دائرة مفرغة قاتلة بين الإرهاب وارتدادات الإسلاموفوبيا

بعد ما حدث في فنزبري بارك

تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
TT

دائرة مفرغة قاتلة بين الإرهاب وارتدادات الإسلاموفوبيا

تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)

هل دخلت بريطانيا وربما أوروبا برمتها دائرة مفرغة قاتلة من الفعل ورد الفعل؟ ثم علامة الاستفهام الأصعب من سبق الآخر... هل الإرهاب الذي قام به بعض المنتمين إلى الإسلام اسما لا نفسا هو السابق على رهاب الإسلام «الإسلاموفوبيا»، أم أن هذه الظاهرة هي قديمة في التاريخ الأوروبي سابقة على العمليات الإرهابية والتي لم تعرفها بريطانيا خاصة وأوروبا عامة إلا في العقدين الأخيرين على أبعد تقدير تاريخي؟
حكما أن ما جرى في مسجد فنزبري بارك شمال لندن الأيام القليلة الماضية هو ما يقودنا إلى طرح مثل هذه التساؤلات في محاولة لإثارة التفكير في أزمة جعلت من النهار مدعاة للقلق والليل طريقا إلى القلق.
لعل الواقع يستدعي مراجعة أولية لما يجري سيما أن العاصمة البريطانية تحديدا شهدت وتشهد ارتفاعا واضحا في جرائم الكراهية منذ الهجوم الإرهابي الذي دهست فيه حافلة بعض المارة في منطقة لندن بريدج، ثم توجهت نحو منطقة «برو ماركت» ونزل منها ثلاثة مهاجمين علم ومن أسف لاحقا أنهم مسلمون، طعنوا بعض المارة أيضا، ما أسقط عشرة قتلي، بينهم المنفذون، و48 جريحا.
ارتفعت ردود الفعل «الإرهابية» بدورها، وهذا ما رصدته شرطة لندن وبلديتها فمنذ بداية عام 2017 كان معدل جرائم الكراهية في العاصمة البريطانية ثلاث جرائم ونصف جريمة في المتوسط يوميا، إلا أنه ارتفع لاحقا ليضحى 20 جريمة يوميا منذ هجوم لندن، الأمر الذي رصده عمدة بلدية لندن صادق خان في تصريحات له قال فيها إن «هناك زيادة كبيرة في ظاهرة الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية في المدينة عقب هجوم لندن بريدج».
وبحسب أرقام حكومية، فإن عدد البريطانيين الذين اعتقلوا لارتكابهم جرائم تتعلق بالإرهاب هو 91 من 260 شخصا العام الماضي، في زيادة بنسبة 28 في المائة مقارنة مع عام 2015 وهي الفئة الإثنية الوحيدة التي شهدت زيادة.
على أن الأرقام والنسب المتقدمة هي النتائج لا المقدمات، وضمن تلك الأخيرة كانت إشكاليات الهجرة واللاجئين التي عرفتها أوروبا العامين الأخيرين سببا مباشرا ضمن أسباب تصاعد مد الإسلاموفوبيا، وهذه مسألة في حاجة إلى إلقاء المزيد من الضوء وتحليلها تحليلا سيوسولوجيا شافيا وافيا.
كانت أحداث الربيع العربي وانهيار بعض الدول لا سيما سوريا وليبيا دافعا لموجات من الهجرة لعشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من المضطهدين والمعذبين في الأرض الساعين لملجأ إنساني، هؤلاء ولسوء حظهم كان قد اندس بينهم وهذه معلومات ثابتة لدى أجهزة الاستخبارات الأوروبية عناصر إرهابية بعضها ينتمي للقاعدة وأخرى لـ«داعش»، بعضها على درجة عالية من التدريب العسكري ولديها مهارات في أعمال التفجيرات والإرهاب، والبعض الآخر مؤدلج فكريا، وغير مدرب عملياتيا، ولهذا كان الفصيل الأخير يمثل مفتاحا لولوج تيارات اليمين الأصولي الأوروبي الكاره تاريخيا للإسلام والمسلمين للعودة إلى ساحة الأحداث السياسية أوروبيا.
من هذه النوعية ما أشارت إليه صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية مؤخرا عن شاب ينتمي لإحدى دول شمال أفريقيا وطالب لجوء تم القبض عليه بعد أن رصدت تحركاته وتوزيعه منشورات تدعو للانتماء لـ«داعش»، ثم تم تسجيل مكالمة هاتفية له مع شقيقه يخبره فيها أنه يجب معاقبة الكفار بالذبح، ويبدي فرحا بالغا في أعقاب الهجوم الذي نفذه انتحاري مانشستر وأسفر عن مقتل 22 ضحية من بينهم أطفال في حفل غنائي.
لعل أخطاء وخطايا التيارات الأصولية، بمختلف أشكالها وصنوفها وتوجهاتها قد فتحت الباب واسعا أمام الإعلام اليميني الأوروبي والبريطاني والذي أضحى يتناول خطاب التصنيف المانوي الكريه، بين الذين معنا والذين ضدنا، الأخيار والأشرار، وهذا ما جعل وسائل الإعلام البريطانية أو البعض منها مدخلا لزخم التطرف وشعلة لإضرام نيران الإسلاموفوبيا في نفوس جموع المحايدين وتحويلهم إلى معسكر الكارهين، عبر استخدام الصحافة الصفراء، وأصحاب الإذاعات الغوغائية الذين يرون في المسلمين «الأعداء الحقيقيين» داخل البلاد.
على سبيل المثال, لا الحصر وفي أعقاب حادث التفجير الانتحاري الذي شهدته مدنية «مانشستر» الشهر الماضي، قالت الكاتبة الصحافية في «ديلي ميل» البريطانية «كاتي هوبكنز» ما نصه: «أيها الرجال الغربيون، هؤلاء هن زوجاتكم وبناتكم وهؤلاء أولادكم... قفوا وانتفضوا وطالبوا بالتحرك لا تستمروا في حياتكم وكأن شيئا لم يحدث».
ولعل المتابع للصحافة والإعلام الأوروبيين يدرك إلى أي حد ومد تذهب الحوادث الإرهابية بأصحاب الأقلام والميكرفونات مذهبا بعيدا عن العقلانية في التعليق والتحليل، وعادة ما تخرج الصحف بعناوين ومقالات يسمح فيها لكتابها بأن ينفثوا كل ما هو أكثر إثارة واستفزازا، وربما لا يكون الهدف الدفاع عن موقف آيديولوجي أو حمية وحماس وطنيين بقدر ما يكون الهدف هو رفع نسبة التوزيع، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الأوروبية المتردية... هل من مثال على ما نقول به؟
خذ إليك عنوان صحيفة «الصن» البريطانية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015 والذي خرج كالتالي «استطلاع صادم... واحد من كل خمسة مسلمين بريطانيين يتعاطفون مع المنظمات الجهادية الإرهابية»... إلى أين يقود مثل هذا الخطاب الإعلامي غير النزيه ولا الموضوعي؟
الجواب نجده عند رافائيلو بانتوتشي الخبير في مكافحة الإرهاب في معهد الخدمات الملكية المشتركة, والذي يرى أن ما تجري به الأقلام على مواقع اليمين المتطرف ووصوله إلى الإعلام العادي والسياسة العامة هو نوع من الخطاب المسموم، والذي سيولد ولا شك ردود فعل متطرفة عند بعض المسلمين، وفي وسط مثل هذه الأجواء المحمومة، يضحى الأمر حلقة جهنمية مفرغة من الكراهية لا تنتهي ولا تتوقف فصولها السيئة.
والشاهد أن الذين تابعوا التغطية الإعلامية لحادثة مسجد منطقة «فينزبري» الأخيرة قد وقر لديهم أن هناك حالة من حالات «الازدواجية الأخلاقية» في التغطية والتمايز كان واضحا جدا، فعندما يقوم أحد المتطرفين من الجانب الإسلامي بعملية ما، لا تسكت أبواق التنديد والعويل، وترتفع الرايات الفاقعة، وتتعالى صيحات الأصوات الزاعقة، وفي الوقت ذاته عندما يذهب متطرف يميني بريطاني إلى دهس مصلين خارجين لتوهم من الصلاة تكون التغطية مغايرة بالمرة في رياء واضح لا تقبله أي نفس لديها كرامة واقعية في التغطية الإعلامية.
صبيحة حادثة «فينزبري» كانت صحيفة «الديلي ميل» البريطانية، ذات التوجهات اليمينية التي لا تخفى على لا أحد تخرج بعنوان أقل ما يوصف بأنه «بارد واستفزازي ولا يعكس حقيقة وكارثية ما جرى»... العنوان يقول: «السائق كان رجلا أبيض حالقا لحيته».
أما صحيفة الـ«ميرور» فبدورها بدت مرائية إلى مدى غير محدود وتخلت عن مهنيتها إذ خرج العنوان وكأنه يوجه اللوم للشاحنة لا للسائق، فجاء العنوان على النحو التالي: «اعتقال رجل وعدد من الإصابات بعد إصابة شاحنة لمشاة كانوا يخرجون من المسجد بعد الصلاة».
ولعل وكالات الأنباء العريقة في الداخل البريطاني قد سقطت في فخ التمييز العنصري، ذلك أنها لم تكف عن التمييز في تناول حادثة دهس المصلين من حيث الكم فقط، بل من حيث المضمون أيضا، ففي الخبرين المنشورين على موقعي وكالة الأنباء العريقة «رويترز»، وكذلك هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» طيلة الساعات العشر التي أعقبت الحادث، لم تشر إلى أنه حادث إرهابي، الأمر الذي جعل الجميع هناك يتساءل أي تغطية مليئة بالتمييز والعنصرية تلك؟
لفترة طويلة اشتهر مسجد «فنزبري بارك» بين مساجد بريطانيا بأنه «مسجد الأصوليين» ولعب فيه «أبو حمزة المصري»، دورا محرضا على التطرف والعنف بين الشباب، قبل أن ينتهي به الأمر بتسليمه للولايات المتحدة بغرض محاكمته من قبل السلطات الأميركية، في اتهامات متعلقة بالإرهاب.
غير أن المسجد وفي السنوات الأخيرة نفض عنه غبار التطرف، وانضوى ضمن شراكة لمنتدى إنساني وفكري ومجتمعي عرف باسم «المنتدى الإيماني لآيزلينغتون» وهو عبارة عن شراكة مجتمعية من المنظمات الدينية التي تعمل معا للمساعدة في تنمية المجتمع المحلي، وذلك في خطوة تحاول التخلص من الإرث السيئ الذي تركه فيه وعليه بعض غلاة المتطرفين.
غير أن ذلك ربما لم يكن كافيا بالنسبة للأصوات المتشددة من اليمين الأوروبي، والتي وضعت المسجد نصب أعينها طوال السنوات الماضية، فواجه اختبارات إنسانية قاسية ففي يونيو (حزيران) 2011 اشتبه في تلقي المسجد رسالة بها جرثومة مرض «الجمرة الخبيثة» القاتل وفي 2010 ألقى بعض الكارهين للمسلمين والإسلام برأس خنزير على بوابة المسجد من الخارج، وفي يونيو 2017 كان الحادث الأخير والشهير.
يستلفت النظر هنا أن الإعلام البريطاني وكما فعلت «الديلي ميل» لم يتوقف عند فداحة المشهد الإرهابي بامتياز، بل حاول استحضار التاريخ السيئ لبعض الأشخاص وكأنه يحاول تبرير ما جرى، فقالت: «10 أصيبوا على الأقل بعد ما قام رجل أبيض في شاحنة صغيرة بدهس مصلين كانوا يخرجون من مسجد قام الشيخ المتسم بالكراهية أبو حمزة بإلقاء خطاب ديني سابقا فيه».
وكالة «رويترز» من جهتها وفي بياناتها الإخبارية عزفت اللحن الإسلاموفوبي عينه قائلة: «إن مسجد فنزبري بارك الذي كان مسرح الحادثة قد اكتسب سمعة سيئة قبل أكثر من عشر سنوات بسبب خطب المتشدد أبو حمزة المصري، في محاولة لتكريس فكرة «الانتقام العادل»، إن جاز التعبير من رواد المسجد، وعليه فقد تساءل كثير من البريطانيين في صدق وموضوعية، أي إعلام هذا وأي مصداقية له وأي دور داعم لأصول الإسلاموفوبيا؟ بل خلص بعضهم إلى أن الدوائر المتطرفة فكريا هناك الآن باتت تصنف المشهد كالتالي: «إذا كان المعتدي مسلما»، فإذن الجاني إرهابي، وإذا كان أسود فهي جريمة، وإذا المعتدي أبيض فالأمر حادث عادي وكأن المشهد مرتبط في التوصيف باللون والدين والعرق.
هل كان دارين أوزبورن سائق الشاحنة التي افتعلت حادثة مسجد فينزبري رمزا لليمين البريطاني المتطرف الذي يتصاعد مداه في سماوات بريطانيا مؤخرا، مخلفا وراءه حالة كارثية من الإسلاموفوبيا القاتلة؟
لعل شهادات الشهود التي حصلت عليها وكالة «برس أسوسييشن» من جيران «أوزبورن» تضعنا أمام مسألة كارثية، فقد وصفه جيرانه من المسلمين بأنه كان أبا طيبا وجارا صديقا، لا يتوانى عن تقديم العون لجيرانه... وعليه فالسؤال مفتاح البحث عن جذور الأزمة... ما الذي دفعه للإقدام على مثل هذا الحادث الإرهابي ولأن يصيح بأعلى صوته مطالبا بقتل المسلمين كافة قبل لحظات من إلقاء القبض عليه، ومطالبا جموع المصلين بأن يقتلوه... لولا حصافة وحكمة إمام المسجد الذي تحول إلى بطل في عيون البريطانيين؟
الجواب لا بد أن يكون لدى الحكومة البريطانية والتي باتت تخصص برنامجا يعرف باسم «القناة»، لرصد ظاهرة التطرف ومتابعة المتطرفين اليمينيين، من جهة، وأصحاب النزعات الإسلاموية والإرهابية المحتملة من جهة ثانية.
في تقرير أخير لها تقول صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن أرقام المتطرفين اليمينيين المسجلين في برنامج الحكومة الرئيسي لمكافحة الإرهاب قد ارتفعت بنسبة 30 في المائة عن العام الماضي، كما أن ثلث المسجلين في البرنامج الحكومي الوقائي الذي وضعته رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عندما كانت وزيرة للداخلية، لمكافحة التطرف، هم من أعضاء أو أنصار تيارات اليمين المتطرف.
هنا ثمة من يحاول ربط سلسلة الهجمات التي تعرضت لها لندن وبقية المدن البريطانية منذ 7 يوليو (تموز) عام 2005 إثر الهجوم الذي استهدف عددا من محطات قطار الأنفاق وحافلة نقل عمومي، وصولا إلى مأساة لندن بريدج الأخيرة، دافعا في ارتفاع درجات التطرف اليميني في الداخل البريطاني الذي عرف طوال مئات الأعوام بالسلم والاستقرار الأهليين؟
نؤكد أننا إن قلنا إن تلك الهجومات هي السبب المطلق فنحن نرتكب خطأ فادحا، فهناك عوامل وعناصر أخرى لعبت بشكل من الأشكال دورا في ظهور القوميات، وصحوة الشعبويات، غير أن هذا لا ينفي أن إرهاب الجماعات المعروفة بأصوليتها، وعمليات الذئاب المنفردة والمعتنقة لآيديولوجيات العنف والإرهاب، أذكى للأسف شهوة الإسلاموفوبيا وتحديدا في نفوس التيارات اليمينية البريطانية، وبخاصة في ظل شح المعلومات عن هؤلاء، وكونهم في بعض الأوقات أقرب إلى الأشباح، ما يجعل من أي مسلم وكل مسلم في الداخل البريطاني إرهابيا أو مشروع إرهابي في نظر أصحاب النزعات اليمينية، ومن هنا تستمر دائرة العنف المفرغ ما بين شكوك تولد إرهاب، وإرهاب يولد كراهية.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».