هل سيتمكن الإنسان الحالي من حماية نفسه من الإنسان المرتقب؟

هل سيتمكن الإنسان الحالي من حماية نفسه من الإنسان المرتقب؟
TT

هل سيتمكن الإنسان الحالي من حماية نفسه من الإنسان المرتقب؟

هل سيتمكن الإنسان الحالي من حماية نفسه من الإنسان المرتقب؟

لقد تم اكتشاف بنية الحمض النووي، أو ما يسمى اختصارا بـ«DNA» سنة 1953 من طرف كل من جيمس واطسن، الذي كان عمره 25 سنة فقط، وهو المتخصص في علم الوراثة، وفرنسيس كريك المتخصص في الفيزياء، وذلك بعد نشر عملهما الحاسم في مجلة «Nature». وكان عبارة عن صياغة لنموذج الحمض النووي، الذي ما هو إلا شريط لولبي كدرجات السلم، مكون من قواعد كيميائية يرمز لها (A - T - G - C). هذه القواعد تترابط فيما بينها وفق تنظيمات محددة، تشكل لنا المورثات المتحكمة في الإنسان.
إن هذا الاكتشاف أدخل البشرية في قفزة هائلة في مجال علوم الحياة وبشكل فاق كل التوقعات، لكن بقدر ما خلق هذا نوعا من الإعجاب والانبهار بقدر ما أثار الخوف والتوجس. فالاجتهادات في ميادين الوراثة والإنجاب والإنعاش وزرع الأعضاء والصناعة الدوائية، والسعي وراء إطالة أمد الحياة والتخفيف من آلام الناس ومعالجة الأمراض والأوبئة... كلها أمور تزيد من ثقة الناس في العلم، فهذا الأخير يحقق حلما قديما كان يراود الإنسان وهو العيش دون معاناة، والحفاظ على الصحة وضمان أطول مدة من الشباب قصد الاستمتاع بالحياة بأقل الخسائر. لكن هذه التغيرات الجذرية في علوم الحياة جعلت البشرية تواجه وضعا جديدا غير معتاد، فهي تطرح إشكاليات جديدة من قبيل: حدود التجريب على الإنسان؟ قضية الاتجار بالأعضاء البشرية؟ وإيقاف آلام الشخص المقبل على الموت، أو ما يسمى بالموت الرحيم؟ ومسألة الأرحام المستقبلة للبويضة المخصبة؟ وهل يجوز إجهاض الجنين المصاب بمرض وراثي؟ وهل انتقاء أجنة خالية من كل العيوب الوراثية أمر مشروع؟ وما مخاطر الاستنساخ على الإنسان؟ وأخيرا، كيف ستؤثر هذه الثورة الجينية على منظومة حقوق الإنسان ؟... هذه الأسئلة ستزداد حدة بعد ثورة ما يسمى الآن: «تحديد النسل» التي دفعت إلى إعلان أن البشرية ستتجاوز الإنسان إلى مرحلة «ما بعد الإنسان».
في هذا الصدد، أصدر الفيلسوف المشهور والوزير السابق الفرنسي لوك فيري Luc Ferry كتابا جديدا بعنوان: «ثورة ما بعد الإنسان» La révolution Transhumaniste عن دار «Plon» بلون، في أبريل (نيسان) 2016. وهنا ننبه إلى أن الترجمات المتداولة لكلمة: Transhumanism متعددة نذكر منها: «ما بعد الإنسان»: «الإنسانية المتعدية» : «الإنسانية البعدية».
ينطلق لوك فيري في كتابه من إعلان أن فكرة «ما بعد الإنسان» ليست أبدا بالخيال العلمي، بل هي سائرة في التحقق يوما بعد يوم، ففي 18 أبريل 2015 قرر فريق من علماء الوراثة الصينيين إنجاز تجربة حول 83 من الأجنة الإنسانية من أجل تعديل وتحسين جينوم الخلايا الخاصة بها. هل يتعلق الأمر فقط بالأجنة غير قابلة للحياة؟ وهل التجربة تمت في إطار أخلاقي ومحدد في الزمن؟ وما نتائج هذا العمل؟... يقول لوك فيري إن الغموض يحيط بهذه الأعمال في الصين، وهو ما يجعل أسئلتنا من دون جواب.
إن الأساس من كل ذلك، بحسب لوك فيري، هو أنه أصبح من المؤكد أن تقنيات تقطيع وتطعيم وإعادة إلصاق مقاطع من الشفرة الوراثية (ADN) لدى الإنسان قد خطت إلى الأمام خطوات مذهلة، ولم تعد مجرد احتمال أو إمكان نحلم به، بل تحقيقها أصبح وشيكا وبشكل معمم، فالبشرية تمتلك الآن القدرة على إحداث تحويل جذري في الإرث الجيني للفرد، وهو الأمر نفسه الذي سبق فعله ومنذ زمن بعيد بالنسبة لبذور الذرة والأرز والقمح وهي تحويلات مشهورة تدخل ضمن إطار تكنولوجيا تسمى «Les OGM» أي الأعضاء المعدلة وراثيا، والتي خلقت قلقا وغضبا عند علماء البيئة تحت دعوة أن البشرية تنحو نحو تشويه الطبيعة، وأخذها في منحى صناعي لا ندري مآلاته وأخطاره على المستقبل.
إننا الآن نحن لا نتحدث عن النبات أو الحيوان والتغييرات المحتمل إحداثها بأعضائها ومكوناتها الوراثية، بل نحن نتحدث عن الإنسان، فإلي أي مدى يمكن الذهاب معه في هذا المسار؟ وهل سيصبح من الممكن يوما الرفع وعن قصد وإرادة ميزة أو أخرى لديه من قبيل: الذكاء، القامة، القوة الجسمانية، الجمال...؟ هل سنقدر وبسهولة على اختيار جنس أطفالنا ولون شعرهم وعيونهم؟
إن الجواب هو أننا لم نصل بعد إلى هذه الفاعلية بشكل كامل؛ نظرا لعراقيل تقنية وعلمية، بل حتى أخلاقية، ولكن نظريا على الأقل يعد الأمر ممكنا جدا؛ فلا شيء مستحيل.
إن فرقا كثيرة من الباحثين في العالم تشتغل بحمى وهوس وبجدية عالية؛ طمعا في بلوغ المقدرة على تحديد النسل، وفق المقاس والرغبة المطلوبة، ولعل الذي يساعدهم في ذلك هو التقدم الهائل والسريع في العلوم والتقنية. وللذكر، فإن هذا العمل الجبار ينجز في صمت ودون جلبة وأحيانا دون إثارة انتباه السياسيين ما عدا بعض الإشارات الإعلامية إلى درجة أن الأمر ينفلت من عموم الناس. إن البشرية بهذا التقدم البيوتكنولوجي هي بصدد تحول في أساسات الطب والدخول به في أفق جديد غير معهود، فإذا كان قديما يسعى الطب إلى «إصلاح» الأعضاء المعطوبة فإنه الآن يسعى إلى «تحسين» عمل الأعضاء.
لقد جاء كتاب لوك فيري «ثورة ما بعد الإنسان» بعد مرور 14 سنة من ظهور كتابي فوكوياما وهابرماس، كتتمة لهما وليؤكد الفكرة نفسها، وهي أن البشرية بحق، أمام مستجد عالمي مبهر ومخيف في الآن ذاته، وهو ما يضطرنا إلى التفكير واستباق الأسئلة العميقة التي تثيرها مسألة: «سلطة الإنسان على الإنسان» سواء على المستوى الأخلاقي، السياسي، الاقتصادي، بل الروحي أيضا... وهنا يستشهد لوك فيري بأحد أكبر المروجين لمشروع ما بعد الإنسان وهو: Nick Bostrom العالم والفيلسوف السويدي الذي يدرس بأكسفورد؛ إذ يقول: «سيأتي اليوم الذي تصبح فيه إمكانية الرفع من قدراتنا الذهنية، الجسدية، الوجدانية والروحية بشكل يتجاوز ما يبدو متاحا اليوم، وآنذاك سنخرج من الطفولة الإنسانية لندخل إلى ميلاد ما بعد الإنسان».
إن الأمر وشيك، فهل سيكون الإنسان القديم مستعدا لحماية نفسه من الإنسان المرتقب؟



قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.