«سماء قريبة من بيتنا»... تقاطعات المآسي والبهجات

في مجملها سيرة ذاتية لكاتبتها شهلا العجيلي

«سماء قريبة من بيتنا»... تقاطعات المآسي والبهجات
TT

«سماء قريبة من بيتنا»... تقاطعات المآسي والبهجات

«سماء قريبة من بيتنا»... تقاطعات المآسي والبهجات

في رواية شهلا العجيلي «سماء قريبة من بيتنا» كثير من المآسي وحكايات الموت، لكن فيها أيضاً كثير من بهجات الحياة وجمالها. المأساة السورية تفرش ظلالها على الأحداث، سواء حين تأخذنا الراوية، جمان بدران، إلى قلب الأحداث، وما حل بالبلد والناس نتيجة لحروب الطوائف والجيوش والإرهاب التكفيري ضد الحكومة، وضد بعضهم بعضاً، أو حين تنقل لنا صورة لمخيمات اللاجئين في الأردن، أو حين تضغط تلك الظلال على حياة الأفراد الذين بقوا والذين خرجوا، ومنهم جمان نفسها. لكن مفارقة الفن لا تبتعد كثيراً، بل هي حاضرة تتخلل عملية السرد بصور مناقضة، ترسم فيها الكاتبة من خلال راويتها صوراً للحياة اليومية في منزل الأسر في حلب أو في الرقة، حيث نكاد نتذوق الأطباق، ونلمس المفارش وسطوح الرخام، حيث نرى تعاملات الناس وخبايا مشاعرهم، في وصف تفصيلي بديع يخفف كثيراً من حدة الألم المنبعث من أماكن أو فترات زمنية أخرى، بعضها مضى والبعض الآخر حاضر أو آتٍ.
اختيار الكاتبة للعلاقة بالسماء في عنوان الرواية يلقي بظلال أخرى تسهم في إزاحة هموم المآسي السورية، سواء أكانت الآتية من الذاكرة أم من الحاضر. تلك العلاقة ليست أحادية أو سكونية: هي إيمانية حيناً، يعتريها خوف وقلق وتساؤلات مرة حيناً آخر، بل هي مشوبة غالباً بالقلق والتساؤل.
وإذا كان السيميائيون أو العلاماتيون يقولون إن العنوان هو العتبة الأولى للنص، فإننا هنا أمام عتبة هائلة لبيت الحكاية، عتبة تفعل فعلها إذ تشحننا بتحري الدلالة: ما علاقة السماء بما يجري؟ وماذا يعني أن تكون السماء قريبة؟ ليس في الرواية كثير من الضغط على هذه الدلالة، لكنها حاضرة حيناً، ومتوارية حيناً آخر. حين تذهب جمان إلى مخيم اللاجئين، بوصفها موظفة تستطلع أوضاع الناس هناك، نجدها تستعيد من الذاكرة ما كانت تقوله أمها لها ولأخواتها في بيت الأسرة في سوريا، تستعيد ذلك وهي تستلقي قرب إحدى الخيام لتضع إيمان الأم الواثقة من قرب الله إلى جانب تساؤلات الأطفال البريئة عن إمكانية الوصول إلى السماء. وفي ختام الرواية، تعود السماء قريبة إثر مواجهة أخرى للموت، حين تموت الشابة «هانية» في الطائرة الماليزية التي اختفت: «السماء هنا قريبة جداً، ولا تحتاج إلى سلالم أو حبال». لكن ماذا يعني قرب السماء؟ هل هو تأثيرها أم هي عنايتها؟
هذا السؤال، وما يتصل به من أسئلة وجودية، تواجهها الراوية جمان وهي تتمثل المآسي من حولها، سواء كانت مآسي المجتمع أم مآسي الأفراد، إلى أن تواجه مأساتها هي، حين تكتشف أنها مصابة بالسرطان، الاكتشاف الذي يلقي بها وبالقارئ معها في دوامة مخاوف وقلق الموت المحتمل.
الرواية في مجملها سيرة ذاتية لجمان، لمكابداتها وبهجاتها، من حيث تختزل تلك المكابدات والبهجات ما هو أكبر وأوسع منها، حين تتغلب المواجهة مع المرض والشتات، ويعلو أنين الفقد، تتساءل جمان: ماذا فعلت لكي أعيش هذا كله؟ تتساءل المرأة السورية التي تعيش النفي، ويضاف إليه الآن مستقبل يغص بآلاف الليالي الموحشة، كما سبق للشاعر السوري محمد الماغوط أن قال. يتضح فيما بعد أن تلك الليالي أقل عدداً من ذلك، حين تشفى الراوية، وإن كان شفاؤها مما يصعب وصفه بالنهائي في مواجهة السرطان. لكن رحلة المرض من الاكتشاف حتى العلاج الكيماوي وتبعاته لفترة تقارب العام ونصف العام تمثل مرحلة متأزمة، في القصة وفي تلقيها معاً، وعلى القارئ أن يتهيأ لتلك الرحلة الممضة، ولكن الإنسانية في نهاية المطاف، الرحلة التي تسردها شهلا العجيلي باقتدار فني مثير للإعجاب.
في سردها لمرحلة المرض، كما في سردها لمأساة المدن السورية، ثم معاناة اللاجئين، توظف الكاتبة لغة تخفف كثيراً من عناء الدلالات المرهقة. وحين تضيف إلى تلك اللغة استطرادات سردية تصور حياة عدد من الأشخاص القريبين من جمان بدران، أخواتها ومعارفها، إلى جانب حكاية ناصر، صديقها الذي يضرب مثلاً استثنائياً في الحب والحنان في أحلك اللحظات، حين تضيف العجيلي ذلك فإنها تخفف بمتع القص، وتفاصيل الأجواء والأماكن والأحداث، ما يهدد بإثقال القصة بكآبة المرض ومرحلة العلاج. ومن الناحية اللغوية أو الأسلوبية، تتكئ العجيلي على سلاسة وعذوبة في بناء الجمل، وانتقاء المفردات لا تتوفر لكثير من الروائيين الذين أعرف. خذ مثلاً توظيفها للتشبيه حتى في عمق وصفها لأثر الكيماوي على جسدها:
«يضعون رأسي في قناع معدني واقٍ، أعدوه حسب مقاساتي مسبقاً، يغلقونه بإحكام، فتصدر عنه قعقعة، وأغمض عيني فلا أرى تفاصيل غرفة التصوير الواسعة، وأتنفس من فتحتي الأنف مجاهدة الثقل في أنفاسي، الذي سيخف يوماً فيوماً، وأبدو مثل فارس من القرون الوسطى قد استعد لمعركة. يخرج الجميع، يطفئون الأضواء، ويتركوني مسترسلة في صلاة، بعيدة عن جسدي، أخلد في ظلمة عميقة مثل جنين داخل رحم غريب، لا يحمل أية أسئلة، أو مثل بذرة في باطن الأرض تبدأ بالإنبات حيث لا يراها أحد».
من كوميديا صورة الفارس تنقلنا الصورتان الأخريان إلى دراما الحياة المحتملة والمؤملة لدى مريضة تواجه احتمالات الموت الماثل في مكان يزدحم، حسب تعبيرها الشعري، «بسكان السماء المحتملين». وإلى جانب ذلك، تزدحم الصور بحكايات الحب، ما يربط جمان بناصر، وهانية بيعقوب، ما يحمل إيحاءات من الحميمية المضمخة بغير قليل من الشبق الذي يختلط بالألم والمعاناة، فتنتج تلك التقاطعات التي لا تتولد إلا حين يضغط الفن على الواقع، فيسحب السرد من الواقعية التسجيلية إلى الواقعية الفنية، ومن أحداث الحكواتي إلى رؤى الفنان.
في الصفحات الأولى من الرواية، مع بدء جمان حكاية اغترابها عن وطنها، تطالعنا صورة للمسافرين في صالة الترانزيت، كما يراهم من يجد في السفر مفراً من جحيم لا مجرد نزهة «لتغيير الجو». لنتأمل الصورة: «إن لمراقبة المسافرين، وقت صفاء المتأمل، متعة خاصة، إذ يكونون أكثر عفوية وبساطة، وهم خارج نطاق جاذبية العوالم التي ينتمون إليها، أو في حالة مؤقتة من الانعتاق.
هنا يستعد معظم الناس لبدء حكاية ما، فالمطارات سلالم الحكايات، ونحن السوريين ربما لنا حكايتنا المختلفة معها، فبمجرد مرورنا من الكوة الأخيرة لأي موظف جوازات، نكون قد استلمنا صك ولادة جديدة، يعلن أننا لسنا مطلوبين لأية جهة أمنية وطنية أو دولية...». إنها ليست حكايات مسافرين عاديين، كما هو واضح، لكن إلى جانب البعد السياسي الانعتاقي، تلمع أمامنا إحالة ضمنية تتجاوز السفر والمسافرين إلى الكتابة والكتاب، إلى الرواية والروائيين. المطارات سلالم الحكايات والروايات التي تولد في حالة الانعتاق من سطوة الرقيب الأمني والمطاردة الاستخباراتية. ليس المسافرون وحدهم من يتمتعون بالعفوية والبساطة وهم يتأهبون للسفر، وإنما الكتاب والمثقفون أيضاً. هي لحظة التخفف من عبء الانتماء، وصعود «سلالم الحكايات» التي تنظر إلى الوراء، مكاناً وزماناً، لترسم سيناريوهات محتملة لما لم يكن - وربما لن يكون - إلى جانب السيناريوهات التي فرضها الواقع، سواء على الأوطان أو على الأفراد. تلك السلالم هي التي تصعد إليها شهلا العجيلي في رحلتها إلى «السماء القريبة من بيتنا»، حيث تبدو السماء انتماءً آخر محتملاً، مدينة تنتمي إليها كما ينتمي ناصر، حبيب جمان، الفلسطيني الذي هجر أهله، ويكاشف جمان بـ«أن مدينتي هي المكان الذي أعيش فيه بكرامة»، مضيفاً: «بالنسبة إليّ، ومنذ زمن طويل، هذا هو الوطن». تحديد ناصر يأتي مثل إجابة على سؤال الأب الفلسطيني في رائعة غسان كنفاني «عائد إلى حيفا»، حين اكتشف ابنه المتصهين في فلسطين المهوّدة، لكن الفلسطيني لم يعد الوحيد الذي يحتاج إلى تحديد معنى الوطن، انضم إليه عرب كثر، لتنفتح بذلك سماوات أخرى يتأملون الصعود إليها.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!