«أنصار الشريعة» في ليبيا... إلى أين؟

شكوك تحيط بمصير التنظيم المتشدد

عناصر من «أنصار الشريعة» في ليبيا قبل أن يحل نفسه («الشرق الأوسط»)
عناصر من «أنصار الشريعة» في ليبيا قبل أن يحل نفسه («الشرق الأوسط»)
TT

«أنصار الشريعة» في ليبيا... إلى أين؟

عناصر من «أنصار الشريعة» في ليبيا قبل أن يحل نفسه («الشرق الأوسط»)
عناصر من «أنصار الشريعة» في ليبيا قبل أن يحل نفسه («الشرق الأوسط»)

عاد الحديث عن تنظيم أنصار الشريعة لواجهة الأحداث بشمال أفريقيا، فقد جاء بيان حل الفرع الليبي لهذه الجماعة المصنفة دوليّاً، باعتبارها حركة إرهابية مفاجئاً للمختصين في الظاهرة الإرهابية، من حيث توقيته، ومن جهة مضمونه. فمن الواضح أن لغة البيان اتسمت بشحنة رمزية كبيرة، جعلت من قرار نهاية التنظيم المعلن يوم السبت 27 مايو (أيار) 2017 فرصة للتأكيد على استمرارية المرجعية المؤسسة لـ«أنصار الشريعة» من خلال الدعوة لتبني تطبيق الشريعة من جهة، ومواجهة الغرب والجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر من جهة ثانية.
وجاء بيان حل الفرع الليبي، بصيغة مقتضبة، في ثلاث صفحات، مركزاً على خمس نقاط تظهر الآيديولوجية التي دافع عنها التنظيم منذ ظهوره الرسمي سنة 2012، كما تظهر النقاط المشار إليها، «أطروحة» التنظيم المنحل لطبيعة الصراع في ليبيا ما بعد القذافي.
ويقول القرار صادر عن تنظيم أنصار الشريعة إنه «بعد هذه المسيرة الحافلة والتضحيات التي قدمت فيها (أنصار الشريعة) جل قادتها وكوادرها.. ها نحن نعلن للأمة والمجاهدين عامة وأهلنا في ليبيا خاصة عن حل جماعة أنصار الشريعة بليبيا رسميّاً»، وبرر هذه الخطوة بالتأكيد أننا «نكون قد أفسحنا الطريق لغيرنا من أبناء هذه الأمة الصادقين لحمل الأمانة من بعدنا»، وهو ما يجعل من الموت التنظيمي المعلن فرصة جديدة للحياة بالنسبة لمثل هذه الحركات.
فسر بعض المختصين في الجماعات الإرهابية بشمال أفريقيا، هذه الخطوة بربطها بعاملين أساسيين. يهم الأول، ما شهده التنظيم من تراجع ناتج أساساً عن تقدم قوات الجنرال خليفة حفتر في بنغازي المعقل الأساسي للتنظيم، بينما يشكل عامل مقتل زعيم التنظيم محمد الزهاوي نهاية 2014م، ومبايعة قائد جديد ويدعى أبو خالد المدني الجانب الثاني للتراجع الحاد لـ«أنصار الشريعة»، وعلاقتها بالحاضنة الشعبية، والقدرة على التجنيد، وكذا الحصول على الموارد المالية التي كان بعضها يأتي من الليبيين بالخارج.
صحيح أن التنظيم واجه صعوبات جمة، وتحول بعض عناصره لتعزيز صفوف «داعش» ليبيا، إلا أن وجاهة ما يقدمه التفسير أعلاه لا تحول دون التأكيد على أن لمثل هذه التنظيمات قدرةً كبيرةً ومقدرةً على فهم التوازنات المحلية والإقليمية والدولية، وأن صياغة بيان حل التنظيم تشير لذلك، وتستحضر الطابع الدولي للصراع القائم اليوم بليبيا، كما أن التنظيم واعٍ بأن الاقتتال الليبي لم يعد شأناً حزبياً ولا يعني السيطرة من عدمه على بنغازي معقل جماعة «أنصار الشريعة»، فرغم ما أشار إليه من مساندته التامة لثوار بنغازي، فإن إعلان حل التنظيم في الواقع يروم من ورائه «أنصار الشريعة»، سحب صفة الإرهابية عن مجموع الجماعات التي تحارب الغرب والقوات الموالية لحفتر.
وعلى كل يبدو أن هذا التحول المفاجئ، لا تتحكم فيه هزائم التنظيم العسكرية، بالقدر الذي يعني أنه نتاج عوامل متداخلة، بعضها داخلي ليبي، يتجلى في الضغوطات الشعبية التي مورست على التنظيم لترك أفكاره المتطرفة في بيئة قبلية لا تحتمل مثل هذه الأفكار. وبعضها الآخر ضغوطات أجنبية، ترى أن مساندتها لثوار بنغازي وحكومة التوافق الحالية، لا بد أن يكون بعيداً عن التنظيمات التي صنَّفَتْها الولايات المتحدة والأمم المتحدة ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية، وأنصار الشريعة واحدة من هذه الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة».
يعود الظهور الرسمي للتنظيم لسنة 2012، مستفيداً من فكر تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» وانتشار المعسكرات التي تديرها جماعة إرهابية أخرى. وهو ما مكَّن «أنصار الشريعة في ليبيا»، من بناء نواة مستقلة سرعان ما كبرت عقب بداية المواجهة مع نظام القذافي. وترجع المصادر الأميركية وللمرة الأولى وجود معسكرات خاصة بهذا التنظيم منذ 6 أغسطس (آب) آب 2012. كما أن الولايات المتحدة الأميركية تعتبر هذه الجماعة هي المسؤولة عن مقتل السفير الأميركي على أثر الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي في سبتمبر (أيلول) من السنة نفسها.
لم يكن هذا التنظيم جزءاً فقط من «ثوار ليبيا»، بل عمد منذ بدايته لتشبيك علاقاته بالتنظيمات الإرهابية السورية، حيث درب وأرسل العشرات من المقاتلين الليبيين للانضمام لجماعة «النصرة» بقيادة الجولاني. ورغم ذلك ظل التنظيم إلى اليوم مرتبطاً بشكل وثيق بمدينة بنغازي شرق ليبيا. حيث يمكن القول إن إنشاء «تنظيم أنصار الشريعة» الليبي يعود لأواخر عام 2011، وإن كان ظهوره العلني تم في «الملتقى الأول لأنصار الشريعة» ببنغازي، صيف 2012، وقد سعى التنظيم للتقرب والتعاون مع «سرايا راف الله الشحاتي» و«كتيبة شهداء 17 فبراير»، للحفاظ على مكانته شرقاً، خصوصاً ببنغازي. ولم يكن عمل «أنصار الشريعة» عسكريّاً فقط، بل شمل الجانب الدعوي والاجتماعي والتعليمي والأمني.
وامتدَّ التنظيم وتوسعت قاعدته لتصل إلى سرت، حيث نشط التنظيم بهذه المدينة منذ يونيو (حزيران) 2013. واستغلالاً للفراغ الذي تركه تفكك الدولة بليبيا، نظم «أنصار الشريعة»، عدة فعاليات دعوية، بالتعاون مع المؤسسات الرسمية من مثل «مكتب الأوقاف» المحلي، و«جامعة سرت»، ومع هيئات خاصة مثل إذاعة «راديو التوحيد»، و«شركة خدمات التنظيف» ومع «مؤسسة البينة» وهي جمعية دعوية.
وهذا المجهود الدعوي مكن «أنصار الشريعة» من المشاركة في ممارسة «الحسبة» بالمدينة والإشراف على دوريات أمنية، وشارك في الوساطة في حل النزاعات بين القبائل والعشائر، في سرت ومصراتة، كما شارك في أعمال اجتماعية ودعوية وقضائية أخرى، أظهرت أن التنظيم بمدينة سرت عنصر أساسي ويحظى بقاعدة شعبية مهمة.
نفى التنظيم سنة 2015 مبايعته «داعش»، واعتبر أن العناصر الليبية التي قدمت البيعة للبغدادي لم تكن يوماً في صفوفه. ففي رده على ما أوردته مجلة «دابق» التابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية»، أوضح البيان أن المبايعين لتنظيم البغدادي بمدينة سرت ليسو قيادات ولا أعضاء بتنظيم أبو خالد المديني. كما نفى البيان الصادر في 25 سبتمبر 2015 أية صلة لأنصار الشريعة بحكومة الإنقاذ الوطني، ووصفها بـ«المرتدة»، وفي السياق ذاته اعتبر أن «البرلمانات والمجالس التشريعية محاربة لله ورسوله وهذا هو الكفر المبين المخرج من الملة».
من جهة أخرى ظهر تنظيم «أنصار الشريعة» سنة 2014 بمدينة درنة، حيث عقد الملتقى الأول لأنصاره تحت شعار «خطوة لبناء دولة الإسلام». وهو ما اعتبر في حينه توسعا جديدا للتنظيم عسكريا ودعويا وسياسيا، إلا أن التنظيم تأثر بالمواجهات العنيفة بالشرق الليبي عموما وفقد قيادات بدرنة من مثل القائد العسكري لكتيبة «البتار» عبد الحميد عبد الله الشاعري الذي قتل سنة 2015. وتوالت بعد ذلك نكسات، فقد فيها التنظيم خيرة قياداته خصوصاً ببنغازي، من أمثال «أبو حفص الليبي» الذي اغتيل في غارة جوية لسلاح الجو الليبي بتاريخ 27 يوليو (تموز) 2016 في منطقة القوارشة بمدينة بنغازي. ويتهم هذا الأخير بكونه وراء محاولة اغتيال القنصل الإيطالي في ليبيا، وكذا الهجوم على مقر القنصلية البريطانية في بنغازي.
ونشير هنا أن التنظيم لا يزال صامدا وقويا بدرنة، واستطاع مقاتلو تحالف أنصار الشريعة ومجلس «شورى مجاهدي درنة»، الحفاظ على سيطرتهم على المدينة إلى اليوم، على الرغم من الهجمات الكبيرة التي تتلقاها المدينة من قوات حفتر، ومن القوات الجوية المصرية في مناسبات عدة. وهو ما يطرح سؤال يتعلق بمصير مقاتليه بالمدينة بعد الحل.
عموماً يمكن اعتبار قرار حل تنظيم أنصار الشريعة، انحسارا للفكر المتطرف لـ«القاعدة» داخل ليبيا. فلم يكن خفياً على أحد أن التنظيم المنحل كان قريباً من تنظيم أيمن الظواهري آيديولوجياً وعسكرياً. وتظهر الورقة التصورية التي نشرها زعيم التنظيم محمد الزهاوي سنة 2012، ما يشبه الوحدة الفكرية بين التنظيمين. حيث نجد أن من مبادئ «أنصار الشريعة» الليبية، الاعتقاد بأن «الديار إذا علتها شرائع الكفر وكانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي ديار كفر، ولا يلزم هذا تكفيرَ ساكني الديار لغياب دولة الإسلام وتغلب المرتدين وتسلطهم على أزمة الحكم في بلاد المسلمين، ولا نقول بقول الغلاة: «الأصل في الناس الكفرُ مطلقاً»، بل الناس كلٌ بحسب حاله منهم المسلم ومنهم الكافر. ونؤمن أن العلمانية على اختلاف راياتها وتنوع مذاهبها هي كفر بواح مناقض للإسلام مخرج من الملة.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية
جامعة محمد الخامس



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.