500 عام على ثورة الفكر الديني في أوروبا

فساد الكنيسة في روما مهد الطريق أمام التحرر السياسي والإنساني

مارتن لوثر
مارتن لوثر
TT

500 عام على ثورة الفكر الديني في أوروبا

مارتن لوثر
مارتن لوثر

لقد مرت خمسمائة عام على ثورة الفكر الديني في أوروبا التي قادها الراهب «مارتن لوثر» بتعليق الرسائل الخمس والتسعين على باب كنيسة «ويتنبورغ» عام 1517، لتبدأ في أوروبا الثورة على التدخل الديني لبابا الفاتيكان في السياسية والسيطرة على الفكر والفن والإبداع. وكان هذا الراهب، الذي درس القانون، قد بدأ رحلة مع الذات بهدف التقرب إلى الله، واعتقاداً منه بأن الله محبة كما نادى السيد المسيح في تعاليمه، فإنه لم يفهم فلسفة البابا في روما وراء التعصب والتشنج والعنف المصاحب لسلوك الكنيسة. وعندما درس اللاهوت بعدما أصبح كاهناً فإنه وجد الدرب الذي تسير عليه الكنيسة يخرج عن تعاليم السيد المسيح والمنطق اللاهوتي خاصة مع انتشار ظاهرة بيع صكوك الغفران التي أمر بها البابا لتمويل بناء الكنيسة البطرسية في روما، فالذي يملك الغفران هو الله سبحانه ولا دخل لرجال الدين في هذا الأمر سوى أن يفتحوا الطريق أمام العامة لكيفية الوصول للغفران الذي هو تجربة فردية، فالبابا ليس وكيل الله في الأرض، كما أنه انتقد بشدة الفساد البابوي وانكباب البابوات على الحياة الدنيا بما لا يتناسب والتعاليم الإلهية.
استجمع هذا الشاب شجاعته وقام بانتقاد البابا علناً من خلال رفض بيع صكوك الغفران؛ فثارت الكنيسة بكل قوتها عليه وطلبت منه سحب أفكاره وطلب الغفران، ولكن الرجل أصر على موقفه من خلال الاستناد إلى الكتاب المقدس، وهو ما دفع الإمبراطور الروماني لنصب محكمة له بمشاركة الكنيسة بطبيعة الحال، ولكن الرجل صمد ورفض التراجع عن أفكاره ما لم تتقدم الكنيسة برد مقنع، وهو ما لم يحدث بطبيعة الحال، فاشتد الصراع بين الطرفين. وبينما كان لوثر في طريق عودته من المحاكمة بعد تأجيلها، تم اختطافه على أيدي أحد الحكام الإقليميين للإمبراطورية الذي ضاق ذرعاً من تدخل الكنيسة في السياسة الألمانية إضافة إلى إعفائها من كل الرسوم والضرائب، وفقاً للقوانين الكنسية التي قبلتها السلطات المدنية وهي صاغرة؛ فهي السلطة التي تُنصب الإمبراطور والحكام وهو ما استلزم المباركة المباشرة منها، وبالتالي وجدت في أفكار لوثر وسيلة لكسر السلطة السياسية للكنيسة من خلال إحداث بركان ديني يُذهب بقواها يترأسه الساسة ورأس حربته الراهب مارتن لوثر.
وقد قام لوثر بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية ليُتاح للعامة فهم الدين كاسرًا حكر الكنيسة، وبدأ في هجوم مباشر على البابا ورجاله، مما أحدث ثورة دينية كانت تبعاتها الأهم سياسية واجتماعية وثقافية في الأساس، فسرعان ما بدأت الحركة البروتستانتية أي «المعترضة» على البابا، وبدأ التوجه يأخذ منحى ما يعرف اليوم بـ«العلمانية»، أي فصل الدين عن إدارة الدولة، وكان لهذا أثره المباشر على الانطلاقة الأوروبية في شتى المجالات، بعدما كانت الكنيسة تسيطر على حركة الفكر سواء من خلال رجالها أو بمنع التطور الفكري للآخرين ومحاربتهم وقتلهم بل وحرقهم بتهمة الهرطقة. وعلى الناحية السياسية فقد تُركت السياسة للساسة والدين للكنيسة، ولم يكن ذلك ليتأتي بطبيعة الحال إلا من خلال صراع حربي ضروس داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة انتهى بخضوع الإمبراطور وإقرار صلح «أوجسبورغ» في عام 1555م مُقِرَّاً بالسيادة للأمراء على مقاطعاتهم، بما في ذلك فرض المذهب الديني فيها والمعروف بمبدأ «من له الحكم له حق فرض الدين» وهو ما يشبه القول العربي المأثور «الرعية على دين ملوكهم».
وعلى الفور أسس لوثر الكنيسة اللوثرية التي لا تزال قائمة بقوة في ألمانيا واتبعت رؤيته للدين المسيحي الرافض للتماثيل والزخرفة في الكنائس، إضافة إلى عدم وجود دور لرجال الدين في مراحل الغفران التي صارت بين الإنسان وربه، وتمت تقليم أظافر الكنيسة الجديدة من كل عمل سياسي أو مالي، وبدأ الشعب الألماني لأول مرة يقرأ الإنجيل بلغته وبدأت حركة تحرر ديني في أوروبا تبعتها ظهور كنائس مختلفة مثل «الكالفينية» وغيرها. ومع الوقت اندلعت الحروب الدينية في أوروبا المعروفة بحرب الثلاثين عاماً ولم تنته إلا بإقرار صلح «وستفاليا» في عام 1648، الذي أقر مبدأ علمنة السياسة وإبعاد الكنيسة عنها فانطلق الفكر المكبوت في أوروبا وتطورت حركة الفنون من «الباروك» إلى «الروكوكو» وغيرهما بعد أن كانت مقصورة على مواضيع دينية في الأساس، كما بدأت الفلسفة الأوروبية تأخذ طريقاً جديداً يهدف لتطوير الحياة، وفقاً للمعايير الجديدة والظروف السياسية المعاصرة، كما بدأت حركة الأدب الأوروبي تدخل في منحنيات جديدة.
وعلى الرغم من وجود حركات سابقة لمارتن لوثر، فإنها لم تأخذ الأثر المتوقع نتيجة القبضة الحديدية للكنيسة على الرعية والساسة والفكر على حد سواء، مع أن هذه السلطة عرفت مراحل هبوط وصعود. وحقيقة الأمر أن فساد الكنيسة في روما كان قد مهد الطريق أمام التحرر السياسي والإنساني من قيودها، كذلك فإن الظروف السياسية والاجتماعية كانت أكثر استعداداً لقبول النواة الجديدة للفكر الصاعد بعد سنوات من الجهل والكبت الفكري والفني، وهنا يقارن البعض مصطفى عبد الرازق وفكره بهذا الحدث الجلل في التاريخ الغربي، ولكن حقيقية الأمر أن الوضع مختلف تماماً؛ فإذا كان الاثنان قد بدآ ثورة، فإن ظروف كل منهما وتطوراتها مختلفة.



فلسطين في الغناء المصري

فلسطين في الغناء المصري
TT

فلسطين في الغناء المصري

فلسطين في الغناء المصري

يرصد الباحث المصري الدكتور كمال مغيث أصداء القضية الفلسطينية في الأغنية المصرية والمحطات والمراحل الزمنية المختلفة التي مرت بها، وذلك في كتابه «الغناء وعبقرية الثقافة المصرية»، الصادر حديثاً عن دار «الحكمة» بالقاهرة.

يشير المؤلف في البداية إلى الجذور التاريخية والحقائق الجغرافية التي جعلت فلسطين تحظى بمكانة خاصة في الوجدان المصري، فعبْر فلسطين جاء إلى مصر الشر والخير معاً، فمنها تسرَّب الهكسوس والحيثيون، وجاء الفرس والآشوريون لغزو مصر واحتلالها عبر العصور القديمة. وجاء الصليبيون والتتار وجيوش القرامطة في العصور الوسطى، لكن في المقابل جاء عبرها كذلك سيدنا إبراهيم من أور العراقية، وعبرها حملت قافلة التجار معها الصبي سيدنا يوسف، بعد أن عثرت عليه وحيداً في غيابات الجب، كما دخلت العائلة المقدسة مصر عن طريق حدودها الشرقية مع فلسطين.

وفي العصر الحديث، كانت فلسطين مصيفاً أثيراً لكثير من الأرستقراطيين المصريين، ساعدهم على ذلك وجود ذلك القطار الفخم الذي ينطلق من القاهرة إلى القدس ويافا، ثم بيروت. وما زلنا نذكر مشهد الوداع بين نجيب الريحاني وأسرة تحية كاريوكا وهي في طريقها إلى بيروت بالقطار من محطة رمسيس عبر فلسطين في فيلم «لعبة الست». ويندر أن يكون هناك مطرب أو مطربة مصرية لم تغنِّ في مسارح القدس ويافا، في النصف الأول من القرن العشرين، ويقال إن أم كلثوم حملت لقب كوكب الشرق بعد غنائها في مسرح «الشرق» بيافا.

ولتأكيد عمق العلاقات التاريخية بين فلسطين ومصر، فإن كثيراً من الأُسر المصرية تحمل ألقاباً تؤكد أن أصولهم فلسطينية، كعائلات القدسي والمقدسي والناصري واليافاوي وعكاوي والرملي والنابلسي والطبري والسبعاوي والخليلي والصفدي والغزاوي وغيرها.

البداية مع حرب 1948

مع حرب فلسطين 1948، غنّى محمد عبد الوهاب من ألحانه، وتأليف الشاعر علي محمود طه، قصيدة «فلسطين»، والتي يقول فيها:

وقبّل شهيداً على أرضها دعا باسمها الله واستشهدا

فلسطين يحمي حماك الشباب فجلّ الفدائي والمفتدى

فلسطين تحميك منا الصدور فإما الحياة وإما الردى

كما غنى عبد الوهاب من ألحانه، وكلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل نشيد «لحن النار» الذي يقول فيه:

«مهد البطولات

أرض العرب

أرض العلا من قديم الحقبْ

ضجت من الثأر نارُ الدماء

هيا نشق إليه اللهبْ

هزت فلسطين حرَّ النداء

هيا ولبيكِ أخت العرب»

كما غنّت ليلى مراد من كلمات فتحي قورة، ولحن منير مراد:

«يا رايح على صحراء سينا

سلم عل جيشنا اللي حامينا

كلنا وياك جبهة قوية

وإيدينا في إدين الفدائية

حترد فلسطين عربية وياويلهم منك أعادينا»

وتُغني سعاد محمد للجنود العرب المتجهين إلى فلسطين لقتال الصهاينة سنة 1948 أغنية «يا مجاهد في سبيل الله»، كلمات بيرم التونسي، والتي يقول مطلعها:

«يامجاهد في سبيل الله.. دا اليوم اللي بنستناه

طول يا بطل ما معانا سيوف.. الدنيا ياما بكره تشوف

إحنا عرب أصلنا معروف.. فن الحرب إحنا بدعناه

أرض جدودنا وغيرها مافيش.. فوقها نموت وعليها نعيش

ومفيش مطرح للخفافيش.. واللي بلاده طارداه

يا مجاهد في سبيل الله».

ومع ارتفاع المد القومي بعد ثورة يوليو 1952، غنّت سهام رفقي؛ وهي مطربة سورية، من كلمات وألحان عبد الغني الشيخ:

«يافلسطين جينالك كلنا رجالك

جينالك لنشيل أحمالك حواليكي

رجالي تحميكي

بالروح والمال تفديكي

وتصون مجد العروبة

وتهلك من يعاديكي».

وبعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وتضامن الشعوب العربية مع مصر، تعزَّز الاتجاه القومي العروبي الذي كانت قضية فلسطين في مقدمة قضاياه، وأصبحت أكثر حضوراً في كثير من الأغاني الوطنية. وفي أوبريت «وطني حبيبي الوطن الأكبر»، كلمات أحمد شفيق كامل، ولحن محمد عبد الوهاب، يغنّي عبد الحليم حافظ في المقطع الأخير:

«وطني يا زاحف لانتصاراتك

ياللي حياة المجد حياتك في فلسطين

وجنوبنا الثائر حنكملك حرياتك

إحنا وطن يحمي ولا يهدد

إحنا وطن بيصون ما يبدد

وطن المجد يا وطني العربي».

وفي أوبريت «صوت الجماهير»، تأليف حسين السيد، ولحن محمد عبد الوهاب، تُغني فايدة كامل:

«باسم اتحادنا قوم يا كفاحنا

قل للصهاينة المعتدين

راية العروبة عرفت نجومها

من عام ثمانية وأربعين

دقت ساعة العمل الثوري في فلسطين

باسم الجماهير».

وفي أغنية «المارد العربي»، كلمات حسين السيد، يُغني فريد الأطرش:

«يا فلسطين يا شعب مجاهد

جيشك حاضر بالملايين

مابقاش جرح في فلسطين».

وتُغني نجاة الصغيرة في «جي يا فلسطين» من كلمات مأمون الشناوي، ولحن بليغ حمدي:

«جي على شوق وحنين ياهوا فلسطين

مليون عربي راجعين لبلدهم منتصرين

يا سما فلسطين يا ربَى فلسطين

يا عيون واحشانا بقالها سنين

راجعين ومعانا قلوب ملايين».

ويُغني عبد الحليم حافظ «يا أهلاً بالمعارك»، كلمات صلاح جاهين، ولحن كمال الطويل:

«سكتنا خلاص في إيدنا وخلاص متشمرين

وحزين يا اللي تعاندنا بتعاند جبارين

ما في حاجة تقولنا لأ

إيش حال يوم تحريرنا فلسطين».

منتصف الستينات

في منتصف الستينات، أعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح الكفاح المسلّح مطروحاً بقوة لتحرير فلسطين، فكثرت في الأغاني التي تتناول القضية كلمات من نوعية «فدائي»، و«السلاح»، و«البنادق»، و«الحرب». غنت أم كلثوم، من كلمات صلاح جاهين، ولحن السنباطي:

«راجعين بقوة السلاح راجعين نحرر الحمى

راجعين كما رجع الظلام من بعد ليلة مظلمة

جيش العروبة يا بطل الله معك

ما أعظمك ما أروعك ما أشجعك

مأساة فلسطين تدفعك نحو الحدود

حول لها الآلام بارود في مدفعك».

كما غنّت أم كلثوم من كلمات نزار قباني، ولحن محمد عبد الوهاب: «أصبح عندي الآن بندقية» التي تقول:

«يأيها الثوار

في القدس، في الخليل، في بيسان،

في بيت لحمٍ، في الأغوار

حيث كنتم أيها الأحرار

تقدموا... تقدموا..

إلى فلسطين طريق واحد

يمر من فوهة بندقية»

كما غنّت أم كلثوم من كلمات عبد الفتاح مصطفى، ولحن بليغ حمدي: «إنا فدائيون»، التي تقول:

«سقط النقاب عن الوجوه الغادرة

وحقيقة الشيطان باتت سافرة

إنا فدائيون نفنى ولا نهون

إنا لمنتصرون».

ومن الأجيال الجديدة يغنّي علي الحجار «فلسطيني» من كلمات جمال بخيت، ولحن فاروق الشرنوبي:

«فلسطيني

بيسري الأقصى في دمي

أسير وعنيد

وبلدي وجهتي

ويومي في هواها شهيد».