«موت صغير»... خيارات السرد

اختيار علوان لسيرة صوفي شهير يضع ثيمة الحب في منظور مختلف

محمد حسن علوان
محمد حسن علوان
TT

«موت صغير»... خيارات السرد

محمد حسن علوان
محمد حسن علوان

في لقاء تلفزيوني أجري معه بعد فوز روايته «موت صغير» بالبوكر لعام 2017، أشار محمد حسن علوان إلى أن عنوان الرواية هو وصف محيي الدين بن عربي للحب: «الحب موت صغير». وأكد الكاتب أن تلك العبارة/ العنوان ستؤوّل تأويلات كثيرة، وهذا متوقع بطبيعة الحال، لا سيما أنها تتصل بثيمة الحب التي شغلت علوان في روايات سابقة، والتي تلعب دون شك دوراً حتمياً في تقريب كثير من القراء. غير أن اختيار الكاتب لسيرة صوفي شهير، شخصية حقيقية وثقيلة الوزن ومثيرة للجدل مثل ابن عربي، ستضع ثيمة الحب في منظور مختلف، بقدر ما يثير اختيار العنوان أسئلة حول عملية السرد نفسها، وما تنطوي عليه من خيارات لا بد منها.
نحن أمام رواية هامة دون شك، عمل يشعرك بجدية الكتابة الروائية التي يستسهلها البعض، فيدخل في إسهال كتابي بتنا نراه حولنا، تتحول فيه الروايات إلى نصوص لا رابط لها سوى استدرار انتباه القارئ بموضوعات أو أحداث تدغدغ الحواس، أو تثير الجدل على نحو سطحي. وإذا كان هناك من اتهم علوان في بعض أعماله السابقة بالاقتراب من ذلك المزلق الكتابي، فإن تهمة كتلك أبعد ما تكون عن عمل كالذي أمامنا. ثمة جهد بحثي، وخلفية معرفية مميزة غذت العمل، إلى جانب المهارة القصصية العالية التي تجعل الستمائة صفحة متعة قرائية مثرية ومدهشة في آن. تذكرت بعض روايات التركية إليف شفق، سواء في استحضارها لتاريخ التصوف، عبر شمس التبريزي وجلال الدين الرومي، في «قواعد الحب الأربعون»، أو في إعادتها بناء تاريخ إسطنبول في «المتمهن»، وما تنضح به روايات كتلك من جهد بحثي، نجد ما يشبهه لدى روائيين آخرين، يقف التركي الآخر باموق بين أبرزهم. ثمة جدية في الكتابة هنا، كما هناك تتجاوز بالقراءة متعة الحكاية إلى ثراء المعرفة، من خلال الأفكار والرؤى، واستحضار التاريخ، ورسم الأماكن والشخصيات.
ما استرعى انتباهي بشكل خاص - وما استرعى انتباهي كثير في عمل كبير كهذا - وأود التوقف عنده في حيز «صغير» كالمتاح لي هنا، هو ما سميته «خيارات السرد»، ذلك الملمح الذي يستهويني قارئاً تشغل مخيلته أحياناً عملية النسج الروائي التي بطبيعتها تشغل الكاتب قبل القارئ، ليقف أمام مسارات كثيرة، وأبواب مختلفة، عليه أن يختار منها، وأن يحسن الاختيار. التأمل في تلك الخيارات يتيح لنا أن نتخيل ماذا كان يمكن أن تكون عليه الرواية لو أنها سارت في هذا الاتجاه دون ذاك، لنكتشف من ثم، أو نقارب على الأقل، طبيعة التأليف السردي. نسأل لماذا اختار الكاتب هذه الشخصية دون تلك، أو لم يطور هذه القضية بدلاً من قضايا أخرى، أو لم يواصل السير في هذا الدرب من الحكاية واختار التوقف؟ سنتذكر أن الكتابة رحلة كما هي القراءة. وفي رواية تتمحور حول الرحلة، يكون التأمل في أسئلة كتلك محورياً، فيما يبدو لي. لقد ذكر علوان في أحد اللقاءات التي أشرت إليها أنه اكتشف حين بحث في حياة ابن عربي ضآلة المتوفر من المعلومات حوله، وأن ذلك كان منطلقه للكتابة الروائية، فهو مسار للقص اقترحه ضعف المسار التاريخي، أي أن اختيار ابن عربي انبنى على كثرة الفراغات حوله، مما يمنح النص الروائي فضاء أوسع للتحرك، على عكس الشخصيات المثقلة بالمعلومات حولها، التي ستقلل - كما يفترض - من فرص المخيلة في اختلاق الحكايات.
كان ذلك هو الخيار الأول والرئيس بطبيعة الحال: ابن عربي وليس ابن رشد مثلاً، أو ابن عربي وليس الحلاج، وهكذا. لكن الرواية تزخر بخيارات أخرى، ومن تلك حضور ابن رشد على هامش الرواية، من حيث هو فيلسوف عاصر ابن عربي، وإن كان أكبر منه سناً. وقد اختار علوان أن يصف لقاءً لهما في قرطبة أعجب فيه الفيلسوف الشهير بالصوفي الشاب القادم مع والده. لكن ما استرعى انتباهي هو أن الفصل (19)، الذي سجل التعارف ثم الحوار بين اثنين من أهم العقول التي أنجبتها الحضارة العربية الإسلامية في المغرب والأندلس، تضمن اختياراً آخر، هو ألا تتوغل الرواية في الجوانب الفكرية بعد أن أومأت إليها. هنا يظهر الفرق بين عقلانية ابن رشد وعرفانية ابن عربي؛ ابن رشد الذي يؤمن بقوانين العقل، وأن العالم مجبول على الانتظام وفقها، وابن عربي الذي لا يؤمن بتلك القوانين، ويرى أن الخالق يقرر ما سيحدث دون قوانين. لكن اللافت هو بتر الحوار عند اشتداده، كأنما بدا لعلوان أن الاستمرار سيخرج الرواية عن مسارها القصصي الممتع إلى جدل فكري ليس هذا مكانه.
الخيار الثاني الذي يبدو لي أكثر إثارة من سابقه هو المتعلق بالموت الصغير، بالعشق الذي يغرق فيه ابن عربي في مكة وقد أصبح صوفياً كبيراً يبحث عن وتده الثالث من أربعة أوتاد، وهم باختصار الأشخاص ذوو الصفات الروحانية الذين يحتاج الصوفي الشهير إلى لقائهم لكي يصل إلى أعلى مراتب التصوف، وهي أن يكون قطباً. يلتقي ابن عربي بالفتاة الباهرة الجمال نظام، فيجد الصوفي في نفسه جانباً إنسانياً بعيداً عن مواجده وزهده بالدنيا، ويجد علوان أمامه مادة ثرية للون من الكتابة يجيده، ويعلم أن قراء كثيرين سيستمتعون به. يلتقي ابن عربي الفتاة عند عمة لها، اسمها فخر النساء؛ امرأة مسنة عالمة يتلقى منها الكثير، ومن ابنة أخيها أكثر. ويدخل الصوفي في علاقة ماكرة مع الفتاة تتجلى في هذه الفقرة:
«وانشغلت بي العجوز المسكينة، فأصبحت أقرأ عليها كتباً قد قرأتها من قبل، فلا تدري لأنها نسيت. وأغمز لنظام وتغمزني، فنبدأ كتاباً جديداً نعلم أنه سيستغرقنا أسبوعاً من الزمان، أسبوعاً من التحليق في جبين نظام الوضاء مثل طائر ضائع، أسبوعاً من التأمل في حسنها الأصفهاني الأصيل مثل شاعر مبتدئ، أسبوعاً من القبلات التي تتهادى في الفضاء حتى تحط على فمها مثل ورقة خريف متعبة» (الفصل 50).
القصائد التي كتبها ابن عربي في نظام تتحول إلى الديوان الشهير «ترجمان الأشواق»، الذي يلاحقه عند رحيله عن مكة، ونزوله الأول في دمشق. ويرى الكثيرون، ومنهم بعض أتباعه، أن فيه مجوناً لا يليق بصوفي مثله، فيهاجمونه، ويسعى هو إلى إعادة كتابة الديوان بشروح توضح أنه ذو رمزية دينية، لكنها محاولة إن أقنعت قراءه آنذاك، فلن تقنع بعض قرائه الآن، ضمن النص الروائي على الأقل. لكن الأهم من ذلك هو أن الرواية في تصورها التخيلي لابن عربي ترسم جانباً إنسانياً من شخصيته كان يمكن لعلوان التوغل فيها، لكنه مرة أخرى آثر أن يحتفظ بالتوازن في رسم شخصية الصوفي الشهير، فيكشف لنا أن نظام هي وتد ابن عربي الثالث، بدلاً من أن تكون معبراً إلى المزيد من التوتر الناشئ في شخصيته عن صراع الرغبات المكبوتة داخله. يؤثر الكاتب أن يعود بنا إلى حياة ابن عربي الفكرية والروحية، وإلى حياته الأسرية ومرافقيه وعلاقاته بالحكام ومناظراته للفقهاء، وبالطبع رحيله الذي لا يكاد يتوقف.
يتبقى أن أشير إلى خيار سردي بارز في الرواية، هو الرحلة التي تسير فيها مخطوطة لابن عربي في موازاة رحلته الفعلية، لتشكل عملاً سردياً ثانوياً يؤطر العملية السردية الرئيسة. وتتكرر الإشارة إلى تلك المخطوطة في فصول مستقلة، ابتداءً من القرن الثالث عشر الميلادي في الأندلس حتى عام 2012 في بيروت، حيث يجري تداولها، ولنتذكر باستمرار أننا أمام عمل روائي متخيل، فتتجاور الحكاية مع ما وراء الحكاية (الميتافكشن). هذا مع أنني لم أجد إقحام المخطوطة مقنعاً تماماً، فعلاقتها بالسرد الرئيس ضعيفة، وإضافتها محدودة (على نقيض ما نجد في «قواعد الحب الأربعون» مثلاً، حيث تتوازى حكاية حب معاصرة مع حكاية الحب الصوفية القديمة). ومع ذلك، فإن المحصلة النهائية للرحلتين متعة أخرى سترحل مع القارئ حين يغلق صفحات هذا العمل المميز.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.