دائرة مفرغة قاتلة بين الإرهاب وارتدادات الإسلاموفوبيا

بعد ما حدث في فنزبري بارك

تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
TT

دائرة مفرغة قاتلة بين الإرهاب وارتدادات الإسلاموفوبيا

تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)
تيريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية تغادر مسجد فنزبري بارك في شمال لندن عقب حادث الدهس الذي تعرض له مصلون الأسبوع الماضي (أ.ب)

هل دخلت بريطانيا وربما أوروبا برمتها دائرة مفرغة قاتلة من الفعل ورد الفعل؟ ثم علامة الاستفهام الأصعب من سبق الآخر... هل الإرهاب الذي قام به بعض المنتمين إلى الإسلام اسما لا نفسا هو السابق على رهاب الإسلام «الإسلاموفوبيا»، أم أن هذه الظاهرة هي قديمة في التاريخ الأوروبي سابقة على العمليات الإرهابية والتي لم تعرفها بريطانيا خاصة وأوروبا عامة إلا في العقدين الأخيرين على أبعد تقدير تاريخي؟
حكما أن ما جرى في مسجد فنزبري بارك شمال لندن الأيام القليلة الماضية هو ما يقودنا إلى طرح مثل هذه التساؤلات في محاولة لإثارة التفكير في أزمة جعلت من النهار مدعاة للقلق والليل طريقا إلى القلق.
لعل الواقع يستدعي مراجعة أولية لما يجري سيما أن العاصمة البريطانية تحديدا شهدت وتشهد ارتفاعا واضحا في جرائم الكراهية منذ الهجوم الإرهابي الذي دهست فيه حافلة بعض المارة في منطقة لندن بريدج، ثم توجهت نحو منطقة «برو ماركت» ونزل منها ثلاثة مهاجمين علم ومن أسف لاحقا أنهم مسلمون، طعنوا بعض المارة أيضا، ما أسقط عشرة قتلي، بينهم المنفذون، و48 جريحا.
ارتفعت ردود الفعل «الإرهابية» بدورها، وهذا ما رصدته شرطة لندن وبلديتها فمنذ بداية عام 2017 كان معدل جرائم الكراهية في العاصمة البريطانية ثلاث جرائم ونصف جريمة في المتوسط يوميا، إلا أنه ارتفع لاحقا ليضحى 20 جريمة يوميا منذ هجوم لندن، الأمر الذي رصده عمدة بلدية لندن صادق خان في تصريحات له قال فيها إن «هناك زيادة كبيرة في ظاهرة الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية في المدينة عقب هجوم لندن بريدج».
وبحسب أرقام حكومية، فإن عدد البريطانيين الذين اعتقلوا لارتكابهم جرائم تتعلق بالإرهاب هو 91 من 260 شخصا العام الماضي، في زيادة بنسبة 28 في المائة مقارنة مع عام 2015 وهي الفئة الإثنية الوحيدة التي شهدت زيادة.
على أن الأرقام والنسب المتقدمة هي النتائج لا المقدمات، وضمن تلك الأخيرة كانت إشكاليات الهجرة واللاجئين التي عرفتها أوروبا العامين الأخيرين سببا مباشرا ضمن أسباب تصاعد مد الإسلاموفوبيا، وهذه مسألة في حاجة إلى إلقاء المزيد من الضوء وتحليلها تحليلا سيوسولوجيا شافيا وافيا.
كانت أحداث الربيع العربي وانهيار بعض الدول لا سيما سوريا وليبيا دافعا لموجات من الهجرة لعشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من المضطهدين والمعذبين في الأرض الساعين لملجأ إنساني، هؤلاء ولسوء حظهم كان قد اندس بينهم وهذه معلومات ثابتة لدى أجهزة الاستخبارات الأوروبية عناصر إرهابية بعضها ينتمي للقاعدة وأخرى لـ«داعش»، بعضها على درجة عالية من التدريب العسكري ولديها مهارات في أعمال التفجيرات والإرهاب، والبعض الآخر مؤدلج فكريا، وغير مدرب عملياتيا، ولهذا كان الفصيل الأخير يمثل مفتاحا لولوج تيارات اليمين الأصولي الأوروبي الكاره تاريخيا للإسلام والمسلمين للعودة إلى ساحة الأحداث السياسية أوروبيا.
من هذه النوعية ما أشارت إليه صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية مؤخرا عن شاب ينتمي لإحدى دول شمال أفريقيا وطالب لجوء تم القبض عليه بعد أن رصدت تحركاته وتوزيعه منشورات تدعو للانتماء لـ«داعش»، ثم تم تسجيل مكالمة هاتفية له مع شقيقه يخبره فيها أنه يجب معاقبة الكفار بالذبح، ويبدي فرحا بالغا في أعقاب الهجوم الذي نفذه انتحاري مانشستر وأسفر عن مقتل 22 ضحية من بينهم أطفال في حفل غنائي.
لعل أخطاء وخطايا التيارات الأصولية، بمختلف أشكالها وصنوفها وتوجهاتها قد فتحت الباب واسعا أمام الإعلام اليميني الأوروبي والبريطاني والذي أضحى يتناول خطاب التصنيف المانوي الكريه، بين الذين معنا والذين ضدنا، الأخيار والأشرار، وهذا ما جعل وسائل الإعلام البريطانية أو البعض منها مدخلا لزخم التطرف وشعلة لإضرام نيران الإسلاموفوبيا في نفوس جموع المحايدين وتحويلهم إلى معسكر الكارهين، عبر استخدام الصحافة الصفراء، وأصحاب الإذاعات الغوغائية الذين يرون في المسلمين «الأعداء الحقيقيين» داخل البلاد.
على سبيل المثال, لا الحصر وفي أعقاب حادث التفجير الانتحاري الذي شهدته مدنية «مانشستر» الشهر الماضي، قالت الكاتبة الصحافية في «ديلي ميل» البريطانية «كاتي هوبكنز» ما نصه: «أيها الرجال الغربيون، هؤلاء هن زوجاتكم وبناتكم وهؤلاء أولادكم... قفوا وانتفضوا وطالبوا بالتحرك لا تستمروا في حياتكم وكأن شيئا لم يحدث».
ولعل المتابع للصحافة والإعلام الأوروبيين يدرك إلى أي حد ومد تذهب الحوادث الإرهابية بأصحاب الأقلام والميكرفونات مذهبا بعيدا عن العقلانية في التعليق والتحليل، وعادة ما تخرج الصحف بعناوين ومقالات يسمح فيها لكتابها بأن ينفثوا كل ما هو أكثر إثارة واستفزازا، وربما لا يكون الهدف الدفاع عن موقف آيديولوجي أو حمية وحماس وطنيين بقدر ما يكون الهدف هو رفع نسبة التوزيع، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الأوروبية المتردية... هل من مثال على ما نقول به؟
خذ إليك عنوان صحيفة «الصن» البريطانية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015 والذي خرج كالتالي «استطلاع صادم... واحد من كل خمسة مسلمين بريطانيين يتعاطفون مع المنظمات الجهادية الإرهابية»... إلى أين يقود مثل هذا الخطاب الإعلامي غير النزيه ولا الموضوعي؟
الجواب نجده عند رافائيلو بانتوتشي الخبير في مكافحة الإرهاب في معهد الخدمات الملكية المشتركة, والذي يرى أن ما تجري به الأقلام على مواقع اليمين المتطرف ووصوله إلى الإعلام العادي والسياسة العامة هو نوع من الخطاب المسموم، والذي سيولد ولا شك ردود فعل متطرفة عند بعض المسلمين، وفي وسط مثل هذه الأجواء المحمومة، يضحى الأمر حلقة جهنمية مفرغة من الكراهية لا تنتهي ولا تتوقف فصولها السيئة.
والشاهد أن الذين تابعوا التغطية الإعلامية لحادثة مسجد منطقة «فينزبري» الأخيرة قد وقر لديهم أن هناك حالة من حالات «الازدواجية الأخلاقية» في التغطية والتمايز كان واضحا جدا، فعندما يقوم أحد المتطرفين من الجانب الإسلامي بعملية ما، لا تسكت أبواق التنديد والعويل، وترتفع الرايات الفاقعة، وتتعالى صيحات الأصوات الزاعقة، وفي الوقت ذاته عندما يذهب متطرف يميني بريطاني إلى دهس مصلين خارجين لتوهم من الصلاة تكون التغطية مغايرة بالمرة في رياء واضح لا تقبله أي نفس لديها كرامة واقعية في التغطية الإعلامية.
صبيحة حادثة «فينزبري» كانت صحيفة «الديلي ميل» البريطانية، ذات التوجهات اليمينية التي لا تخفى على لا أحد تخرج بعنوان أقل ما يوصف بأنه «بارد واستفزازي ولا يعكس حقيقة وكارثية ما جرى»... العنوان يقول: «السائق كان رجلا أبيض حالقا لحيته».
أما صحيفة الـ«ميرور» فبدورها بدت مرائية إلى مدى غير محدود وتخلت عن مهنيتها إذ خرج العنوان وكأنه يوجه اللوم للشاحنة لا للسائق، فجاء العنوان على النحو التالي: «اعتقال رجل وعدد من الإصابات بعد إصابة شاحنة لمشاة كانوا يخرجون من المسجد بعد الصلاة».
ولعل وكالات الأنباء العريقة في الداخل البريطاني قد سقطت في فخ التمييز العنصري، ذلك أنها لم تكف عن التمييز في تناول حادثة دهس المصلين من حيث الكم فقط، بل من حيث المضمون أيضا، ففي الخبرين المنشورين على موقعي وكالة الأنباء العريقة «رويترز»، وكذلك هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» طيلة الساعات العشر التي أعقبت الحادث، لم تشر إلى أنه حادث إرهابي، الأمر الذي جعل الجميع هناك يتساءل أي تغطية مليئة بالتمييز والعنصرية تلك؟
لفترة طويلة اشتهر مسجد «فنزبري بارك» بين مساجد بريطانيا بأنه «مسجد الأصوليين» ولعب فيه «أبو حمزة المصري»، دورا محرضا على التطرف والعنف بين الشباب، قبل أن ينتهي به الأمر بتسليمه للولايات المتحدة بغرض محاكمته من قبل السلطات الأميركية، في اتهامات متعلقة بالإرهاب.
غير أن المسجد وفي السنوات الأخيرة نفض عنه غبار التطرف، وانضوى ضمن شراكة لمنتدى إنساني وفكري ومجتمعي عرف باسم «المنتدى الإيماني لآيزلينغتون» وهو عبارة عن شراكة مجتمعية من المنظمات الدينية التي تعمل معا للمساعدة في تنمية المجتمع المحلي، وذلك في خطوة تحاول التخلص من الإرث السيئ الذي تركه فيه وعليه بعض غلاة المتطرفين.
غير أن ذلك ربما لم يكن كافيا بالنسبة للأصوات المتشددة من اليمين الأوروبي، والتي وضعت المسجد نصب أعينها طوال السنوات الماضية، فواجه اختبارات إنسانية قاسية ففي يونيو (حزيران) 2011 اشتبه في تلقي المسجد رسالة بها جرثومة مرض «الجمرة الخبيثة» القاتل وفي 2010 ألقى بعض الكارهين للمسلمين والإسلام برأس خنزير على بوابة المسجد من الخارج، وفي يونيو 2017 كان الحادث الأخير والشهير.
يستلفت النظر هنا أن الإعلام البريطاني وكما فعلت «الديلي ميل» لم يتوقف عند فداحة المشهد الإرهابي بامتياز، بل حاول استحضار التاريخ السيئ لبعض الأشخاص وكأنه يحاول تبرير ما جرى، فقالت: «10 أصيبوا على الأقل بعد ما قام رجل أبيض في شاحنة صغيرة بدهس مصلين كانوا يخرجون من مسجد قام الشيخ المتسم بالكراهية أبو حمزة بإلقاء خطاب ديني سابقا فيه».
وكالة «رويترز» من جهتها وفي بياناتها الإخبارية عزفت اللحن الإسلاموفوبي عينه قائلة: «إن مسجد فنزبري بارك الذي كان مسرح الحادثة قد اكتسب سمعة سيئة قبل أكثر من عشر سنوات بسبب خطب المتشدد أبو حمزة المصري، في محاولة لتكريس فكرة «الانتقام العادل»، إن جاز التعبير من رواد المسجد، وعليه فقد تساءل كثير من البريطانيين في صدق وموضوعية، أي إعلام هذا وأي مصداقية له وأي دور داعم لأصول الإسلاموفوبيا؟ بل خلص بعضهم إلى أن الدوائر المتطرفة فكريا هناك الآن باتت تصنف المشهد كالتالي: «إذا كان المعتدي مسلما»، فإذن الجاني إرهابي، وإذا كان أسود فهي جريمة، وإذا المعتدي أبيض فالأمر حادث عادي وكأن المشهد مرتبط في التوصيف باللون والدين والعرق.
هل كان دارين أوزبورن سائق الشاحنة التي افتعلت حادثة مسجد فينزبري رمزا لليمين البريطاني المتطرف الذي يتصاعد مداه في سماوات بريطانيا مؤخرا، مخلفا وراءه حالة كارثية من الإسلاموفوبيا القاتلة؟
لعل شهادات الشهود التي حصلت عليها وكالة «برس أسوسييشن» من جيران «أوزبورن» تضعنا أمام مسألة كارثية، فقد وصفه جيرانه من المسلمين بأنه كان أبا طيبا وجارا صديقا، لا يتوانى عن تقديم العون لجيرانه... وعليه فالسؤال مفتاح البحث عن جذور الأزمة... ما الذي دفعه للإقدام على مثل هذا الحادث الإرهابي ولأن يصيح بأعلى صوته مطالبا بقتل المسلمين كافة قبل لحظات من إلقاء القبض عليه، ومطالبا جموع المصلين بأن يقتلوه... لولا حصافة وحكمة إمام المسجد الذي تحول إلى بطل في عيون البريطانيين؟
الجواب لا بد أن يكون لدى الحكومة البريطانية والتي باتت تخصص برنامجا يعرف باسم «القناة»، لرصد ظاهرة التطرف ومتابعة المتطرفين اليمينيين، من جهة، وأصحاب النزعات الإسلاموية والإرهابية المحتملة من جهة ثانية.
في تقرير أخير لها تقول صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن أرقام المتطرفين اليمينيين المسجلين في برنامج الحكومة الرئيسي لمكافحة الإرهاب قد ارتفعت بنسبة 30 في المائة عن العام الماضي، كما أن ثلث المسجلين في البرنامج الحكومي الوقائي الذي وضعته رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عندما كانت وزيرة للداخلية، لمكافحة التطرف، هم من أعضاء أو أنصار تيارات اليمين المتطرف.
هنا ثمة من يحاول ربط سلسلة الهجمات التي تعرضت لها لندن وبقية المدن البريطانية منذ 7 يوليو (تموز) عام 2005 إثر الهجوم الذي استهدف عددا من محطات قطار الأنفاق وحافلة نقل عمومي، وصولا إلى مأساة لندن بريدج الأخيرة، دافعا في ارتفاع درجات التطرف اليميني في الداخل البريطاني الذي عرف طوال مئات الأعوام بالسلم والاستقرار الأهليين؟
نؤكد أننا إن قلنا إن تلك الهجومات هي السبب المطلق فنحن نرتكب خطأ فادحا، فهناك عوامل وعناصر أخرى لعبت بشكل من الأشكال دورا في ظهور القوميات، وصحوة الشعبويات، غير أن هذا لا ينفي أن إرهاب الجماعات المعروفة بأصوليتها، وعمليات الذئاب المنفردة والمعتنقة لآيديولوجيات العنف والإرهاب، أذكى للأسف شهوة الإسلاموفوبيا وتحديدا في نفوس التيارات اليمينية البريطانية، وبخاصة في ظل شح المعلومات عن هؤلاء، وكونهم في بعض الأوقات أقرب إلى الأشباح، ما يجعل من أي مسلم وكل مسلم في الداخل البريطاني إرهابيا أو مشروع إرهابي في نظر أصحاب النزعات اليمينية، ومن هنا تستمر دائرة العنف المفرغ ما بين شكوك تولد إرهاب، وإرهاب يولد كراهية.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.