أفلام كردية في مهرجان لسينما تؤكد هويتها الخاصة

أفلام تجوب الأرض الموعودة

 من «قبل سقوط الثلج»
من «قبل سقوط الثلج»
TT

أفلام كردية في مهرجان لسينما تؤكد هويتها الخاصة

 من «قبل سقوط الثلج»
من «قبل سقوط الثلج»

غدا السبت، تنطلق الدورة الثامنة من مهرجان الفيلم الكردي في لندن وتستمر حتى 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. خلال الفترة سيعرض المهرجان 121 فيلما، من بينها 23 عملا طويلا، و52 فيلما قصيرا، وثمة 46 فيلما تسجيليا.
هناك مسابقة للأفلام القصيرة تحتوي على 20 فيلما تتنافس على جائزة باسم المخرج الكردي -التركي الراحل (بعد طول مناهضة للسلطات التركية في الستينات والسبعينات) يلماز غونيه.
ما تكشفه هذه الأرقام هي الوفرة. قبل سنوات ليست بالبعيدة، كان من اللافت وجود فيلم من إخراج سينمائي كردي واحد. كان الحديث في المهرجانات العربية هو إذا ما كان من الصحيح تقديم الفيلم تحت هذا الاسم أو بالانتماء إلى البلد الرسمي الذي جاء المخرج منه، أو إلى جهة إنتاجه. اليوم تغير الوضع، لأنه بصرف النظر عن المعطيات السياسية، فإن الأفلام التي قام مخرجون أكراد بتحقيقها عاما بعد عام في السنوات الأخيرة، باتت تشكل كيانا لا يمكن تجاهله. واللافت هي أن الكثير منها أفلام جيدة ومشغولة بحرفة ممتازة.
هذا يتضح في أكثر من فيلم توفره هذه المناسبة لخليط من المشاهدين العرب والأكراد والغربيين الذين سيتابعونها. خد مثلا الفيلم الجديد لناهد قوبادي «حول 111 فتاة» المصور في إيران والحامل موضوعا جديرا بالطرح.
إنه حول موظف الدولة (رضا بهبوني) الذي ينطلق من العاصمة إلى الإقليم الكردي بحثا عن 111 فتاة كردية كتبن رسالة يعلنَّ فيها عن إقدامهن، خلال أربعة أيام، على الانتحار جماعيا. للإيضاح، ليس الانتحار احتجاجا على عدم وجود أزواج فقط (بعد حروب مات فيها كثير من الرجال على أي حال)، بل على وضع اجتماعي لا يتحسن تركهن وحيدات ويائسات. الموظف يهرع لفعل شيء ما لإنقاذهن.. ينتقل بالسيارة من مكان لآخر في تلك الجرود والجبال باحثا عنهن ومتسابقا مع الزمن.. خلال هذه الرحلة نجد عين المخرجة (قريبة المخرج المعروف بهمان قوبادي) على الوضع بأسره. المجتمع الذي بدلا من صرف جهده لتوفير مناخ عيش مقبول، يلاحق شابا مكبلا ومغطى الرأس بتهمة الزنا. طريفة تلك المشاهد التي نرى فيها ذلك الرجل وهو يركض في الطرق الريفية مقيد اليدين ورأسه مغطى بكيس قماشي، ثم حزينة تلك المشاهد التي نرى فيها إحدى النساء وهي تكشف عما يجول في بال المجموعة التي ستقدم على الانتحار.
في الحقيقة، بين المشهد الطريف والمشهد الحزين يتناوب الفيلم بأسره، لكن الطرافة من النوع الدال تماما كالمشهد المثير للحزن. في أحد تلك المشاهد تنقلب السيارة التي يستقلها الموظف ورفيقاه (رجل من الإقليم وصبي يعرف تضاريس القرى المحيطة). يمر أربعة رجال أكراد على تلك الطريق الجبلية ويهبون للمساعدة.. حين يعيدون السيارة إلى وضعها الصحيح، تتدحرج أمام أعين الجميع وتهوي إلى الوادي.
لكن الفيلم ليس كوميديا على الإطلاق.. فيه من دراما المواقف ما يواصل نقده لكل الأطراف: المسؤولون الإيرانيون الذين لا يكترثون، والأتراك الذين يرسلون إلى الحدود 111 شابا للزواج من الفتيات قبل تنفيذ انتحارهن، والكرديات اللاتي يودعن الحياة بلا نضال.. كل ذلك محوره هذا الموظف الذي يريد أن يفعل شيئا لكنه لن يستطع.

* رحلة إلى النرويج
«قبل سقوط الثلج» هو فيلم ثان تراه لندن للمرة الأولى (كشأن معظم هذه الأفلام). هذه الدراما القاسية آسرة بإدارة مخرج كردي من العراق اسمه هشام زمان. بعد رحيل أبيه أصبح الفتى سيار (عبد الله طاهر) هو سيد البيت وينتظر من شقيقته نيرمين الزواج ممن وافق عليه وليس ممن تحب.. حين تهرب من القرية متسللة إلى تركيا ومنها إلى النرويج. سيار سيعد ذلك ليس خروجا عن الطاعة فحسب؛ بل فعل على شقيقته أن تدفع ما يمحوه من دمها بما يغسل شرف العائلة. سيتسلل، بالاختباء داخل صهريج، إلى تركيا ويحط في إسطنبول، ثم يبحث عن شقيقته ويجدها، لكنها تهرب. سيلتقي هناك بفتاة مهاجرة تتخفى في شكل صبي حتى تتحاشى صنوف الإساءة إليها.. سيكون الوحيد الذي يعرف جنسها الحقيقي في الرحلة التي يشترك فيها صوب النرويج، حيث علم بأن شقيقته حطت فيها. من دون كشف مزيد من الأحداث، فإن الجزء الذي تقع مفارقاته في تركيا يتولى تقديم الوضع الاجتماعي المعقد لمدينة تعج بالمهاجرين المعوزين والباحثين عن القدر الأدنى من الأمان (عرب وأكراد وسواهم). هذا الجزء هو الثاني من ثلاثة أجزاء من العمل بحسب الانتماء الجغرافي.. الأول في شمال العراق، والثاني في تركيا، والثالث في النرويج. ومع أن سيار هو المحرك الأول للأحداث والفاعل الرئيس لها، إلا أن لكل جزء من الفيلم نسيجا فنيا يتجاوزه. تصوير جيد للبيئة قبل أن يعود وجود سيار وفتاته في ثلوج النرويج إلى حيز الحكاية الفردية أكثر مما سبق.
معايشة حقيقية وموضوعية فذة من المخرج ترصد متاعب وآمال وآلام بطله على نحو حافل بالملاحظات. تقنيا لعله أفضل الأعمال المتوفرة من حيث حرفية التنفيذ ومنح الفيلم ما يحتاجه من عناصر إنتاج لكي يبدو على النحو الفني المتكامل الذي هو عليه.

* رجل القانون
وهناك رحلة ثالثة تجوب الأنحاء في «بيكاس» لكرزان قادر: حكاية شقيقين ينويان السفر إلى أميركا.. لا مال ولا جواز سفر، لكنه حلم يتراءى لهما معتقدين أن أميركا تكمن خلف جبال كردستان العراق. سبب الوله هو شخصية سوبرمان الذي يعتقدان أنه كما صورته السينما لهما. على هذا الوعد ينطلق أحدهما في محاولة تدبير شؤون السفر، والثاني في إثارة الحماس له، وبعد قليل هاهما يدخلان معتركات الاستنتاج الطبيعي بأن هذه الرحلة ليست ممكنة؛ بل هي خطرة.
على الرغم من قدر من حسن التنفيذ مع اختيار جيد لأماكن التصوير، هناك سذاجتان: واحدة عند الطفلين، والأخرى لدى المخرج الذي لم يستطع التعامل جديا مع الحلم المستحيل واكتفى بالعرض المسلي وحده. يبقى فيلما لافتا وربما جماهيريا لمن لا يبغي من الفيلم أكثر من هذا الشأن.
مثل هذا التعامل الأجدى موجود في فيلم هينر سليم (أشهر مخرج كردي بجانب بهمان قوبادي) «أرض حلوة.. أرض مرة» الذي يتعامل ورجل قانون جرى تنصيبه على قرية قريبة من الحدود الإيرانية والتركية حيث ينشط التهريب. ليست هناك عصابة واحدة؛ بل عصابتان؛ الأولى قوامها نساء مهربات، وهذه لا تتعاطى في الشأن الداخلي. الأخطر منها عصابة من المترئسين والنافذين تريد الإطاحة بالقانون. يُقرأ الفيلم كما يُقرأ فيلم الوسترن (مع بطل يرتدي القبعة ومسدسات حول الخصر وجياد وطبيعة إلخ..)، لكنه يبقى عملا كرديا اجتماعيا خاصا وجديرا بالإعجاب. السبب هو أن سليم يودع في هذا النوع من السينما كيانا طبيعيا وقابلا للتصديق حول ما يواجهه الاستقلال الكردي الذاتي من عوائق. ولسان حاله يقول إن الاستقلال الذاتي والخروج من تبعات مرحلة سابقة شيء، والقبول بالقانون واحترام سيادته شيء آخر.

* البحث عن هوية
مع غياب دولة كردية كاملة ومستقلة، فإن ما يمكن تسميتها «سينما كردية» لا تعدو حاليا أفلاما يخرجها سينمائيون أكراد يعيشون في العراق أو في إيران أو في تركيا أو في بلاد الغرب. إنتاجيا، كثير من هذه الأفلام يستفيد من تمويل متعدد النطاق تشترك فيه شركات فرنسية أو ألمانية أو هولندية. هذا النوع من الإنتاج قائم حتى بالنسبة للأفلام العربية من دول مختلفة. يبقى الموضوع وشخصياته.. هذا الجانب هو وحده ما يمكن الاتكال عليه في تعريف وتحديد هوية الفيلم الكردي أكثر من سواه.



السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
TT

السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)

في مجمله، كان عام 2025 نقطةً مفصلية في مسار السينما على أكثر من صعيد. بدقّة عالية يمكن تحديد العام الحالي على أساس نقطة تفصل بين ما قبله وما بعده، تماماً كما حدث عندما داهم وباء «كورونا» العالم قبل 5 سنوات، فوجدت السينما، كغيرها من القطاعات، نفسها في موقع التحدي والمواجهة.

لكنّ ما يحدث هذه المرّة يختلف؛ فالسينما تدخل عصراً جديداً تبلورت ملامحه في الأعوام السابقة، ثم تجسّد عام 2025 بوصفه واقعاً ثابتاً وقوة مؤثرة في مختلف عناصر الصناعة. الإحاطة بهذه التطورات تكشف حجم تأثير دخول التقنيات إلى عمق البنية الصناعية للسينما.

«بوليت» المطاردة تبدو واقعية لليوم (وورنر)

استبدال شامل

حتى سنوات قليلة مضت، ظلّ إنتاج الأفلام يجري بالطريقة التقليدية: الموافقة على المشروع، ومن ثَم تطويع كل الإمكانات الفنية والتقنية لخدمته وفق موضوعه ونوعه. وكان من المعتاد اللجوء إلى تقنيات الكمبيوتر غرافيكس لإتمام ما يصعب تحقيقه واقعياً، مثل مشاهد مطاردات السيارات في أفلام مثل «بولِت» (Bullitt) 1968، و«ذَ فرنش كونكشن» (The French Connection) 1971، و«رونَن» (Ronin) 1998، التي كانت تُنجز بجهود بشرية شاقة وبمخاطر حقيقية.

اليوم تغيّر القاموس التنفيذي بالكامل. بات في الإمكان تصوير ممثل يركض في «شوارع باريس»، وهو في الحقيقة واقف داخل ستوديوهات «يونيڤرسال»، أمام شاشة خضراء. ويكفي عقد مقارنة بين تلك الأفلام الكلاسيكية وأي فيلم من سلسلة «Fast and Furious» للتأكد من حجم التحوّل.

لكن المدّ لا يتوقف هنا. فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي شهد هذا العام قفزة جديدة. صار من الممكن، تنفيذ الفيلم من السيناريو إلى الشاشة عبر منظومة غير بشرية بالكامل: كتابة، إخراج، تصوير، مونتاج، بل وحتى أداء الممثلين.

دافع رئيس

قبل أسبوعين، اعتلى المخرج غييرمو دل تورو منصّة «أميركان فيلم إنستتيوت» لتسلُّم جائزته عن فيلمه الجديد «فرانكنستين»، ونال تصفيقاً حاراً حين أعلن: «فيلمي فني في كل لقطة. خالٍ بنسبة 100 في المائة من الذكاء الاصطناعي».

وعلى الرغم من هذه المواقف، يبقى الدافع الأساسي لاعتماد التقنية واضحاً: تقليص الميزانيات الضخمة للأفلام التجارية. فالذكاء الاصطناعي قادر على خفض التكاليف إلى النصف تقريباً، بحيث تبقى الرواتب هي العبء الأكبر وحدها.

وهذا يتقاطع مع استعداد جمهور واسع لقبول كل ما يقدّم له ما دام يحتوي على جرعات عالية من الأكشن والخيال، دون الاكتراث بما إذا كان الفيلم «بشرياً» أم مُنتجاً آلياً.

«فرانكنستين» 100 في المائة سينما (نتفليكس)

تفكير بالنيابة

يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي (AI) أنّه يطوّر بصريات الفيلم ويجوّد مؤثراته، لكن هذا صحيح بقدر محدود. فالسينما بلغت قممها على أيدي فنانين أكفّاء صنعوا روائع مثل «ووترلو»، أو «بوني وكلايد»، أو «لورنس العرب»، أو «صنست بوليڤارد»، أو «القيامة الآن».

ما يطلبه الذكاء الاصطناعي ببساطة هو: «لا تفكّر... سأفكّر نيابةً عنك».

وهو ما يشبه ما حدث مع الهواتف الذكية وخرائط «غوغل»: استبدال الجهد الذهني بالاعتماد التام على التقنية.

ولا يعمل الذكاء الاصطناعي وحده في هذا المسار. فعام 2025 هو الامتداد الأكثر شراسة لما بدأ قبل سنوات مع المنصّات المنزلية، التي توفّر عليك مهمّة الانتقال إلى صالات السينما. غايتها ليست راحتك ولا حتى مساعدتك على الحد من النفقات (لم ترتفع أسعار التذاكر إلى المستوى الحالي إلا كرد فعل على انخفاض الإقبال) بل مد أصابعها إلى محفظتك كل شهر. أنت بالتالي، وعلى عكس روعة الحضور الفعلي لصالة السينما، لست أكثر من رقم محفوظ ومصمم لكي تُفيد جهة لن تقوم مطلقاً بتوفير أفلام فنية أو تعالج موضوعات جادّة بفاعلية طالما إنها ليست مطلب الجمهور.

وفي هذا السياق جاء هجوم «نتفليكس» الأخير لشراء «وورنر»، في خطوة توسّع رقعة هيمنة المنصّات. بينما جاء دخول «باراماونت» على خط الاستحواذ لعرقلة هذا التفرّد وإعادة بعض التوازن إلى المنافسة.

لكن السينما المناوئة لم تُهزم بعد وتجد في المهرجانات الفنية مساحة كبيرة للمقاومة كما في مواقف مخرجين يدركون جيّداً أن عليهم الصمود في وجه هذه التيارات.


شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
TT

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)

THE SECRET AGENT ★★★★

إخراج: ‪ كلايبر مندوزا فيلو‬

البرازيل | تشويق سياسي

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

يتألّف هذا الفيلم الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «ڤينيسيا» هذا العام واستُقبل جيداً في مهرجان البحر الأحمر قبل أيام من 3 أقسام، كل منها بعنوان مختلف، لكن ليس بغرض سرد 3 حكايات مختلفة، بل لربط أحداث كل فصل وشخصياته بخيط واحد يتناول، بالإيحاء غالباً، الجريمة السياسية في البرازيل سنة 1977. وسواء تحدّث القسم الأول عن جرائم قتل ارتكبها نظام تلك الفترة ضد المواطنين، أو رغبة بطل الفيلم مارسيلو (واغنر مورا) في البحث في أرشيف الدولة عن تاريخ عائلته (القسم الثاني)، أو لجوئه للتخفي بعيداً عن أعين مطارديه في محاولته لإعادة فهم وتقييم الواقع المُعاش (عموم الأقسام الثلاثة)، فإنه يوفّر من خلال شخصية بطله نظرة جامعة لأثر الاضطهاد السياسي على حياته فرداً وحياة الآخرين مجموعةً. وهو يفعل ذلك بدراية كاملة وبحرية فنية تجعل الفيلم أكثر إشباعاً لمحبي السينما وتمنح المُشاهد معالجة تبدو كما لو كانت مستقاة من خطوط أحداث لا نراها، بل نعايشها كما نعايش الماثل أمامنا. هذا كان شغل فيلو منذ فيلمه الأول «أصوات مجاورة» (Neighboring Sounds) وما زال شغله الآن، حيث ما نراه وما لا نراه يتساويان في الإيحاء والأهمية.

يستخدم فيلو السينما مرآة تعكس ذاكرة تقض المضاجع. مارسيلو يعيش في ماضيه كما في واقعه الحالي. يلجأ إلى بلدة تعيش طقوساً احتفالية لا يأبه لها كثيراً، إذ إن غايته إعادة الوصل بينه وبين ابنه الذي يعيش في الخيال. كل هذا والشعور بأن السلطة والعاملين فيها أو متعاملين معها موجودون عن قرب، حتى وإن لم نرَ لهم حضوراً فعلياً.

يتحرك الفيلم بحرية بين موضوعاته وأقسامه، غير مرتبط بمنهج سرد معيّن، ولكثرة مشاغله وما يود البحث فيه هناك تطويل يطغى، لكنه يبقى قادراً على جذب الاهتمام طوال الوقت. ما يتبلور على الشاشة هو عمل يجمع بين سيرة شبه شخصية لرجل يرفض نسيان الأمس وبين حب السينما كلغة تعبير، وثقة المخرج بالكيفية التي ينجز فيها مفرداته هذه.

BLACK RABBIT‪,‬ WHITE RABBIT ★★★

إخراج: شهرام مقري

طاجيكستان/ الإمارات العربية

المتحدة | دراما

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

هذا فيلم غريب يُقدّر لحريّة المخرج في معالجته المبنية، بوضوح، على الخروج من شروط السرد المعتمد عادةً إلى آخر يتطلّب من المُشاهد التحرك بالاتجاه نفسه، متجاوزاً بدوره ما اعتاد عليه.

«أرنب أسود، أرنب أبيض» (مهرجان البحر الأحمر)

يدور في أرض تعود إلى استوديو حيث يُصوَّر فيلمان معاً في رقعة واحدة. رغبة المخرج مقري تعتمد على الإكثار من استخدام حريّته في رصف الفيلم الذي يريد كما يريده. هذا يخلق وضعاً تتكرر فيه المشاهد والحوارات، كما الحال عادةً خلال صنع الأفلام. نرى المشهد نفسه مع تغيير طفيف أكثر من مرة، تبعاً لرؤية مخرج يهوى التجريب ويراه مدخلاً مناسباً لسينماه. امرأتان ورجل ومسدس قديم هم محور ما يدور، لكن في وسط ما يبدو تكراراً، حضور لطبقات جديدة تتوالى الظهور.

من حسنات الفيلم التصوير (لمرتضى غايدي)، الذي يؤسس لنظام عمل متكامل يتواكب مع رغبة المخرج في تشغيل مخيلة المُشاهد وتعزيز أسلوبه. في أحيان كثيرة، يؤدي ذلك، ولو بالقصد، إلى الخلط بين الحدث الذي يقع في الفيلم الذي نراه، وذلك الحدث الآخر الذي ينطوي عليه الفيلم داخل الفيلم.

LOST LAND ★★★

إخراج: أكيو فوجيموتو

اليابان/ ماليزيا/ فرنسا

دراما عن الهجرة

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

لا بد أن الشعور الإنساني في صميمه هو ما يدفع مخرجاً يابانياً للانتقال إلى بنغلاديش لتصوير موضوع محلي الحدث مع شخصيات محلية بدورها.

«أرض مفقودة» (مهرجان البحر الأحمر)

في «أرض مفقودة» متابعة لمصير صبي في الرابعة من العمر وشقيقته ابنة التاسعة، وقد قررا الاشتراك في رحلة تبدأ في حافلة تقل عشرات الأشخاص وتنتهي بهما بعد أيام من المشاق، وقد أصبحا وحيدين. مما يتبدى أن غاية المخرج فوجيموتو هي الحديث عن الهجرة غير الشرعية عموماً، مع تمهيد للشخصيتين قبل التحوّل عنهما لتصوير آخرين يؤمّون الهدف نفسه ويعيشون مصاعبه. سيعود المخرج للصبي شافي وأخته سميرة لاحقاً بعد أن يؤسس صورة عامة.

رغبة هذين الولدين هي ترك بنغلاديش في محاولة للقاء والديهما اللذين كانا قد هاجرا إلى ماليزيا. ليس هناك كثيراً لتداوله حول ظروف ما قبل قرارهما بالهجرة، لكن الحكاية تنتهي بهما وقد وجدا نفسيهما في تايلاند. على ذلك، يلتقي هذا المنهج مع حقيقة أن الشخصيات المحيطة تهاجر من دون القدرة على اتخاذ قرارات صائبة. في عموم الفيلم، هم آملون بمستقبل أفضل في عالم لا أمل فيه بالنسبة إليهم على الأقل.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
TT

شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

بين حضور دولي، بدأ مع فيلم «سيدة البحر» عام 2019، وصولاً إلى اختيار فيلمها الجديد «هجرة» لتمثيل السعودية في سباق الأوسكار 2026، تبدو المخرجة السعودية شهد أمين أكثر وضوحاً في صياغة رؤيتها السينمائية، خاصة أن الفيلمين يتقاطعان في السرد النسوي، حيث يقدمان نظرة لأحوال المرأة ومعالجة عميقة لقصصها.

وفي حوار أجرته معها لـ«الشرق الأوسط» من داخل مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة، حيث يشارك فيلمها في المسابقة الرسمية، جاء السؤال الأول عن هذا التقاطع، لتجيب: «كنتُ واعية تماماً وأنا أعمل على (هجرة)، فأنا لا أريد تكرار نفسي، ولا تقديم فيلم يشبه (سيدة البحر)... أردتُ أن أكتب من نقطة مختلفة، من اللحظة التي نعيشها الآن، ومن السؤال الذي يشغلني شخصياً: ما الذي أريد قوله للعالم اليوم؟».

نساء الأجيال الثلاثة

أمين، التي تقدم في «هجرة» رحلة المرأة السعودية عبر 3 أجيال، تشير إلى انزعاجها من الفكرة الدارجة اليوم حول تصوير «المرأة المعاصرة» بوصفها النسخة الوحيدة الصحيحة، وكأنها جاءت لتُصحّح أخطاء الأجيال السابقة من الأمهات والجدات وكل النساء السابقات، مضيفة: «شعرتُ أن هذه النظرة فيها قدر من النرجسية». وتتابع: «نحن نرى الحياة اليوم من منظور معاصر ومختلف جذرياً، لكن هذا لا يعني أن تفكيرنا هو الصحيح وتفكيرهنّ هو الخطأ... كنتُ أريد أن أعطي حقاً للنساء اللواتي جئن قبلنا».

وتمضي لشرح رؤيتها التي تشكلت في «هجرة» قائلة: «أردتُ أن أقدم أجيال النساء من دون أحكام... نعم، هناك صراع بين الأجيال، لكنه صراع ينتهي بتفاهم، وبإدراك أن اختلافنا طبيعي وليس تهديداً. اليوم، العالم كلّه يضغط ليجعلنا نموذجاً واحداً، وفكرة واحدة... بمعنى: إذا لم تشبهني فأنت مخطئ أو شرير أو مريض. بينما الحقيقة أننا يمكن أن نختلف، ونظل نتقبّل بعضاً».

فيلم هجرة يتناول العلاقات المتشابكة بين أجيال من النساء (الشرق الأوسط)فيلم «هجرة» يتناول العلاقات المتشابكة بين أجيال من النساء (الشرق الأوسط)

«هجرة»... الحكاية العميقة

حضرت «الشرق الأوسط» عرض فيلم «هجرة» في المهرجان، حيث شهد إقبالاً كبيراً وبيعت التذاكر بالكامل، والفيلم الذي يأتي من بطولة خيرية نظمي ونواف الظفيري والوجه الصاعد لمار فادن، تعود قصته لعام 2001، حين تقرر الجدة اصطحاب اثنتين من حفيداتها لأداء فريضة الحج، وبعد أن تتوه واحدة منهما، تقرر الجدة في لحظة صعبة أن تترك الحج وتبحث عن حفيدتها الضائعة، وخلال الرحلة يتكشف الكثير من الأسرار.

شهد أمين حرصت على إظهار واقعية العلاقة الإنسانية بين الجدة والحفيدة، بعيداً عن الحوارات المطولة والتعابير المبالغ بها، حيث برزت لغة العيون والإيماءات بشكل أكبر في أداء كل شخصية، كما أظهرت تفاصيل ما يحدث حول رحلة الحج ذاتها، والشخصيات الهامشية التي تعيش على بيع السبح وماء زمزم وتوصيل الحجاج، والطقوس التي تعصف بالمكان في تلك الفترة الغنيّة بالقصص والأحداث، ما يجعله فيلماً ينحاز للعمق وصدق التجربة.

الأوسكار... الواقعية قبل الحلم

وبواقعية شديدة، تجيب أمين حول سؤالها عن فرص فيلم «هجرة» في الوصول إلى القائمة القصيرة ومن ثم النهائية للأوسكار، قائلة، «دعينا نقول إن الوصول إلى القائمة القصيرة هو الخطوة الأهم... وبصراحة، كل مخرج يكون لديه قدر من التفاؤل في هذه المرحلة، لكن يجب أن نكون واقعيّين؛ لأن الوصول إلى الأوسكار لا يعتمد فقط على جودة الفيلم، بل يحتاج أيضاً إلى حملة إعلامية ضخمة في لوس أنجليس».

وتستكمل حديثها: «نتمنى الوصول إلى القائمة القصيرة، لكني أرى أن الوصول إلى القائمة النهائية صعب جداً... ومع ذلك، لم لا؟ نقول إن شاء الله... في هذا العام أفلام عربية جميلة وقوية، وجودتها عالية، وأتوقع أن يصل أحدها إلى الأوسكار... نتمنى أن نكون نحن، لكن قد يكون فيلماً عربياً آخر، لا أحد يعلم!».

أحدث جلسة تصوير لشهد أمين في مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

أفلام المهرجانات أم السينما التجارية؟

ولأن أفلام شهد أمين دائماً حاضرة في المهرجانات السينمائية بخلاف دور العرض التجارية، تحتم علينا سؤالها إن كانت مخرجة لأفلام المهرجانات، لترد: «بصراحة، نعم. أفلامي تُصنَّف عادة ضمن أفلام المهرجانات، صحيح أن (سيدة البحر) عُرض في صالات السينما، لكن حضوره كان أفضل في المهرجانات».

وترى أمين أن هناك فرقاً كبيراً بين أفلام شباك التذاكر والأفلام التي تُقدَّم للمهرجانات، وعن ذلك تقول: «الأفلام التجارية تستهدف السوق مباشرة، وتُبنى على فورمات معروفة تشبه ما اعتدنا عليه في السينما الأميركية أو نوع الأفلام الخفيفة التي يعرف الجمهور شكلها مسبقاً، بحيث يدخل المشاهد الفيلم وهو يعرف تقريباً الإيقاع المتوقع، والنهاية المحتملة، والمشاعر التي سيخرج بها».

وتضيف: «أفلام المهرجانات شيء آخر... فهي أفلام تحاول أن تأخذ الجمهور في رحلة مختلفة، بتجربة بصرية أو سردية غير مألوفة. ليست مصممة لاسترضاء الجميع، وقد لا تحظى بقبول واسع، لكنها دائماً تحمل طبقات وعمقاً وتجريباً أكبر من الأفلام التجارية، ولهذا السبب نجد المهرجانات تبحث عن هذا النوع من الأعمال؛ لأنها تضيف صوتاً جديداً وشكلاً جديداً للسينما».

وبالسؤال عن طرح «هجرة» في صالات السينما السعودية، تكشف أمين عن أن الموعد «قريب جداً»، وقد يكون «في مطلع عام 2026 تقريباً»، لكنها تؤكد أن القرار يعود للموزّعين والمنتجين. وتضيف: «الحلم الحقيقي لأي صانع أفلام هو تحقيق المعادلة الصعبة: فيلم يحمل عمقاً فكرياً وشاعرية، وفي الوقت نفسه يمنح الجمهور تجربة ممتعة ومؤثرة... إذا نجح (هجرة) في ذلك فسأكون ممتنّة جداً».

المخرجة العربية... خارج القوالب

وعند الحديث عن حضور المخرجات العربيات، من هيفاء المنصور إلى كوثر بن هنية ونادين لبكي وشيرين دعيبس، في المهرجانات الدولية، ترى أمين أن الصورة أكثر تعقيداً مما يبدو، قائلة: «في الغرب، وخصوصاً في أميركا، تعمل المخرجات غالباً في مساحة السينما المستقلة؛ لأن السينما التجارية ما زالت ذكورية... القصص يكتبها رجال، ويُنتجها رجال، وتُساق ضمن قوالب مألوفة».

وتشير إلى أن السينما المستقلة تمنح المخرجات مساحة أكبر لتقديم رؤية مختلفة، مضيفة: «في العالم العربي اليوم، عدد المخرجات الشابات أكبر من عدد المخرجين، ولهذا نراهن كثيراً في المهرجانات العالمية... البعض يظن أن وجود المرأة في هذه المنصات هو مجرد (مجاملة)، وهذا غير صحيح إطلاقاً... كل الأسماء التي نراها - من الخليج إلى شمال أفريقيا - قدّمت أفلاماً تستحق مكانتها».

وتختم المخرجة شهد أمين حديثها بالقول: «دائماً ما يُسألني الناس: ما الصعوبات التي واجهتها لأنك امرأة؟ الحقيقة أن المخرجات السعوديات والعربيات اليوم أكثر حضوراً من نظيراتهن في أوروبا... وأنا فخورة جداً بذلك».