تصورات سوسيولوجية وانثربولوجية معاصرة للحركات الدينية

قراءة في المعالجات الفكرية بدول الغرب

مصلون في صحن مسجد ريجنت بارك بلندن («الشرق الأوسط»)
مصلون في صحن مسجد ريجنت بارك بلندن («الشرق الأوسط»)
TT

تصورات سوسيولوجية وانثربولوجية معاصرة للحركات الدينية

مصلون في صحن مسجد ريجنت بارك بلندن («الشرق الأوسط»)
مصلون في صحن مسجد ريجنت بارك بلندن («الشرق الأوسط»)

شكل الدين والحركات الدينية الاجتماعية موضوعا للدراسة من طرف علم الاجتماع الغربي. فقد كانت مدرسة السوسيولوجية الكلاسيكية، تتبنى النظرة الإبستيمولوجية لعصر الأنوار الفرنسي التقليدي، التي تؤكد أن الظاهرة الدينية مجرد شرط اجتماعي سيعرف تراجعا في عالم الحداثة والليبرالية. وتبعا لذلك فإن التحولات العلمية، وتطورية المجتمعات الغربية والعالمية، ستؤدي حتما لتراجع الدين واندثاره. وبمقابل هذه الأطروحة التقليدية، جاءت المدرسة المعاصرة لتقول بالعكس تماما، وتزعم أن الدين والحركات الدينية، جزء لا يتجزأ من السيرورة التاريخية الثقافية المادية والرمزية للنسق العام للمجتمعات المعاصرة، سواء كانت ديمقراطيات عريقة أم مجتمعات يسودها الاستبداد والحكم الفردي.
ورغم أن نقاش هيمنة العلمانية على الحياة الحديثة والمعاصرة، ظل محط اعتبار واحتفاء علمي إلى حدود الستينات من القرن العشرين؛ فإن الجدل الفلسفي حول الدين، وطبيعة تحول الفضاء العام الغربي زمن الحداثة، أدى إلى بروز مدارس نقدية من داخل الحداثة. ففي سبيل مدارسة الدين وقضايا الحركات الدينية المنبعثة من داخل نسق الحداثة عملت مدارس علم الاجتماع على طرح مقاربات جديدة، ناقشت قضية الدين والعَلمانية، وقدرة كل منهما على تجاوز الآخر؛ كما أعادت البحث في الجدلية الاجتماعية للدين بعد ثمانينات القرن العشرين مع ظهور ما أطلق عليه خوسيه كازانوفا عالم الاجتماع: «الدين العام».
بالنسبة لخوسيه كازانوفا الأستاذ بالمعهد الجديد للبحوث الاجتماعية بجامعة شيكاغو، فإن توسع نطاق الظاهرة الدينية ليس صدفة تاريخية، وأن هذه العودة معقدة وتضع العلوم الاجتماعية والحداثة أمام تحد حقيقي يتعلق «بإعادة التفكير منهجيا بالعلاقة بين الدين والحداثة، والأهم من ذلك بالأدوار المحتملة التي قد تؤديها الأديان في النطاق العام للمجتمعات الحديثة» (الأديان العامة في العالم الحديث ص 17). في هذا السياق يمكن القول إن إميل دوركهايم وهو يتحدث عن السيرورة التاريخية للعلمنة؛ أشار للدور المركزي للدين باعتباره «التعبير المركز عن الحياة الجماعية برمتها»، وبالتالي فإن قوة الدين كامنة في قدرته على إنتاج كل ما هو أساسي في المجتمع. ومن هنا يعتبر دوركهايم أن دراسة الدين، تُعنى أساسا بالكشف عن الجوهر الاجتماعي الأصيل للدين في الحياة العامة؛ والنفاذ لجوهر المجتمع قصد الوصول «لخصائصه العلمانية»، والتعامل معها بشكل علمي عقلاني، يفصلها عن كينونتها الرمزية. فالنسبة لدوركهايم فالدين يتحدد بالنسبة له انطلاقا من التمييز الذي ينشئه الناس بين المقدس والدنيوي، فثمة شعور اعتقادي نواته «خشية فريدة من نوعها، يغلب فيها الاحترام على الخوف، ويطغى انفعال ذو طبيعة مميزة جدا توحي به الجلالة إلى الإنسان»؛ ومن هنا يخلص دوركهايم إلى أن الحقيقة الدينية غير وهمية، وأن الاختبار الديني هو اختبار لحقيقة اجتماعية صلبة.
هذه الفكرة نجدها كذلك عند عالم الاجتماع ويليام زيمّل، وماكس فيبر؛ حيث يتحدث زيمّل عن مركزية الورع الذي يقترن بفكرة الألوهية، وهو بذلك يعتبر عالم المقدس عالما مضايفا للقيم، وهو بذلك ذو صبغة مميزة ثاوية فيه. وعليه، يكون المطلوب - بحسب العالم السوسيولوجي الفرنسي ريمون بودن - من «عالم الاجتماع لا الأخذ بحرفية تفسيرات الإنسان المتدين، بل تحليل هذا الاختبار الديني بالارتكاز إلى مبادئ علمية، من غير أن يسعه الموافقة على نظرية تختزله إلى وهم» (أبحاث في النظرية العامة في العقلانية العمل الاجتماعي والحس المشترك ص 248).
علينا أن ننتبه من جهة أخرى إلى أن دراسة الدين من زاوية إنتربولوجية، قد تعرض هو كذلك للتطور والتقلب المعرفي؛ ذلك أن التبريرات العلمية ومزاعم العقلنة الكلاسيكية، أثرت على منهج اشتغال الأنتربولوجي، مما أسقطه في العيش على التراث الضيق للتفسير ومفاهيمه وافتراضاته القديمة، التي سادت فترة ما قبل الحربين العالميتين. ويبدو أن هذا الحقل العلمي الغربي بعد الحرب العالمية اقتات عموما من إنتاجات دوكهايم، فيبر، فرويد، مالينوسكي، الشيء الذي جعله في حالة ركود عام بتعبير الإنتربولوجي الإنجليزي الشهير كليفورد جيرتس.
فقد تنبأ كل من دوركهايم وماكس فيبر باندثار الدين التقليدي في العالم المعاصر؛ غير أن هذا الطرح تكذبه الوقائع السوسيولوجية في العالم، حيث يتسع انتشار الجماعات الدينية المسيحية والإسلامية وغيرهما، حتى قيل إن «القرن العشرين قرن الدين بامتياز». من الزاوية العلمية كان توماس لوكمان من الأوائل الذين انتقدوا مقولة الاندثار هذه، وجاء بأطروحة جديدة في كتابه «الدين غير المرئي»؛ نادت بفصل العَلمنة عن أسسها الآيديولوجية، لكنه خلص إلى نتيجة يكذبها حاضر الإسلام والمسيحية، والبوذية، تقول إن الدين سيتعرض لفقدان وظائفه التقليدية، وسيخصص ومن ثم يتعرض للتهميش العام.
هذا المأزق العلمي الذي سقطت فيه مثل هذا الدراسات، دفع بخوسيه كازانوفا، وهو يتحدث عن عودة الدين للمجال العام، إلى المناداة باعتماد خيارين علميين اتجاه مثل هذه الدراسات؛ الأول، يقول بإهمالها لأنها وصف غير علمي، وهو ما أصبح نهجا عاما في عالم الاجتماع الغربي المعاصر، والثاني مراجعة النظرية بطريقة تستطيع الرد على منتقديها وفي نفس الوقت الاستجابة للأسئلة التي يطرحها الواقع المعاصر.
في سياق التطور البحثي السوسيولوجي الغربي المعاصر حول الدين، وانسجاما مع السياق المذكور أعلاه؛ يعتبر عالم الاجتماع الأميركي بتير إل بيرجير أن «تصورنا أننا نعيش في عالم علماني هو تصور خاطئ فالعالم اليوم - مع استثناءات سوف أعود إليها - هو ديني تماما مثلما كان في السابق بل وأكثر من ذلك في بعض الأماكن، وهذا يعني أن مجموعة الأعمال الآنية التي قام بها المؤرخون وعلماء الاجتماع مثل (نظرية العلمنة) هي بالأساس خاطئة».
إن هذه الخلاصة تجرنا لتعميق النقاش حول أطروحة العلمنة، ونسبيتها وآيديولوجية طرحها التحليلي، لعلاقة الفصل بين الدين والسياسة، وبين المجال العام والخاص، والرمزي والمادي. فمن جهة أصبح علماء الاجتماع المعاصر شبه متفقين على تراجع السطوة السياسية للدين، مع استثناء للولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر وضعا خاصا؛ ومن جهة ثانية، لا بد من الاعتراف أن التدين العلماني أو العلمانية المتدينة، أصبحت واحدة من مظاهر المجتمع الغربي المعاصر، ومن جهة ثالثة، يمكن القول بشكل أكثر علمية وتفسيرية، إن مسار الحداثة والعلمنة لا يعني انتصار هذه الأخيرة في العالم الغربي ومجتمعاته الحالية.
ويمكننا تلخيص هذا الطرح استنادا لما جاء به واحد من أبرز علماء الاجتماع المعاصر أنتوني غدنز؛ حيث أوضح أن التقييم العلمي لمسار أطروحة العلمنة يقتضي من السوسيولوجيين إبداء ثلاث ملاحظات جوهرية لتفسير الوضع. الأولى: «هي أن موقع الدين في المجتمعات الغربية هو أكثر تعقيدا وتشعبا مما يظن أنصار أطروحة العلمنة.. والملاحظة الثانية، هي أن العلمنة لا يمكن قياسها على أساس الانتساب إلى المؤسسات الدينية المتعارف عليها (يقصد الانتماء للكنيسة).. أما الملاحظة الثالثة وربما الأهم، فهي غياب العَلمنة في أكثر المجتمعات غير الغربية، بل إننا نلاحظ، في المقابل تعاظم الأصولية الدينية، على مستوى مؤسسات الدولة أحيانا، أو الحركات الدينية السياسية في أغلب الأحيان» (أنتوني غدنز: علم الاجتماع ص 588 - 589).
عموما يمكن القول إن جهود دراسة الدين والحركات الدينية من زاوية حقل الاجتماع والإنتربولوجيا، أخذ منحى جديدا معاصرا وبارزا منذ نشر كيلفورد غيريتس مقالته الشهيرة «الدين بوصفه نسقا ثقافيا»، والذي أعيد نشره في كتابه «تفسير الثقافات» الذي صدر سنة 1973، فقد استطاع غيريتس أن يثبت ثقافية الدين من حيث الرمز والمعنى، ويكشف عن ثغرات الإنتربولوجية الدينية التقليدية، التي لم تدرك أن «الدين نظام رموز يقوم بتأسيس أمزجة ودوافع قوية واسعة الانتشار وشاسعة عن طريق صياغة مفاهيم لنظام عام للوجود وإلباس هذه المفاهيم هالة من الواقعية الفعلية بحيث تظهر الأمزجة والدوافع صحيحة بشكل فريد» (غيرتس: الدين بوصفه نسقا ثقافيا ص 4).
* أستاذ زائر للعلوم السياسية
جامعة محمد الخامس



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟