تستعد «دار الآداب» لإصدار الرواية الأخيرة للكاتبة التركية الشهيرة أليف شافاك، التي تحمل اسم «بنات حواء الثلاث». الرواية صدرت بالإنجليزية، وينتظرها القراء العرب كما كل كتب شافاك التي تحولت إلى «بيست سيلر» حول العالم. وهي تروي حكاية الصديقات الثلاث: شيرين، ومنى، وبيري، المختلفات والمتباعدات في التفكير والتوجهات إلى حد كبير، لكن الصداقة جمعتهن حد أنهن أصبحن أشبه بالأخوات. ما بين منى المصرية المؤمنة، وشيرين الإيرانية الملحدة، وبيري الممزقة بين أب متحرر وأم محافظة، وأستاذهن اللامع صاحب الكاريزما في جامعة أكسفورد، نعيش أحداث قصة هي رحلة نحو البحث عن الإيمان والحب والحقيقة العصية على الجميع.
القسم الأول: حقيبة اليد
إسطنبول 2016
كان النهار نهاراً اعتيادياً من نهارات الربيع في إسطنبول، عصراً طويلاً وثقيلاً مثل غيره من أوقات العصر الكثيرة، حين اكتشفت خاوية المعدة أنَّها قادرة على أن تقتل شخصاً ما. وكان الشكُّ يساورها دوماً بأنَّ أكثر النساء هدوءاً وعذوبة يتعرَّضن تحت وطأة الكرب لجيشان العنف وتفجُّره. ولمَّا كانت ترى أنَّها هي نفسها ليست هادئة ولا عذبة، فقد اعتقدت أنَّ مقدرتها على فقدان السيطرة أكبر من غيرها إلى حدٍّ بعيد. غير أنَّ كلمة «مقدرة» مخادعة، تحتاج إلى قدر كبير من البراعة والحذر. فقد قال الناس ذات مرَّة، إنَّ تركيا ذات مقدرة كامنة، وانظروا إلى ما آلت إليه الأمور اليوم. وهكذا، طمأنت نفسها بأنَّ مقدرتها على الاكتئاب من شأنها أن ترقى أيضاً إلى أي شيء في نهاية المطاف.
لحسن الحظّ أيضاً أنَّ القدر - اللوحَ المحفوظ حفظاً جيِّداً، والمدوَّن عليه كلّ ما حدث وما سيحدث مستقبلاً - قد جنَّبها في الأعمّ الأغلب ارتكابَ الخطأ. فعلى امتداد كلّ تلك السنين، عاشت حياة كريمة، ولم تُوقع الأذى بأي مخلوق، في الأقلِّ ليس على نحو متعمَّد، وفي الأقلِّ ليس مؤخَّراً، اللهمّ سوى الإسهام في القيل والقال أو كلام السوء بين وقت وآخر، وهما من الأمور التي لا تؤخذ في الحسبان. في أي حال، الناس يفعلون ذلك، وإذا ما مثَّل ذلك خطيئة كبرى، فإنَّ مهاوي الجحيم سوف تمتلئ إلى حافَّتها. وإذا ما تسببت بإلحاق الكرب بأحد ما فهو الربّ، إنَّ الربّ يستاء بسهولة، ويميل إلى التقلُّب، لكنَّ الكرب ليس من صفاته، وإنَّما هو إحدى صفات البشر.
كانت نازبيري نالباتوغلو المعروفة بين الناس أجمعين ببيري امرأة طيِّبة، إذْ كانت تدعم الصدقاتِ، وتزيد في حدَّة الوعي بمرض ألزهايمر، وتجمع الأموال من أجل الأُسر المحتاجة. كما أنَّها تطوَّعت في بيوت المتقاعدين، إذ شاركت في منافسات لعبة النرد لتخسر عن عمد، وحملت في حقائب يدها الطعام والشراب للقطط السائبة التي تمتلئ بها مدينة إسطنبول، حتى بلغ بها الأمر حدّاً أنَّها كانت تعمد إلى إخصائها على نفقتها الخاصَّة. وكانت تراقب عن كثب أداء أطفالها في المدرسة، وتُعِدّ العشاء الشهي لربِّ عمل زوجها والعاملين وإيَّاه، وتصوم في اليومين الأوَّل والأخير من شهر رمضان، وتميل إلى الإفطار في الأيَّام الواقعة بينهما، وتضحِّي بخروف في كلِّ عيد. ولم تكن تفسد نظافة الشوارع، ولا تخالف نظام الاصطفاف في الطوابير في متاجر البيع، ولا ترفع صوتها، حتى إن عوملت معاملة غليظة. لقد كانت زوجة رائعة، وأُمّاً رائعة، وربَّة بيت رائعة، ومواطنة رائعة، ومسلمة عصريَّة رائعة.
عمل الزمان كالخيَّاط الماهر في حياكة قطعتي القماش اللتين غَلَّفتا حياة بيري، والمتمثِّلتين في رأي الناس فيها ورأيها شخصيّاً في نفسها. وامتزج الانطباع الذي تركته في نفوس الآخرين بتصوُّرها الذاتي ليصبحا كُلاً متكاملاً على نحو لم تعد فيه قادرة على معرفة مدى ما تحدِّده أمنيات الآخرين من يومها، ومدى ما كانت تريده هي حقّاً من ذلك اليوم. وغالباً ما كانت تشعر بدافع يحثُّها على الإمساك بدلو مملوء ماءً مغطًّى برغوة الصابون لتغسل الشوارع والميادين العامَّة والحكومة والبرلمان والبيروقراطيَّة، وتغسل معها كلّها بضعة أفواه أيضاً؛ فثمَّة قدر كبير من القذارة التي تحتاج إلى تنظيف، وقدر كبير من الكسور التي تحتاج إلى تجبير، وقدر كبير من الأخطاء التي تحتاج إلى تصحيح. وكانت عند خروجها من منزلها في صباح كلّ يوم تطلق تنهيدة هادئة، وكان في وسعها أن تُزيل بنفخة واحدة حطام اليوم الفائت. وبينما كانت بيري تطرح الأسئلة على العالم من دون كلل أو ملل، ولم تكن ممن يبتعدن صامتات في وجه الظلم، فعزمت قبل بضعة أعوام على أن تقنع بما لديها. لهذا فوجئت مفاجأة تامَّة حين وجدت نفسها في يوم معتدل وهي في سنِّ الخامسة والثلاثين، محترمة وثابتة الجنان، وقد راحت تحدِّق إلى الخواء الكامن في روحها.
طمأنت نفسها في وقت لاحق بأنَّ سبب ذلك إنَّما يرجع إلى حركة المرور: هدير وضوضاء واحتكاك الحديد بالحديد، كأنَّه صرخات حرب يُطلقها ألف محارب. المدينة برمَّتها موقع بناء واحد عملاق. لقد توسَّعت إسطنبول على نحوٍ لا سبيل إلى السيطرة عليه، وظلَّتْ تتمدَّد وتتوسَّع مثل سمكة ذهبيَّة منتفخة، غير مدركة أنَّها التهمتْ ما هو أكبر من طاقتها على الهضم، ولا تزال تبحث من حولها عن مزيد لتأكله. عندما تتذكَّر بيري عصر ذلك اليوم المنذر بالسوء، تستنتج أنَّ سلسلة الحوادث التي أيقظت جزءاً من ذاكرتها، التي كانت تغطُّ في النوم، ما كان لها أن تبدأ لولا ذلك الازدحام الخانق الميؤوس منه.
ها هما هناك، تشقَّان طريقهما في صعوبة بالغة على امتداد طريق بممرَّين توقَّف فيها السير تماماً تقريباً، بسبب انقلاب شاحنة انحشرت بين مركبات من كلّ نوع وحجم. نقرتْ بيري بأصابعها على عجلة القيادة، تقلِّب محطَّات الإذاعة كلّ بضع دقائق، في حين اتَّخذتِ ابنتُها مجلسَها في المقعد المجاور واضعة سمَّاعة على أذنيها، ولاحت على وجهها قسمات تنمُّ عن الملل. وكما هو شأن العصا السحريَّة التي تمسك بها يدان تفتقران إلى المهارة والبراعة، فقد قلبت حركة المرور الدقائق إلى ساعات، وصيَّرت البشر وحوشاً، وحوَّلت أي ذرَّة من سلامة العقل إلى جنون. بيد أنَّ إسطنبول لم يظهر عليها ما يشير إلى اعتراضها على ذلك، ففيها الشيء الكثير من الوقت والوحوش والجنون. ساعة أكثر، ساعة أقلّ، وحش أكثر، مجنون أقلّ، لا فرق في ذلك بعد أن يتجاوز العدد نقطة معيَّنة.
كان الجنون يجري في شوارع المدينة جريان دواء مخدِّر في الدورة الدمويَّة، إذْ كان ملايين الإسطنبوليين يتناولون كلّ يوم جرعة أخرى غير مدركين أنَّهم بذلك إنَّما يزدادون تشوُّشاً وقلقاً، ويصابون بلوثة في عقولهم. فالناس الذين يرفضون مشاركة الآخرين في خبزهم كانوا يشاركونهم في جنونهم بدلاً من ذلك، مع فارق واحد متمثِّل في أنَّهم كانوا يفهمونه فهماً تامّاً. هذا هو موضوع فقدان العقل الجمعي: فإذا ما راقبتْ عيون كافية الهلوسة ذاتَها، فإنَّها تتقلَّب إلى حقيقة، وإذا ما ضحك عدد كافٍ من الناس على هذه التعاسة نفسِها، فإنَّها تغدو مزحة صغيرة تُثير الضحك.
قالت بيري بغتة:
- آه، توقَّفي عن قضم أظافرك. كم مرَّة ينبغي لي أن أُخبرك بذلك؟
جذبت دينيز السمَّاعة من أذنيها رويداً رويداً إلى أسفل عنقها، وقالت:
- إنَّها أظافري.
ثم ارتشفت رشفة من الكوب الورقي الذي تقبض عليها بأصابعها.
قبل أن ينطلقا في الطريق، توقَّفتا عند «ستاربورك» - وهو واحد من سلسلة مَقاهٍ تركيَّة أقام ضدَّها مقهى «ستاربكس» الدعاوى مراراً وتكراراً أمام المحاكم، لمقاضاته بسبب استخدام شعاره وقائمة مشروباته وتحريف اسمه، بيد أنَّه لا يزال يعمل عمله بسبب التفاف قانوني يمكّنه من التهرب من الالتزامات - واشترتا مشروبين، أحدهما صغير لبيري والآخر فرابكشينو مثلوج بالشوكولا، وبالحجم الكبير، لابنتها. وفي حين فرغتْ بيري من تناول مشروبها، كانت دينيز تواصل رشفه في حيطة وحذر مثل طائر جريح. كانت الشمس خارج السيَّارة تذوب في الأفق، تصبغ بقايا أشعَّتها سطوحَ البيوت وقبابَ المساجد ونوافذَ ناطحات السحاب، بظلّ لون الصدأ المملّ نفسِه.
قالت بيري بصوت خافت:
- وهذه هي سيَّارتي، وأنت ترمين القشور على أرضيَّتها.
ندمتْ على ما قالته بعد أن هربتِ الكلماتُ من فمها: سيَّارتي!!! يا له من كلام فظيع تتفوَّه به لطفلة، أو لأي شخص، بقدر ما يتعلق الأمر بهذا الموضوع. هل أضحتْ واحدة من أولئك الحمقى المادِّيين الذين يكمن كلُّ إحساسهم بالذات والمكان في الأشياء التي يمتلكونها؟ تمنّت لو لم يكن الأمر كذلك.
لم يبد على الابنة أنَّها أُخذتْ على حين غرَّة، بل هزَّتْ كتفيها النحيلتين عوضاً عن ذلك، ورنتْ خارج النافذة بنظرة خاطفة، ثم قضمت بعصبيَّة إلى إصبعها الأخرى.
مضت السيَّارة مترنِّحة في طريقها، لتتوقَّف بعد برهة وجيزة وصرير عجلاتها ينبعث قويّاً منها. كانت من طراز «رينج روفر» بظلٍّ من ظلال اللون الأزرق يُقال له «مونت كارلو بلو». وبحسب الكشف المتوفر عند البائع، ثمَّة ألوان أخرى مثل: دافوس وايت، وأورينتال دراغون ريد، وسعودي ديزرت بينك، وغانا بوليس غلوسبلو، أو أندونيسان آرمي مات غرين. تساءلت بيري مندهشة، وهي تزمُّ شفتيها وتهزّ رأسها: من ذا الذي اختار هذه الأسماء؟ وهل كان سائقو السيَّارات مدركين أنَّ السيَّارات الصقيلة والمبهرجة التي يتباهون بها، مقترنة بزي الشرطة في غانا، أو العواصف الرمليَّة في الصحارى؟
مهما يكن لون المركبات، فإنَّ مدينة إسطنبول تحتشد بها. سيَّارات فارهة، أعداد لا حصر لها تبدو غير منسجمة في مكانها، مثل كلاب أصيلة عريقة النَّسَب تاهت في طريقها، وهامت في متاهة المدينة على نحو من الأنحاء، على الرَّغم من أنَّ قَدَرها كان أن تحيا حياة رغد وراحة: سيَّارات مكشوفة تتسابق مزمجرة وهادرة ومحبطة لعدم توفُّر الطريق الملائم لزيادة سرعتها، وسيَّارات لا يمكن لأبرع المناورات أن تحشرها بين أماكن الوقوف الصغيرة، إن كان أي منها يتوفَّر مصادفة، وسيَّارات «سيدان» باهظة الثمن مخصَّصة للسير في الطرق الريفيَّة المتَّسعة، التي لا تتوفَّر إلا في الأراضي النائية وإعلانات التلفاز.
قالت بيري:
- قرأت أنَّها الأسوأ في العالم.
- ما هي؟
- حركة السير والمرور. إنَّنا في المرتبة الأولى، تصوَّري أسوأ من القاهرة، بل أسوأ من دلهي!