من التاريخ: غراميات إمبراطور

من التاريخ: غراميات إمبراطور
TT

من التاريخ: غراميات إمبراطور

من التاريخ: غراميات إمبراطور

بعيداً عن غمار الحروب الصليبية والرؤى الفلسفية للتاريخ، فلقد وجدت نفسي منذ أيام قليلة أجلس في حفل عشاء وعلى يميني سياسية بولندية وأمامي صديق فرنسي، فلم أستطع السيطرة على لساني الذي انطلق لسؤالهما عن أهم ما يجمع بينهما تاريخياً، فكان الرد التلقائي هو «الاتحاد الأوروبي»، ثم بادر الفرنسي ليقول لي: «إن المنافسة على عمودية باريس كانت لامرأة من أصل بولندي»، فأوضحت لهما حقيقة هامة للغاية وهي أن الذرية الوحيدة لنابليون بونابرت جاءت من خلال علاقة ممتدة مع إحدى الشخصيات بولندية الجنسية، وأنه إذا ما أرادت فرنسا أن تشم رائحة إمبراطورها العظيم نابليون بونابرت فعليها أن تفتش في السلالات البولندية، فوجدتهما يبتسمان ابتسامة تخفي خلفها بعض الفضول مع بعض الخجل لأن مصرياً مثلي يحدثهما في مثل هذه الأمور الهامة في تاريخ بلديهما.
إن ما حدث مرتبط بشكل كبير بالطريقة التي لا يزال نابليون بونابرت يمر بها إلى ذاكرتنا البشرية والتي تهتم بعبقريته العسكرية والتاريخية والسياسية، فضلاً عن كونه يمثل للبعض الشخصية الرومانسية والتي يتم ربطها مباشرة بثوريته أو بعلاقته بزوجته الأولى جوزيفين، ولكن حقيقة الأمر أن قصة الحب الأساسية التي سيطرت عليه بعد نضوجه النسبي كانت مع شابة بولندية، فلقد كانت علاقته بزوجته جوزيفين التي كانت تكبره سناً على المحك بسبب عدم قدرتها على الإنجاب ولأسباب تتعلق بعلاقاتها ونزواتها مع رجال مختلفين على رأسهم هيبوليتي شارلز، الذي رافقها خلال فترة وجود نابليون في الحملة على مصر والشام، وقد بدأ الجميع يستشعر المسافة التي صارت تكبر يوماً بعد يوم بين نابليون وزوجته، إلى أن جاء انتصار الرجل الساحق في معركتي «أوسترلتز» ضد النمسا في 1805 ثم في «يينا» ضد بروسيا، وهو ما فتح له الطريق إلى وسط أوروبا، خصوصا بولندا التي كانت تعاني بشدة من سيطرة روسيا وبروسيا والنمسا على مقدرات الأمور بها وتقسيمها تباعاً، وبالتالي عندما دخل نابليون بولندا استقبله الشعب البولندي بالورد والقبلات والسعادة الغامرة على اعتباره المخلص الذي من المتوقع أن يُعيد لبولندا استقلالها وحريتها، ولكن القدر كان له رأي آخر، فخلال هذه الاستقبالات لم يفُت نابليون أن يركز على جمال امرأة بولندية شابة زرقاء العينين، شقراء الشعر، بيضاء البشرة، متوسطة الطول، ويبدو على وجهها براءة الأنوثة والشباب، فلقد كانت بكل المقاييس آية في الجمال كما وصفها كل من رآها أو تعامل معها.
لقد كانت هذه الشابة هي ماريا واليوسكا، إحدى فتيات الطبقة الأرستقراطية البولندية والتي كانت أسرتها تعاني من ضائقة مادية، فتم تزويجها لأحد أبناء الطبقة ذاتها من ميسوري الحال، وهو الكونت أثناثيوس واليوسكي والذي نسبت إليه، وكان يكبرها بقرابة سبعة عقود، ومع ذلك فقد أنجبت له طفلاً، ولكن علاقتها به كانت فاترة للغاية، وعلى الرغم من أنها لم تكن لديها النية أو حتى الرغبة في الدخول في علاقات مع رجال آخرين، وهو ما لم يكن مستغرباً على هذه الطبقة الاجتماعية، إلا أنها وجدت نفسها بجوار أحد أقربائها يستقبلون نابليون بونابرت في مدينة بلوني، فاستطاعت الشابة أن تخرق الصفوف لتصل إلى عربته وتلقي عليه السلام، شأنها في ذلك شأن كل شباب بولندا الحالم بالاستقلال في لقائهم بالمُخلّص السياسي المُنتظر، وقد لفت جمالها انتباه نابليون على الفور، فما كان منه إلا أن أعطاها باقة ورد كانت معه وقال لها بكل وضوح وهو يرمقها بنظرة متعمقة: «سوف نلتقي في وارسو وسوف تشكرينني كثيراً».
ولم يخفِ نابليون إعجابه الشديد بماريا والويسكا وبدأ يضع خطته للانقضاض على الفتاة، فوجه جنراله القدير دوروك ليبحث عنها بشغف، ومن خلال علاقاته مع الطبقة الأرستقراطية تم توجيه الدعوة إليها للمشاركة في أحد الاحتفالات المسائية، ولكنها اعتذرت، وهو ما استفز نابليون كثيراً، فتم توجيه أحد الأرستقراطيين للذهاب إليها ليقول لها إنها تمثل أمل بولندا لأن الإمبراطور مولع بها وإنها يمكن أن تقوم بعمل قومي لبلادها بأن تصبح عشيقته. والمستغرب له أن هذا الأمر لم يزعج زوجها كثيراً، حيث كان يرى أن بولندا أهم من زوجته، فلقد ضغط المقربون عليها لقبول هذه العلاقة، وفي إحدى المناسبات التقي بها نابليون مرة أخرى فلم يتأخر كثيراً وبدأ يتقرب إليها بشغف وبأدب تارة وبعنف وصلف تارة أخرى، مُرغباً من خلال التأكيد على أنه سيقوم بإعادة دولة بولندا للخريطة، ومهدداً بأنه سيسحق دولتها تارة أخرى. والملاحظ أن هذا الرجل القوى كان يعرف طريقه لقلب النساء بصفة عامة، فلقد كتب لها بطاقات ممتدة يعرض عليها حبه، ومن ذلك قوله في إحداها: «يا حمامتي الجميلة... مع مرور الوقت سوف تحبين النسر العظيم (أي نابليون)، وفي زمن قليل ستفرضين سيطرتك عليه..».، وتورد ماريا في مذكراتها أنه وقف أمامها في إحدى المرات وقال لها: «أريدك أن تعرفي أنني سأغزوك... دعيني أكرر لك... سوف تحبينني..».، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت الشابة مفتونة بشخصه وحبه الشديد ودفء شخصيته، وسرعان ما دانت الشابة الجميلة واستسلمت للإمبراطور نابليون في علاقة بدأت سرية ولكنها أصبحت حديث كل العواصم الأوروبية بعد وقت قريب، وقد تحولت العلاقة بينهما من علاقة اضطرارية إلى علاقة حب عميق أسفر عن الذرية الوحيدة لنابليون ممثلة في ابنه ألكسندر واليوسكي، الذي نسب إلى زوج أمه وليس عشيقها الإمبراطور، ولكن كل فرنسا كانت تعرف أنه ابن نابليون بونابرت، فكانت تعامله على هذا الأساس لأنها غادرت بولندا وأصبحت تعيش معه في باريس بشكل علني، وذلك على الرغم من زواج نابليون بماريا لويز ابنة الإمبراطور النمساوي، ولكن حقيقة الأمر أنها كانت زيجة مُدبرة هدفها سياسي ونهايتها تعيسة، وإحقاقاً للحق فإن أسرة الهابسبورغ التي تنتمي إليها زوجة نابليون كانت معروفة بقبحها ومحدودية جمال بناتها، فلم تكن زوجة نابليون لتقارن بماريا واليوسكا التي كانت حديث كل المجتمعات لجمالها ورقتها وبراءتها، ولكن كونها متزوجة كان أيضا يثير الكثير من الثرثرة في المجتمعات الأوروبية.
رغم كل هذه الظروف المحيطة بهذه العلاقة العميقة لنابليون بونابرت مع محبوبته ماريا، فإنها كانت أكثر النساء ولاءً للرجل، فقد استمرت العلاقة بينهما حتى إنه يقال إنها زارته في منفاه الأول في جزيرة إلبا، وظلت حافظة العهد معه حتى تم نفيه نهائياً لجزيرة سانت هيلينا في المحيط الأطلنطي، وهنا فقدت الأمل في العودة إليه، وقد تزوجت بعد ذلك من أحد جنرالاته وهو فيليب دارنانو وأنجبت منه طفلاً آخر، ولكنها لم تغفل التأكيد في مذكراتها على أن نابليون كان الرجل الحقيقي في حياتها.
أما ابنها ألكسندر من نابليون فقد دخل اللعبة السياسية في فرنسا بعدما منح الجنسية، وكان الجميع يدركون تماماً أنه ابن قائدهم العظيم نابليون، ويبدو أن هذا الشاب كان يملك من مقومات عظمة أبيه الكثير، حيث أبلى بلاءً حسناً كضابط ثم كسياسي، ومثل والده فإن زواجه لم يكن مستقراً، وسلالته من زواجه لم يكتب لها الاستمرارية، ولكن العكس كان صحيحاً من خلال علاقته مع إحدى الممثلات التي أنجبت له ابناً كُتب من خلاله لسلالة نابليون البقاء.
وهكذا انتهت قصة من أعمق قصص الحب في تاريخ السلطة السياسية، خصوصا لأن شخصية نابليون تظل محيرة إلى حد كبير، فيبدو أن الرجل كانت له موهبة خاصة في المعارك سواء العسكرية أو النسائية على حد سواء، وإذا ما كانت الأولى من نتاج عبقريته الخالصة، فإن الثانية بلا شك استفادت من الهالة السياسية التي نتجت عن انتصاراته العسكرية، فلقد كانت الكثير من النساء يرتمين تحت أقدام هذا الرجل الذي دانت له أوروبا، فلم يكن من المستغرب أن ترفع النساء رايات الحب والاستسلام بهذه السرعة، ولكن يبدو أن نابليون قد فتح قلبه وروحه لماريا أكثر من أية امرأة أخرى، ويبدو أن العلاقة انتهت بحب متعمق مع هذه المرأة التي تحملت كل علاقاته الجانبية أو زواجه وتقلبات مزاجه وظروفه السياسية، ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن نابليون استسلم عاطفياً لماريا قبل أن يستسلم عسكرياً في معركة واترلو؟... فكثيراً ما يُقهر العظماء من القلب وليس في ساحات المعارك!



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.