها ومحاربتها».
ولم تتوقف أرضية التشدّد في الفلبين عند هذا الحد. بل كانت الحرب الدائرة في أفغانستان خلال ثمانينات القرن المنصرم، منطلقاً آيديولوجياً لتأثر البعض هناك بأفكار أكثر تشدداً، واحتكوا هناك بجماعات خرج منها تنظيم القاعدة وجماعة طالبان. ومن ثم، بعد عودتهم إلى الفلبين غدت «خارطة التشدد» والتشدد المضاد أكثر حدة، مع العلم أن التنظيمات المتشددة تعرّضت للانشقاقات عدة مرات.

جماعة «أبو سياف»
كانت بداية التوجّه العملياتي المسلح في الفلبين على يد جماعة «أبو سياف» المتشددة التي انشقت عن «جبهة مورو للتحرير الوطني» عام 1991. ولقد أسس هذه الجماعة عبد الرزاق جنجلاني، المشهور بكنيته «أبو سياف»، وبعدما قتل عام 1998، تولى أخوه الأصغر قذّافي جنجلاني قيادة الجماعة بعده، غير أنها تفتتت في عهده إلى زمر متفرقة.
الخبراء يقدّرون تعداد جماعة «أبو سياف» ببضعة آلاف، ولا تختلف آليات أفرادها كثيراً عن آليات عمل «داعش»، بما في ذلك الاغتيال والخطف وابتزاز الشركات ورجال الأعمال الأثرياء في البلاد. ويضاف إلى ذلك، الإغارة على الجزر القريبة، واستهداف الأجانب، وخصوصا من الأوروبيين والأميركيين. ولقد نسب إلى الجماعة كثير من عمليات الخطف والهجمات بالقنابل التي وقعت عام 1998.

مبايعو «داعش»
مما تقدم، نلحظ أن فكر تنظيم «القاعدة» التي تبلوَر لاحقاً في العراق والشام فتحول إلى «داعش» كان حاضراً وبقوة في مدينة ماراوي، بجزيرة مينداناو الفلبينية. أكثر من ذلك، كان «أبو سياف» يسعى فعلياً إلى تأسيس «دولة إسلامية» في غرب الجزيرة (التي تعد ثاني كبرى جزر الفلبين بعد جزيرة لوزون التي تقع فيها العاصمة مانيلا، في شمال البلاد). وعلى هذا الأساس فإن تبني «داعش» فكرة «دولة الخلافة» كان لا بد أن يلقى صدى طيباً، وترحيباً كبيراً من الجماعات الفلبينية المتشددة.
في مقدمة تلك الجماعات «جماعة ماوتي» («دولة لاناو الإسلامية») وهي مجموعة منشقة من «جبهة مورو الإسلامية» وتضم عدة مئات من المقاتلين المتشددين، ثم تبعها تنظيم «أبو سياف» نفسه، بدليل مشاهدة أحد قادته السابقين إيسنيلون هابيلون في ماراوي أخيراً. ووفق التقارير فإن هابيلون مصنف في الولايات المتحدة كقيادي إرهابي ولقد وضعت واشنطن مكافأة مالية هائلة لمن يرشد عنه عليه، في أعقاب اتهامه بارتكاب جرائم قتل واغتيال، وكان من بين ضحاياه أميركيون.
عطفاً على ما سبق، ظهر تسجيل مصور من جزيرة مينداناو يظهر فيه عدد من قادة الإرهاب المحليين في المنطقة، يقدمون فروض الولاء والبيعة لزعيم داعش «أبو بكر البغدادي»، ويتردد أن عددها أربع جماعات. ولهذا فإن «داعش» روّج أخيراً لتقارير عن نشاطات زعم أنها للجماعات التابعة له في الفلبين، ويزعم «داعش» أن قواته هناك تضم عشر كتائب، وأن مسلحيه قتلوا نحو 300 جندي فلبيني منذ بداية المواجهات.

أزمة لإندونيسيا وماليزيا
تدفق المعلومات من الفلبين للعالم الخارجي ما زال في بداياته، لكن حتى تلك البدايات تقودنا إلى القول بأن «معركة ماراوي» أثبتت أن الفلبين باتت مكان جذب للراغبين في الانضمام إلى «داعش». ولقد ذكرت وزارة الدفاع الإندونيسية أن نحو 12 ألف مقاتل أجنبي ينشطون اليوم على الأراضي الفلبينية، ومن بينهم عشرات من الإندونيسيين. وتجدر الإشارة إلى أن المسافة الفاصلة بين ماراوي، ومناطق شمال أرخبيل إندونيسيا تقطع في خمس ساعات فقط. ولذا أفاد مصدر إندونيسي من قطاع مكافحة الإرهاب وكالة «رويترز» للأنباء أن السلطات الإندونيسية شدّدت المراقبة على المناطق الشمالية من جزيرتي كاليمانتان (بورنيو) وسولاويسي (سليبيز) لمنع توجه مقاتلين محتملين من السفر بحراً إلى جنوب الفلبين.
ولا يتوقف المشهد مع إندونيسيا، بل يتجاوزها إلى «جارتها» ماليزيا، التي هي أيضاً «جارة» الفلبين. إذ حدد رئيس وحدة مكافحة الإرهاب في الشرطة الماليزية أيوب خان أسماء عدد من الماليزيين، سافروا بالفعل إلى جزيرة مينداناو الفلبينية (التي تعادل مساحتها مساحة كوريا الجنوبية ويسكنها 21 مليون نسمة) وهدفهم الانضمام إلى المقاتلين المتشددين هناك. وأوضح أن بين هؤلاء محمود أحمد، المحاضر الجامعي الماليزي، الذي يُقال أنه من المتوقع أنه يتولى قيادة التنظيم في جنوب الفلبين إذا ما قتل هابيلون.
في هذه الأثناء، أشار اللفتانت كولونيل جو هيريرا، الناطق باسم الجيش الفلبيني، إلى أن كثيرين من المقاتلين المتشددين الأجانب جاءوا إلى ماراوي تحت ستار مهرجان إسلامي عقد في المدينة الشهر الماضي. وأحضر هابيلون معه عدة مئات، في حين أحضرت جماعتان أخريان هما «جماعة مقاتلي بانجسا مورو الإسلاميين من أجل الحرية»، وجماعة «أنصار الخلافة» في الفلبين المئات من جانب آخر.
وبالتالي، قد يصدق ما ورد على لسان مسؤول في جهاز الاستخبارات المركزية الأميركي (سي آي إيه)، حين ذكر أن فرع «داعش» في جنوب الفلبين، قد دعا أتباعه للإحجام عن الذهاب إلى سوريا، وأنه بدأ يستقطب عناصر من مناطق أخرى، فيما يبدو أن ثمة خطة جديدة للتنظيم لبناء شبكة جديدة له في جنوب شرقي آسيا، وتحديداً في جنوب الفلبين. ويعتقد على نطاق واسع، داعش يسعى الآن لزرع أتباعه في المناطق التي لا تخضع لسيطرة الحكومات المركزية.
من جانبه، يقول جوزيف شينونغ ليو، خبير الحركات «المتشددة الإسلامية» في جنوب شرقي آسيا، أن «داعش» ومؤيديه في جنوب شرقي آسيا يستخدمون الآن شبكات التواصل الاجتماعي بشكل متطور من أجل بث رسائله وتجنيد مقاتلين من المدارس الإسلامية في ماليزيا.

انتفاضة آسيوية
في أي حال، تخشى الدول الآسيوية من أن يضرب فيروس التشدد الإرهابي القاتل أنسجتها الاجتماعية المتماسكة، وتخاف من أن يؤدي الإرهاب إلى وقف نموها وازدهارها الاقتصادي الذي أدركته بعد عدة عقود خلت.
أيضاً، تدرك دول المنطقة أن «داعش» يعمل لجعل الهجمات الانتحارية «عملة» المنطقة وديدنها، إذ كشفت تايلاند عن معلومات استخباراتية أميركية تفيد باعتزام مقاتلين تابعين لـ«داعش» شن عمليات انتحارية في مناطق حيوية من البلاد، أما صحيفة «إل موندو» الإسبانية فأشارت خلال الأسبوع الماضي إلى أن خبراء أمنيين في سنغافورة حذّروا بقوة من الدمار الذي يمكن أن يجلبه «داعش» إذا تمكن من البقاء والنماء في الفلبين.
هل تحركت دول الجوار والدول الكبرى، بالفعل، كي لا تتكرر أزمة الشرق الأوسط مع «داعش»؟
يبدو أن الجواب إيجابي. فلقد أعربت روسيا عن استعدادها لاتخاذ ما ينبغي من إجراءات لمساعدة السلطات الفلبينية في مانيلا في حربها ضد «داعش»، بما في ذلك إرسال مستشارين عسكريين وآليات ومعدات عسكرية. وقد تجد موسكو في المشهد فرصة تاريخية لاقتسام النفوذ مع الولايات المتحدة، الحليف المتقدم للفلبين تاريخياً.
ثم تأتي الصين بعد روسيا في إدراكها خطورة انتشار «داعش» في آسيا، فهي تعرف أن الإيغوريين الترك قد تسربت منهم أعداد كبيرة إلى الشرق الأوسط، وعليه فإن «ولاية» لـ«داعش» في وسط آسيا ستكون مسألة قاتلة بالنسبة لبكين. ولذا أعلنت القيادة تأييدها عمليات الجيش الفلبيني ضد «داعش».
وطبعاً، لم تتغيب الولايات المتحدة عن المشهد، إذ أعلنت السفارة الأميركية في مانيلا أن قوات أميركية خاصة تساعد الجيش الفلبيني في عملياته المستمرة في ماراوي. والمثير هنا أن الصين، العدو التقليدي لأميركا في آسيا، رحبت بهذا التدخل «طالما أنه جاء على أساس رغبة الحكومة الفلبينية».
أما إندونيسيا وماليزيا، الدولتان المسلمتان الكبيرتان في المنطقة، فقد أعلنتا أنهما بصدد إطلاق دوريات جوية مشتركة هذا الشهر على حدودهما المشتركة في بحر سولو (غربي مينداناو وشمال بورنيو) بالإضافة للدوريات البحرية الحالية. وحثت السلطات في عموم المنطقة على تعزيز التعاون بين الدول لمكافحة تبعات المعركة المستعرة مع المتشددين الدواعش في جنوب الفلبين، في تحذير جدّي من أن التنظيم يؤسس قاعدة له في جنوب شرقي آسيا.

تأخر رد فعل واشنطن
في الأيام القليلة الماضية كان وزير الدفاع الأميركي الجنرال جيمس ماتيس يتحدث أمام الكونغرس، ووسط ذهول الأعضاء تحدث عن إلغاء إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عملية عسكرية أميركية طويلة الأمد لمساعدة القوات الفلبينية على احتواء خطر المتشددين قبل ثلاث سنوات. وفيما بدا تغيراً في توجه واشنطن إزاء انتشار «داعش» في آسيا، أضاف ماتيس: «يجب أن نعمل معاً لمنع هذا التهديد من النمو».
ولكن، في تقرير أخير صادر عن الاستخبارات الكندية، ثمة خلاصة غاية في الأهمية مؤداها أن «داعش» بأنماطه الجديدة لا ينمو إلا داخل بيئات تمزقها الخلافات العرقية والدينية، ما يسمح باستغلال الظروف الأمنية المتردية والمتعلقة بانتشار الميليشيات في البيئات المنقسمة على ذاتها «هوياتياً»، إن جاز التعبير. ولهذا، سيشكل الإرهابيون والمتشددون الدواعش تهديداً أمنياً لسنوات كثيرة قادمة.
من هنا يفهم الزحف الداعشي على مناطق فلبينية موبوءة بمثل تلك الثقافات العرقية والدينية المتعادية. ومن ثم، حتى إذا نجحت القوى الآسيوية الكبرى المحيطة بالفلبين في التعاطي عسكرياً مع إرهاب «داعش» فإن الإشكالية الداعشية لن تتبخر وتتلاشى. وهو ما يعزز الحاجة إلى تأطير فكري يجابه انتشار أفكارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.