الموضة شاهدة على ذاكرة وأحلام وتاريخ

جيل ليبوفسكي استقصى جذورها الثقافية في كتاب أصدره المركز القومي للترجمة

الموضة شاهدة على ذاكرة وأحلام وتاريخ
TT

الموضة شاهدة على ذاكرة وأحلام وتاريخ

الموضة شاهدة على ذاكرة وأحلام وتاريخ

عن الموضة، نشأتها وعالمها وثقافتها وفلسفتها وجنونها الدعائي، وأقنعتها التي قد تنقلك من طبقة إلى أخرى، أو تهوي بك إلى الحضيض، يدور هذا الكتاب الشيق «مملكة الموضة.. زوال متجدد»، للفيلسوف الفرنسي عالم الاجتماع الشهير جيل ليبوفتسكي، الذي ترجمته للعربية بسلاسة ممتعة وقدمت له الدكتورة دينا مندور، وصدر حديثاً عن المركز القومي للترجمة بمصر.
وتتساءل المترجمة، في تقديمها للكتاب، عن الدوافع التي تجعل فليسوفاً ذائع الصيت يهتم بموضوع هو من قبيل الرفاهية وترف الضرورة الإنسانية، لكن الأمر يبدو طبيعياً بالنسبة لفيلسوف اشتهر بكتاباته عن سلوكيات الإنسان في مجتمعات ما بعد الحداثة، ووصفها بـ«الحداثة المفرطة»، وكان ذلك محوراً مهماً في عدد من مؤلفاته، ومن أبرزها «زمن العدم» 1998، و«مجتمعات الإخفاق» و«السعادة المفارقة» 2006، و«المرأة الثالثة» 2012، وقد ترجمته أيضاً الدكتورة مندور، وصدر في السلسلة نفسها.
وينطلق الكتاب بصفحاته التي تربو على 300 صفحة من القطع الكبير من فكرة أساسية، مفادها أن تاريخ الأزياء لا ينفصل عن تاريخ المفاهيم والإشكاليات التي تسيطر عليها، فالزي لا يقتصر على المظهر الخارجي للإنسان، ولا على نزعة التنافس بأبعادها الطبقية، بين الغنى والفقر، وإنما هو تعبير عن رؤى وقيم ثقافية، تعبر عن الجديد، وعن شخصية الإنسان التي لعبت دوراً أساسياً في ظهور الموضة في أواخر العصور الوسطى. فقد ساهم كل هذا في التخطيط للمراحل الرئيسية لتنامي ظاهرة الموضة عبر مسارها التاريخي، حيث يرى ليبوفتسكي أنه في نهاية تلك العصور تحديداً، تجسدت كثير من العلامات التي تشهد على حالة الأخذ في الاعتبار غير المسبوقة للهوية الانطباعية لإرادة التعبير عن التفرد الفردي، وتمجيد الفردانية، وهو ما ظهر في كتابة يوميات ومذكرات، ظهر فيها الانشغال بهوية المتحدث في تعبير فردي، كما ارتفعت نبرة البوح الحميم، في الأعمال الشعرية والأدبية، واتسعت المساحة لظهور البيوغرافيا الذاتية والبورتريه الذاتي الواقعي.
ويؤكد الكتاب على هذه الفردانية، ويعزو إليها فكرة زحزحة التقليدي الثابت، في كل أوجه الثقافة والفن. وفي المقابل، دعم صيرورة الابتكار المستمر في الأشكال والأساليب، الأمر الذي مهد الأرض أمام الموضة لتنتشر بإيقاعات متسارعة، والركض وراء الاختلاف والمنافسة إلى حد الطيش والجنون، ما شجع على ظهور التعبير عن الأذواق المتفردة، والاستمرار في البحث عن علامات جديدة، تتجاوب مع صيحات الطبقة الراقية، وتلبي احتياجاتها ورغباتها، وهو ما انعكس بدوره على مناشط الحياة والفكر المعرفي بشكل خاص.
ويذهب ليبوفتسكي إلى أن صيرورة من إضفاء الأسلوبية على معايير الحياة والأذواق صاحبت التكثيفَ، وتسارع البحث عن متع الحياة نفسها، لافتاً إلى أن ظهور الموضة لا ينفصل عن الثورة الثقافية التي تبلورت في منعطف القرنين الحادي والثاني عشر، خصوصاً في طبقة الأمراء، ومع الإعلاء من قيم البلاط التي شكلت طفرة في الشعر بالرقة المرهفة، وأيضاً تحديث نموذج حياة الفرسان، أضيفت معايير أخرى إلى الاحتياج التقليدي للقوة، على رأسها معايير اللغة والصفات الأدبية، والعلاقة المثلى مع المرآة... فالموضة انبثقت من الجهد المتأني لحضارة الأخلاقيات والمتع، بالتوازي مع الولع بالأشياء الجميلة والأعمال الفنية.
ويتابع المؤلف موضحاً أن ظهور الأزياء في العصر الحديث بدأت فيه حقبة جديدة في الفنون الزخرفية التي انتشرت في كل المجالات، مثل فن العمارة والمنمنمات القوطية الأنيقة، وتغير ألوان الملابس للرجال والنساء، وفنون تصفيف الشعر للنساء، وغيرها من الأشياء التي انعكست على أساليب وطرائق العيش والحياة.
والطريف في هذا الكتاب الشيق أنه لا يتعامل مع الموضة كظاهرة عابرة، فهو يؤصل لنشأتها كظاهرة وحاجة فطرية بشرية، كما يرصد تطورها كأسلوب وعلم، يتقاطع ويشتبك مع كل مقومات الثقافة والفن والحياة. وعلاوة على كل هذا، ينظر إلى الموضة كمسرح تحولات لإغراءات الحياة، وهي إغراءات لها فلسفتها وجدلها الخاص، ويكمن هذا الجدل في أنها تزول لتتجدد، لتبقى شاهداً على ذاكرة وأحلام وتاريخ. كما يحلل المؤلف حيوية هذا الجدل من زوايا توغل الموضة في حياة الإنسان، فغوايتها لا تنفصل مثلاً عن غواية الحرية والديمقراطية، وإيقاعاتها معقدة ومتنوعة، بحسب طبيعة الدول والعصور، ومنظومة الأعراف والتقاليد الخاصة، فالموضات تتعدد بطبيعة المؤنث والمذكر، والظروف الملائمة لفكرة الاستمرار، وخلق فضاءات محتملة ومغوية لفكرة الجمالية التي تنشدها الموضة، من الأرستقراطية إلى الشبابية، وغيرهما من الطبقات.
ويركز الكتاب على الإعلام، مشيراً إلى أنه، بما يملكه من تنوع وجاذبية ودعاية، يشكل نقطة التقاء خصبة بين الثقافة والموضة، بين طابع احتمالي ونسبي تمثله الأولى وتقنيات دعائية، تؤثر في قلب الاستهلاك الثقافي، بداية من صناعة الكتاب والأغنية والموسيقى والفيلم، وما تحمل كل هذه العناصر من نشوة التحول والفروق الطفيفة، والمخاطرة في الاستمرارية أحياناً، من أجل توكيد ارتباط قد يكون لحظياً بين قيم الحداثة والتجريب، وهي قيم لا تخلو من التأثر بمعايير السوق المستهلك، فالكتب لا ينطبق عليها ما يرتبط بالسينما أو الأسطوانات، وهو ما يلخصه الكتاب قائلاً: «إننا نشهد هنا ظاهرة تدل على الزوال أكثر من أي وقت آخر».
ويشير الكتاب إلى أن خصوصية الإعلام تكمن في فردنة الضمائر، وتفريق الهيئة الاجتماعية التي لا تحصى، مؤكداً في هذا السياق على أن الأنظمة الثقيلة لا تكف عن فقدان سلطتها، خصوصاً «أن الإعلام أصبح عاملاً محدداً في سياق أنظمة الوعي الكبيرة التي تصاحب الثورة المعاصرة في المجتمعات الديمقراطية، ومن خلال منطق الحدث الواقعي، حيث لا يكف الإعلام بدوره في هذه المجتمعات عن الحد من تأثير التطلعات العقائدية، إنه يصطنع إدراكاً غريباً أكثر فأكثر عن التفسيرات الدينية للعالم، وهذا ليس فقط بواسطة الأخبار اليومية المقسمة والمتقطعة والدقيقة، لكن أيضاً بواسطة انحراف كل هذه الإصدارات، حيث يتدخل الخبراء، ورجال العلم، ومختلف المتخصصين، ويشرحون بطريقة بسيطة ومباشرة للجمهور الحالة النهائية للتساؤلات». وهنا، يلفت الكتاب إلى أن وسائل الإعلام تسير نحو ما يسميه «السحر المتميز» للموضوعية الوثائقية والعلمية؛ إنها تنسف التفسيرات الشاملة للظواهر لصالح تسجيل الأحداث، وتحويلها إلى وضعية سائدة.
ويتابع الكتاب، مؤكداً أن هذا يحدث، على الرغم من أن الآيديولوجيات الكبيرة تميل إلى التحرر من الواقع الفوري المفترض والمضلل، مستخدمة «قدرة المنطق التي لا تقاوم»، والإجراءات الصارمة للحسم، رداً على التفسيرات النهائية الناتجة عن المقدمات المطلقة، وذلك على عكس الإعلام الذي يقدس التغيير التجريبي، النسبي، العلمي، مستهدفاً قليلاً من التعليقات، كثيراً من الصور، قليلاً من التركيبات النظرية، كثيراً من الأحداث، قليلاً من الوعي، كثيراً من التقنية.
ويخلص ليبوفتسكي في هذا الصدد إلى أن زيادة البرامج والقنوات الفضائية الإعلامية، وفي ظل الاتساع الهائل في مملكة الموضة، لم تستطع بعثرة أذواق الأشخاص، وتحريك أهواء الاستقلالية الخاصة، ما يستدعي على الجانب الآخر طرقاً راديكالية معاكسة، بعيداً عن تقديم «الواقعية الملتهبة»، تحت منطق إغواء أو إلهاء الجمهور، مشيراً إلى أنه من أجل تعقب مشرق للعالم، لا بد أن تتجرد وسائل الإعلام من حظوة روح النظام، لكي تشيع حساسية الجمهور للرؤى المجمعة للعالم، وظهور روح واقعية منفتحة، مأخوذة بالوقائع، بالمباشر، بالتجربة المعاشة، حتى لا تختلط بالشهوة البراقة المخادعة للإعلام، في فضاء موضات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية لا تخلو من توجهات آيديولوجية معينة تعوق فكرة الحرية، وكما يقول الكتاب: «لو تكلمنا قليلاً في الملاهي الليلية، لا يعني ذلك أنه ليس لدي الناس ما يقولونه لبعضهم، بل يعني رغبة متزايدة في إطلاق مكبوتاتهم، في الشعور بأجسادهم، في التحرر من القوانين الجبرية للخرافة، والتبادل البين إنساني».



قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»
TT

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

مرت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الأصعدة، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع. في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في دول الخليج تنوّعت قراءات المثقفين والكتاب ما بين القراءات الشعرية والروائية، مع انفتاح على التجارب الأدبية في العالم العربي، ومقاربات للأعمال التي رصدت التجربة الحداثية وتأثيراتها، وكذلك التجارب النسوية في الرواية والسيرة الذاتية، وبينها كتب في الفكر والفلسفة والتاريخ الاجتماعي.

 

باسمة العنزي: ثوب أزرق وقبيلة تضحك ليلاً!

 

من الكويت، تقول الكاتبة والروائية الكويتية باسمة العنزي: سنة عاصفة مليئة بالأحداث المحبطة والأخبار البائسة! القراءة بدت فيها كاستراحة من لهاث متابعة أخبار الحروب وتردي الأوضاع وانحدار البشرية السريع. المفرح وسط كل هذا أن يقع بين يديك أعمال مبهرة هي الأولى لأصحابها!

قرأت للكاتبة السورية الكردية هيفا نبي «ثوب أزرق بمقاس واحد» الصادر عن دار «جدل» عام 2022، وهي رواية كتبت على شكل مذكرات، تناقش موضوع اكتئاب ما بعد الولادة بسرد جميل ونبرة أنثوية تغلغلت لتفاصيل عالم الأمومة الجديد لدى شابة مهجّرة من مدينتها بسبب الحرب. سرد شفاف يحلّق نحو ذات وحيدة تجتاز أزمتها عبر البوح. وهو عمل - للأسف - لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام وانتشار رغم تجلي موهبة الكاتبة وتمكنها اللغوي وقدرتها على اقتناص الحالات النفسية ووصفها بكل تدرجاتها.

أما العمل الثاني فهو للكاتب السعودي سالم الصقور «القبيلة التي تضحك ليلاً» الصادر عن دار «مسكيلياني» عام 2024، وهو أيضاً يتناول موضوعاً جديداً في الرواية العربية عن عدم القدرة على الإنجاب في مجتمع قبلي معاصر، العمل مكتوب بلغة شعرية فذة وبنظرة فلسفية عميقة تضع تحت المجهر مفاهيم مثل الأمل والحرمان وخسارات الحياة القسرية. نوفيلا مكتنزة تدور أحداثها في نجران ليوم واحد يتحدد فيه مصير أبوة البطل المنتظرة!

هيفا نبي وسالم الصقور جاء عملاهما كإضاءة مبشّرة بالكثير في عالم يفقد دهشته ويخفت فيه صوت الحكمة، وقرأتهما في عام شحّت فيه الأشياء المدهشة!

 

د. عبد الرزّاق الربيعي: عودة لعبد الوهاب البياتي

ومن سلطنة عُمان، يقول الشاعر الدكتور عبد الرزاق الربيعي: كتب كثيرة قرأتها هذا العام، والبعض أعدت قراءته، وفق نظرة جديدة أكثر نضجاً، وتمحيصاً، وتذوّقاً، كالأعمال الشعرية لعبد الوهاب البياتي، والذي حفّزني للعودة إليها كتاب صدر عن دار «أبجد» هذا العام ضمن فعاليات مهرجان بابل العالمي للثقافات والفنون والإعلام (دورة 2024)، حمل عنوان «عبد الوهّاب البيّاتي... دراسات وشهادات وحوارات»، حرّره وقدّم له د. سعد التميمي. في بادرة ولمسة وفاء تُحسَب لرئيس المهرجان د. علي الشلاه.

وتأتي أهمية الكتاب كون محرّره د. التميمي، أستاذ النقد والبلاغة بالجامعة المستنصرية، وجّه دعوة ضمنيّة لقراءة البياتي، والكشف عن دوره الريادي، وفحص نتاجه من قبل النقاد الذين صرفت غزارة إنتاجه الشعري أنظارهم عنه، فهذه الغزارة بنظر د. حاتم الصكر «لم تدع فسحةً لقراءة نصيّة مناسِبة، فكثير من منتقدي سيرته السياسية اتبعوا ما أشيع عنه دون تمحيص؛ إذ لم يضعه الشيوعيون العراقيون - كما يشاع - محل السياب حين ارتدّ عنهم، لأنهم ليسوا بحاجة لشاعر، ومعهم مثقفوهم وأدباؤهم، كما أن البياتي ينتهج فكراً يسارياً قبل اصطفافه نصيراً للفكر اليساري التقليدي، وقد عزا ذلك - حين كتب (تجربتي الشعرية) - إلى ما كان يرى وهو صبي، من مظالم ومآسٍ تحيق بالمشردين والفقراء والنازحين للمدينة، وهو يراهم حول مزار الصوفي عبد القادر الجيلاني بوسط بغداد، حيث ولد البياتي ونشأ». وقد شارك في الكتاب كل من: د. حاتم الصكر، ود. بشرى موسى صالح، ود. خالد سالم، ود. محمد عبد الرضا شياع، ود. أناهيد الركابي، والشعراء: علي الشلاه، وهادي الحسيني، ومحمد مظلوم، ومحمد تركي النصار، ود. عبد الرزاق الربيعي، واشتمل على دراسات وشهادات وحوارات مسلطاً الضوء «على الإرث الشعري الذي خلّفه البياتي، وإسهاماته في تحديث القصيدة العربية، ورؤية البياتي للشعر، والحداثة وموقف الشاعر من السلطة والحرية، فضلاً عن تقنية كتابة القصيدة، وفاعليته في الوسط الثقافي».

قسّم التميمي الكتاب إلى ثلاثة فصول: تضمن الأول دراسات وقراءات، والثاني شهادات وذكريات، والثالث حوارات. وقد احتل الفصل الأول مساحة واسعة؛ إذ ضم سبع دراسات هي: القصيدة... المنفى... الموت... مفردات في تجربة البياتي الشعرية، للدكتور حاتم الصكر، وهالة الأسطورة في شعر عبد الوهاب البياتي، للدكتورة بشرى موسى صالح، والمتعاليات النّصّيّة في شعر البياتي، للدكتور محمد عبد الرضا شياع، والتجربة الإسبانية لدى البياتي، للدكتور خالد سالم، والبياتي من فلسفة الرفض إلى استشراف الرؤية، للدكتور سعد التميمي، ومركزية الهامش في شعر البياتي، للدكتورة أناهيد الركابي، ومجد الشعلة الخالدة الآخر في مرآة البياتي الشعرية، لمحمد تركي النصار.

أمّا الفصل الثاني، فقد ضمّ ثلاث شهادات حملت العناوين: «رجاءً عدم الجلوس... عبد الوهّاب البيّاتي قادمٌ بعد قليل» لعبد الرزاق الربيعي، و«في ذكرى البياتي» لهادي الحسيني، و«البياتي وسنواتنا في عمّان» للدكتور علي الشلاه.

وخُصّص الفصل الثالث لحوارات أجريت مع البياتي، وقد تناولت الدراسات الأثر الذي تركه البياتي ليس فقط لدى الشعراء العرب، بل تجاوز ذلك إلى الإسبان، خلال إقامته بمدريد في الفترة (1980-1990).

لقد أعاد هذا الكتاب لنفسي شغفي بقصيدة البياتي، التي تأثّرت بها في بداياتي مطلع الثمانينيات، فوفّر لي فرصة العودة للمنابع الشعرية الأولى.

 

عبد العزيز الصقعبي: أيام الغزو وسير النساء الذاتية

ومن السعودية، يقول الروائي والمسرحي السعودي عبد العزيز الصقعبي: أنا متفرغ حالياً للقراءة والكتابة، فالكتاب وجبة يومية، من الصعوبة تركها، والجميل في زمننا هذا هو سهولة الوصول للكتاب، ورقياً أو إلكترونياً، الحصة الأكبر من قراءاتي دائماً الرواية والقصة ثم الشعر والمسرح، إضافة إلى الكتب الفكرية والدراسات المهمة.

ربما - وأنا أتحدث عن نفسي كروائي - يرد في ذهني أمر ما - ربما وليس أكيداً – أتناوله في مشروع روائي؛ لذا أكثف قراءاتي حول ذلك الموضوع، أطرح لكم بعض الأمثلة «أيام الغزو... يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت»، وهي يوميات للفنان التشكيلي إسماعيل شموط؛ حيث كان لدي اهتمام بتلك الفترة التي لم تؤثر على الكويت فقط، بل على كامل المنطقة وبالأخص المملكة، بالطبع قرأت عدداً من الروايات والكتب حول ذلك ومن أهمها السباعية الروائية «إحداثيات زمن العزلة» للروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، على الرغم من كل الكتابات فتلك الفترة تحتاج إلى مزيد من الكتابة.

وحقيقة من الصعوبة سرد بقية أسماء الكتب التي قرأتها، فهنالك مثلاً روايات، تكون مقبولة وأنتهي منها عند آخر صفحة، ولكن لا تبقى في الذاكرة ولا تشجّع على قراءتها مرة أخرى ناهيكم عن كثير من الكتب وبالذات النصوص السردية التي لا أستطيع إكمالها، اللافت في 2024 دخول عدد من السير الذاتية النسائية في دائرة قراءاتي، بدأتها بسيرة «السنوات» الحائزة جائزة نوبل (أني إرنو)، وبعد ذلك أجد نفسي أمام سيرتين متشابهتين وفي الوقت ذاته مختلفتين؛ «حد الذاكرة» لعائشة محمد المانع، و«حياتي كما عشتها... ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» لثريا التركي، وبكل تأكيد هنالك قائمة طويلة أحتفظ بها لنفسي، من الكتب التي قرأتها أو سأقرأها، أو أتصفحها ربما تشدني للقراءة.

 

كاظم الخليفة: الأدب السعودي والعلاقة بين الأدب والفلسفة

ويقول الكاتب والناقد السعودي كاظم الخليفة: كان مشروعي القرائي لعام 2024 هو استكشاف الأفق الإبداعي للكتاب السعوديين، الذي أتاحه المرور على عناوين وتصفح بعض إصدارات مشروع «1000 كتاب» الذي تقوم عليه دار «أدب للنشر والتوزيع» بدعم من الصندوق الثقافي السعودي، وكذلك قراءة «كتاب أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» - الجزء الثاني - ذلك المشروع الرائد الذي قام بجهد شخصي من الأديب والقاص خالد اليوسف؛ لإبراز المشهد السردي السعودي المعاصر ومدى تقدمه من خلال ممارسة التجريب وتنوع الأدوات السردية. والثالث، كان المشروع الآخر للشاعر عبد الله السفر «رمال تركض بالوقت» الذي كان برعاية من مركز الملك عبد العزيز الثقافي «إثراء»، وهو عبارة عن مختارات لنصوص شعرية تختص بقصيدة النثر السعودية بغية ترجمتها للقارئ الفرنسي.

تعرض تلك الكتب جانباً مهماً من حراك الأدب السعودي المعاصر الذي يتطلب الكثير من الدراسة والتأمل، لكن الانطباع العابر يمكن استخلاصه في أن القصيدة الكلاسيكية السعودية تحاول تجديد ثوبها من خلال جعل «ذات» الشاعر بهواجسه وأحلامه أحد مواضيعها المهمة. أي أن الدافع الذاتي للكتابة، واتخاذ القصيدة وسيلة فضلى للتفكير، قد عمل على تقليص المساحة الكبيرة التي كان يحتلها شعر «المناسبات» في دواوين الشعراء.

والانطباع الثاني عن مستوى التقدم في كتابة قصيدة التفعيلة، التي لم تتقدم وتكتسب نسبة وازنة في دواوين الشعراء المعاصرين بشكل ملحوظ. أما ملمح قصيدة النثر الحديثة فنجد بروزاً لموضوع «الميتاشعرية»؛ حيث سؤال القصيدة ومحرضات كتابتها وجدواها. وفي كلا الجنسين الشعريين: الكلاسيكي والنثري، نلحظ فيهما تجاوز الشواعر النساء أزمة «النِّسوية» وبالتالي الكتابة بروح الأنثى المدركة لكينونتها.

في السرد، نلحظ نمواً لجنس القصة القصيرة جداً واقترابها - في بعض التجارب - من شذرات قصيدة النثر. وما يخص جنس القصة القصيرة، فيمكن ملاحظة أنها اتجهت نحو التنوع - بشكل واضح - في مواضيعها، مع تناول أكبر بالتركيز على الجوانب الوجودية والأزمات النفسية لشخوص حكاياتها. أما الرواية، فيمكننا رؤية اجتذابها للكتاب الشباب بإنتاج متلاحق لبعضهم؛ حيث يفصل بين كل عمل روائي وآخر أقل من عام.

مجال القراءة الحرة كان من نصيب كتب مميزة في بابها، وإن لم تبتعد كثيراً عن الأدب. ولعل أبرزها كتاب حديث للناقد الفرنسي كاميل ديموليي «الأدب والفلسفة... بهجة المعرفة في الأدب» الذي يُعتبر من أواخر من دخلوا في حلبة الصراع والجدل - منذ أفلاطون – عمّن هو الأجدر بتمثيل «الحقيقة»؛ الأدب أم الفلسفة، وكذلك عن طبيعة العلاقة الملتبسة بينهما. ففي هذا الكتاب يستعرض ديموليي الجدل القديم/الجديد عن علاقة الفلسفة بالأدب، ويحاور فيه جميع آراء الأدباء والفلاسفة البارزين، ابتداء بأفلاطون وسقراط، وانتهاء بنيتشه وهايدغر، ثم في خاتمة الكتاب يميل إلى الرأي الذي يقول إن «فكرة الفلسفة هي الأدب»، وذلك بمعنيين: أولاً أن الأدب هو فكرة الفلسفة، أي أنها إبداعه أو ابتداعه؛ ثم إنها مدار دراسته. وهكذا صار الأدب في نتيجته هو منبع الأفكار الفلسفية، وأنها تعود فيه وكأنها تعود إلى أصلها المنسي، كما يقول. بل إن نيتشه والتيار الرومانسي حاولا إعادة الفلسفة والأدب إلى أصلهما الشعري، بصفته نشاطاً خلاقاً؛ حيث الفلسفة - من وجهة النظر هذه - يمكن أن تكون ضرباً من الشعر المتحجر؛ أي خطاباً بواسطة الصور والمجازات.

 

حمد الرشيدي: بين البردوني والأفلاج والزلفي

من الرياض، يقول الشاعر والروائي السعودي حمد حميد الرشيدي: كثيرة هي الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، وكتبت بعض انطباعاتي الشخصية لما قرأته منها، وهي كتب تُعنى بالأدب والشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسات النقدية، وقرأت بعض الكتب التي أثارت اهتماماً من قبل القراء أو النقاد... ومن الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، كتاب «المكان في شعر البردوني» للدكتور خالد اللعبون، وهو دراسة موضوعية تحدث فيها الكاتب عن ظاهرة اكتناز شعر الشاعر العربي اليمني الكبير عبد الله البردوني (رحمه الله) بالمكان وجغرافيته وارتباطه الحسي والمعنوي بالإنسان.

وفي مجال أدب الرحلات، قرأت كتاب «الأفلاج كما رآها فيلبي» وهو من تأليف عبد العزيز المفلح الجذالين. ويتحدث فيه مؤلفه عن أهمية مدينة الأفلاج عبر التاريخ وما ذكره الرحالة الإنجليزي المعروف عبد الله فيلبي عن هذه المدينة عندما زارها زيارة ميدانية سنة 1918م.

وفي مجال علوم التاريخ والاجتماع، قرأت كتاب «الكويت والزلفي» لمؤلفه حمد الحمد، وهو يتحدث عن الصلات التاريخية والاجتماعية بين بعض العوائل والأسر العربية ذات العوامل المشتركة في الاسم والنسب والأرومة في كل من الكويت ومدينة الزلفي.

وفي الفكر والفلسفة، قرأت كتاب «الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها» للدكتور أمين أحمد زين العابدين، وهو كتاب تطرّق فيه المؤلف للحضارة العربية والإسلامية عبر التاريخ وما مرت به من مراحل وتغيرات عبر الزمن وأثرها وتأثيرها في الحضارات الأخرى.

وفي العلوم، قرأت كتاب «في تاريخ العلوم» للدكتور عبد الله محمد العمري، وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم عند العرب القدامى حتى العصر الحديث، وأهم الاكتشافات والاختراعات التي قام بها العرب والمسلمون منذ القدم، ثم تم نقلها عنهم للشعوب الأخرى التي قامت بالاستفادة منها وتطويرها في الوقت الحاضر.

جمانة الطراونة

 

جمانة الطراونة: من «أشجار الكلمات» إلى «غيم على سرير»

الشاعرة الأردنية المقيمة في مسقط (سلطنة عُمان) جمانة الطراونة، تقول: أميل إلى قراءة كتب المختارات الشعرية، كونها تعطي فكرة عن التجارب الشعرية المتحقّقة، وضمن هذا السياق، قرأت كتاب «أشجار الكلمات»؛ وهو مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ. اختارها وقدم لها: حاتم الصكر، وحسن ناظم، وناظم عودة. وصدر عن دار «صوفيا» للنشر والتوزيع في الكويت، ومما علق في ذهني قوله:

«في الليلِ

أرى شخصاً آخرَ

لا أَعْرِفُـهُ

يَتَعَقَّبُني

فأغذُّ خطايَ،

وأسرعُ

أسمَعُهُ يتوسّلُ خلفي:

– اصحبْني ظلاً

فأنا أخشى أنْ أمشي منفرداً في الطُرُقاتْ».

أما أحدث كتاب قرأته هذا العام من كتب المختارات فهو كتاب «غيم على سرير» وقد ضمّ بين دفتيه مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي، وقد صدر عن دار «شمس» للنشر والإعلام، بالتعاون مع بيت الشعر ببغداد، والنصوص من اختيار الشاعر عماد جبّار، وقدّم لها د. سعد التميمي، الذي قال: «ينفرد الشاعر عبد الرزاق الربيعي من بين شعراء جيل الثمانينات باتّساع تجربته الشعرية وعُمقها وتنوعها، وهو الحاضر باستمرار في الساحة الشعرية والقادر على الانتقال من منطقة إلى أخرى مجدِّداً في القصيدة على مستوى اللغة والأسلوب والمعالجة والمفارقة، كاشفاً ما يحمله من عمق معرفي يتجلى في تناصّاته المتنوعة، (...) فهو القادم من صومعة الشعر حاملاً الوطن المثخن بالجراح والألم وصور الخراب والموت التي يختلط فيها الدم بالدموع»، وعلى الغلاف الأخير للمختارات كتب د. حاتم الصكر شهادة حول تجربة الربيعي، وقد قرأت ديوان الصكر «الهبوط إلى برج القوس» الصادر عن دار «أرومة للدراسات والترجمة والنشر»، وأبحرت مع عوالم الفقد، وأحزان غربته، التي يسرّبها عن طريق الشعر الذي يعتبره ملاذه الأخير ويستثمر الموروث الرافديني حين يرسم «بورتريهات» لعدد من أصدقائه كما في «خُطى جلجامش» التي يهديها إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي.