دائرة مفرغة قاتلة بين الإرهاب وارتدادات الإسلاموفوبيا

بعد ما حدث في فنزبري بارك

تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
TT

دائرة مفرغة قاتلة بين الإرهاب وارتدادات الإسلاموفوبيا

تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)

هل دخلت بريطانيا وربما أوروبا برمتها دائرة مفرغة قاتلة من الفعل ورد الفعل؟ ثم علامة الاستفهام الأصعب من سبق الآخر... هل الإرهاب الذي قام به بعض المنتمين إلى الإسلام اسما لا نفسا هو السابق على رهاب الإسلام «الإسلاموفوبيا»، أم أن هذه الظاهرة هي قديمة في التاريخ الأوروبي سابقة على العمليات الإرهابية والتي لم تعرفها بريطانيا خاصة وأوروبا عامة إلا في العقدين الأخيرين على أبعد تقدير تاريخي؟
حكما أن ما جرى في مسجد فنزبري بارك شمال لندن الأيام القليلة الماضية هو ما يقودنا إلى طرح مثل هذه التساؤلات في محاولة لإثارة التفكير في أزمة جعلت من النهار مدعاة للقلق والليل طريقا إلى القلق.
لعل الواقع يستدعي مراجعة أولية لما يجري سيما أن العاصمة البريطانية تحديدا شهدت وتشهد ارتفاعا واضحا في جرائم الكراهية منذ الهجوم الإرهابي الذي دهست فيه حافلة بعض المارة في منطقة لندن بريدج، ثم توجهت نحو منطقة «برو ماركت» ونزل منها ثلاثة مهاجمين علم ومن أسف لاحقا أنهم مسلمون، طعنوا بعض المارة أيضا، ما أسقط عشرة قتلي، بينهم المنفذون، و48 جريحا.
ارتفعت ردود الفعل «الإرهابية» بدورها، وهذا ما رصدته شرطة لندن وبلديتها فمنذ بداية عام 2017 كان معدل جرائم الكراهية في العاصمة البريطانية ثلاث جرائم ونصف جريمة في المتوسط يوميا، إلا أنه ارتفع لاحقا ليضحى 20 جريمة يوميا منذ هجوم لندن، الأمر الذي رصده عمدة بلدية لندن صادق خان في تصريحات له قال فيها إن «هناك زيادة كبيرة في ظاهرة الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية في المدينة عقب هجوم لندن بريدج».
وبحسب أرقام حكومية، فإن عدد البريطانيين الذين اعتقلوا لارتكابهم جرائم تتعلق بالإرهاب هو 91 من 260 شخصا العام الماضي، في زيادة بنسبة 28 في المائة مقارنة مع عام 2015 وهي الفئة الإثنية الوحيدة التي شهدت زيادة.
على أن الأرقام والنسب المتقدمة هي النتائج لا المقدمات، وضمن تلك الأخيرة كانت إشكاليات الهجرة واللاجئين التي عرفتها أوروبا العامين الأخيرين سببا مباشرا ضمن أسباب تصاعد مد الإسلاموفوبيا، وهذه مسألة في حاجة إلى إلقاء المزيد من الضوء وتحليلها تحليلا سيوسولوجيا شافيا وافيا.
كانت أحداث الربيع العربي وانهيار بعض الدول لا سيما سوريا وليبيا دافعا لموجات من الهجرة لعشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من المضطهدين والمعذبين في الأرض الساعين لملجأ إنساني، هؤلاء ولسوء حظهم كان قد اندس بينهم وهذه معلومات ثابتة لدى أجهزة الاستخبارات الأوروبية عناصر إرهابية بعضها ينتمي للقاعدة وأخرى لـ«داعش»، بعضها على درجة عالية من التدريب العسكري ولديها مهارات في أعمال التفجيرات والإرهاب، والبعض الآخر مؤدلج فكريا، وغير مدرب عملياتيا، ولهذا كان الفصيل الأخير يمثل مفتاحا لولوج تيارات اليمين الأصولي الأوروبي الكاره تاريخيا للإسلام والمسلمين للعودة إلى ساحة الأحداث السياسية أوروبيا.
من هذه النوعية ما أشارت إليه صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية مؤخرا عن شاب ينتمي لإحدى دول شمال أفريقيا وطالب لجوء تم القبض عليه بعد أن رصدت تحركاته وتوزيعه منشورات تدعو للانتماء لـ«داعش»، ثم تم تسجيل مكالمة هاتفية له مع شقيقه يخبره فيها أنه يجب معاقبة الكفار بالذبح، ويبدي فرحا بالغا في أعقاب الهجوم الذي نفذه انتحاري مانشستر وأسفر عن مقتل 22 ضحية من بينهم أطفال في حفل غنائي.
لعل أخطاء وخطايا التيارات الأصولية، بمختلف أشكالها وصنوفها وتوجهاتها قد فتحت الباب واسعا أمام الإعلام اليميني الأوروبي والبريطاني والذي أضحى يتناول خطاب التصنيف المانوي الكريه، بين الذين معنا والذين ضدنا، الأخيار والأشرار، وهذا ما جعل وسائل الإعلام البريطانية أو البعض منها مدخلا لزخم التطرف وشعلة لإضرام نيران الإسلاموفوبيا في نفوس جموع المحايدين وتحويلهم إلى معسكر الكارهين، عبر استخدام الصحافة الصفراء، وأصحاب الإذاعات الغوغائية الذين يرون في المسلمين «الأعداء الحقيقيين» داخل البلاد.
على سبيل المثال, لا الحصر وفي أعقاب حادث التفجير الانتحاري الذي شهدته مدنية «مانشستر» الشهر الماضي، قالت الكاتبة الصحافية في «ديلي ميل» البريطانية «كاتي هوبكنز» ما نصه: «أيها الرجال الغربيون، هؤلاء هن زوجاتكم وبناتكم وهؤلاء أولادكم... قفوا وانتفضوا وطالبوا بالتحرك لا تستمروا في حياتكم وكأن شيئا لم يحدث».
ولعل المتابع للصحافة والإعلام الأوروبيين يدرك إلى أي حد ومد تذهب الحوادث الإرهابية بأصحاب الأقلام والميكرفونات مذهبا بعيدا عن العقلانية في التعليق والتحليل، وعادة ما تخرج الصحف بعناوين ومقالات يسمح فيها لكتابها بأن ينفثوا كل ما هو أكثر إثارة واستفزازا، وربما لا يكون الهدف الدفاع عن موقف آيديولوجي أو حمية وحماس وطنيين بقدر ما يكون الهدف هو رفع نسبة التوزيع، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الأوروبية المتردية... هل من مثال على ما نقول به؟
خذ إليك عنوان صحيفة «الصن» البريطانية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015 والذي خرج كالتالي «استطلاع صادم... واحد من كل خمسة مسلمين بريطانيين يتعاطفون مع المنظمات الجهادية الإرهابية»... إلى أين يقود مثل هذا الخطاب الإعلامي غير النزيه ولا الموضوعي؟
الجواب نجده عند رافائيلو بانتوتشي الخبير في مكافحة الإرهاب في معهد الخدمات الملكية المشتركة, والذي يرى أن ما تجري به الأقلام على مواقع اليمين المتطرف ووصوله إلى الإعلام العادي والسياسة العامة هو نوع من الخطاب المسموم، والذي سيولد ولا شك ردود فعل متطرفة عند بعض المسلمين، وفي وسط مثل هذه الأجواء المحمومة، يضحى الأمر حلقة جهنمية مفرغة من الكراهية لا تنتهي ولا تتوقف فصولها السيئة.
والشاهد أن الذين تابعوا التغطية الإعلامية لحادثة مسجد منطقة «فينزبري» الأخيرة قد وقر لديهم أن هناك حالة من حالات «الازدواجية الأخلاقية» في التغطية والتمايز كان واضحا جدا، فعندما يقوم أحد المتطرفين من الجانب الإسلامي بعملية ما، لا تسكت أبواق التنديد والعويل، وترتفع الرايات الفاقعة، وتتعالى صيحات الأصوات الزاعقة، وفي الوقت ذاته عندما يذهب متطرف يميني بريطاني إلى دهس مصلين خارجين لتوهم من الصلاة تكون التغطية مغايرة بالمرة في رياء واضح لا تقبله أي نفس لديها كرامة واقعية في التغطية الإعلامية.
صبيحة حادثة «فينزبري» كانت صحيفة «الديلي ميل» البريطانية، ذات التوجهات اليمينية التي لا تخفى على لا أحد تخرج بعنوان أقل ما يوصف بأنه «بارد واستفزازي ولا يعكس حقيقة وكارثية ما جرى»... العنوان يقول: «السائق كان رجلا أبيض حالقا لحيته».
أما صحيفة الـ«ميرور» فبدورها بدت مرائية إلى مدى غير محدود وتخلت عن مهنيتها إذ خرج العنوان وكأنه يوجه اللوم للشاحنة لا للسائق، فجاء العنوان على النحو التالي: «اعتقال رجل وعدد من الإصابات بعد إصابة شاحنة لمشاة كانوا يخرجون من المسجد بعد الصلاة».
ولعل وكالات الأنباء العريقة في الداخل البريطاني قد سقطت في فخ التمييز العنصري، ذلك أنها لم تكف عن التمييز في تناول حادثة دهس المصلين من حيث الكم فقط، بل من حيث المضمون أيضا، ففي الخبرين المنشورين على موقعي وكالة الأنباء العريقة «رويترز»، وكذلك هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» طيلة الساعات العشر التي أعقبت الحادث، لم تشر إلى أنه حادث إرهابي، الأمر الذي جعل الجميع هناك يتساءل أي تغطية مليئة بالتمييز والعنصرية تلك؟
لفترة طويلة اشتهر مسجد «فنزبري بارك» بين مساجد بريطانيا بأنه «مسجد الأصوليين» ولعب فيه «أبو حمزة المصري»، دورا محرضا على التطرف والعنف بين الشباب، قبل أن ينتهي به الأمر بتسليمه للولايات المتحدة بغرض محاكمته من قبل السلطات الأميركية، في اتهامات متعلقة بالإرهاب.
غير أن المسجد وفي السنوات الأخيرة نفض عنه غبار التطرف، وانضوى ضمن شراكة لمنتدى إنساني وفكري ومجتمعي عرف باسم «المنتدى الإيماني لآيزلينغتون» وهو عبارة عن شراكة مجتمعية من المنظمات الدينية التي تعمل معا للمساعدة في تنمية المجتمع المحلي، وذلك في خطوة تحاول التخلص من الإرث السيئ الذي تركه فيه وعليه بعض غلاة المتطرفين.
غير أن ذلك ربما لم يكن كافيا بالنسبة للأصوات المتشددة من اليمين الأوروبي، والتي وضعت المسجد نصب أعينها طوال السنوات الماضية، فواجه اختبارات إنسانية قاسية ففي يونيو (حزيران) 2011 اشتبه في تلقي المسجد رسالة بها جرثومة مرض «الجمرة الخبيثة» القاتل وفي 2010 ألقى بعض الكارهين للمسلمين والإسلام برأس خنزير على بوابة المسجد من الخارج، وفي يونيو 2017 كان الحادث الأخير والشهير.
يستلفت النظر هنا أن الإعلام البريطاني وكما فعلت «الديلي ميل» لم يتوقف عند فداحة المشهد الإرهابي بامتياز، بل حاول استحضار التاريخ السيئ لبعض الأشخاص وكأنه يحاول تبرير ما جرى، فقالت: «10 أصيبوا على الأقل بعد ما قام رجل أبيض في شاحنة صغيرة بدهس مصلين كانوا يخرجون من مسجد قام الشيخ المتسم بالكراهية أبو حمزة بإلقاء خطاب ديني سابقا فيه».
وكالة «رويترز» من جهتها وفي بياناتها الإخبارية عزفت اللحن الإسلاموفوبي عينه قائلة: «إن مسجد فنزبري بارك الذي كان مسرح الحادثة قد اكتسب سمعة سيئة قبل أكثر من عشر سنوات بسبب خطب المتشدد أبو حمزة المصري، في محاولة لتكريس فكرة «الانتقام العادل»، إن جاز التعبير من رواد المسجد، وعليه فقد تساءل كثير من البريطانيين في صدق وموضوعية، أي إعلام هذا وأي مصداقية له وأي دور داعم لأصول الإسلاموفوبيا؟ بل خلص بعضهم إلى أن الدوائر المتطرفة فكريا هناك الآن باتت تصنف المشهد كالتالي: «إذا كان المعتدي مسلما»، فإذن الجاني إرهابي، وإذا كان أسود فهي جريمة، وإذا المعتدي أبيض فالأمر حادث عادي وكأن المشهد مرتبط في التوصيف باللون والدين والعرق.
هل كان دارين أوزبورن سائق الشاحنة التي افتعلت حادثة مسجد فينزبري رمزا لليمين البريطاني المتطرف الذي يتصاعد مداه في سماوات بريطانيا مؤخرا، مخلفا وراءه حالة كارثية من الإسلاموفوبيا القاتلة؟
لعل شهادات الشهود التي حصلت عليها وكالة «برس أسوسييشن» من جيران «أوزبورن» تضعنا أمام مسألة كارثية، فقد وصفه جيرانه من المسلمين بأنه كان أبا طيبا وجارا صديقا، لا يتوانى عن تقديم العون لجيرانه... وعليه فالسؤال مفتاح البحث عن جذور الأزمة... ما الذي دفعه للإقدام على مثل هذا الحادث الإرهابي ولأن يصيح بأعلى صوته مطالبا بقتل المسلمين كافة قبل لحظات من إلقاء القبض عليه، ومطالبا جموع المصلين بأن يقتلوه... لولا حصافة وحكمة إمام المسجد الذي تحول إلى بطل في عيون البريطانيين؟
الجواب لا بد أن يكون لدى الحكومة البريطانية والتي باتت تخصص برنامجا يعرف باسم «القناة»، لرصد ظاهرة التطرف ومتابعة المتطرفين اليمينيين، من جهة، وأصحاب النزعات الإسلاموية والإرهابية المحتملة من جهة ثانية.
في تقرير أخير لها تقول صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن أرقام المتطرفين اليمينيين المسجلين في برنامج الحكومة الرئيسي لمكافحة الإرهاب قد ارتفعت بنسبة 30 في المائة عن العام الماضي، كما أن ثلث المسجلين في البرنامج الحكومي الوقائي الذي وضعته رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عندما كانت وزيرة للداخلية، لمكافحة التطرف، هم من أعضاء أو أنصار تيارات اليمين المتطرف.
هنا ثمة من يحاول ربط سلسلة الهجمات التي تعرضت لها لندن وبقية المدن البريطانية منذ 7 يوليو (تموز) عام 2005 إثر الهجوم الذي استهدف عددا من محطات قطار الأنفاق وحافلة نقل عمومي، وصولا إلى مأساة لندن بريدج الأخيرة، دافعا في ارتفاع درجات التطرف اليميني في الداخل البريطاني الذي عرف طوال مئات الأعوام بالسلم والاستقرار الأهليين؟
نؤكد أننا إن قلنا إن تلك الهجومات هي السبب المطلق فنحن نرتكب خطأ فادحا، فهناك عوامل وعناصر أخرى لعبت بشكل من الأشكال دورا في ظهور القوميات، وصحوة الشعبويات، غير أن هذا لا ينفي أن إرهاب الجماعات المعروفة بأصوليتها، وعمليات الذئاب المنفردة والمعتنقة لآيديولوجيات العنف والإرهاب، أذكى للأسف شهوة الإسلاموفوبيا وتحديدا في نفوس التيارات اليمينية البريطانية، وبخاصة في ظل شح المعلومات عن هؤلاء، وكونهم في بعض الأوقات أقرب إلى الأشباح، ما يجعل من أي مسلم وكل مسلم في الداخل البريطاني إرهابيا أو مشروع إرهابي في نظر أصحاب النزعات اليمينية، ومن هنا تستمر دائرة العنف المفرغ ما بين شكوك تولد إرهاب، وإرهاب يولد كراهية.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟