الجسد يذوي والكلمات تورق

«دفاتر المصحة» للراحل خضير ميري

خضير ميري
خضير ميري
TT

الجسد يذوي والكلمات تورق

خضير ميري
خضير ميري

دوّن الراحل خضير ميري خفقات جنونه في منتهى العقل. هل يمكن أن يكون العقل نسبياً في حقبة جنون مطلق؟!
لم يجد ميري أثناء حياته سوى طاقة توشك أن تنفجر داخل جسده وأحلام مستحيلة في روحه، حتى بات عليه أن يرتب تلك الطاقة لتدير الأحلام، فهل نجح؟
الصعلوك الحكيم لم يكتفِ بسكنى العالم، وتلكم هي بداية الصدام بين الطاقة والأحلام، عندما يسير كل شيء ضد الحكمة والفلسفة والشعر.
ضغوط متعددة كلٌ منها يزيح الآخر ويحلّ محله، حسب الثقل والكثافة والابتزاز.
كانت بداية الأزمة النفسية عندما لازمته حال الأرق مبكراً (في الرابعة عشرة من عمره) ليودع في مشفى ابن رشد للأمراض العقلية، ثم ادعى، بعد سنوات، خلال اعتقاله من قبل نظام صدام حسين، ادعى الجنون ليدفع عن نفسه الإعدام، وفي عام 2003 هرب من مستشفى الرشاد إثر الفوضى التي عمت العراق بعيد سقوط ذلك النظام.
صدر للراحل، أخيراً، كتابه «دفاتر المصحة» وهو مجموعة من النصوص والاعترافات والشهادة، سبق أن نُشِرَت متفرقة، عن موقع «أدب وفن» أخيراً، ضمت أعمالاً بين عامي 1983 - 1996 بتقديم الشاعر المصري محمد عفيفي مطر. يُذكر أن الراحل خضير ميري أقام في مصر فترة من الزمن تعرف فيها على بعض أدبائها وفنانيها الذين أحسنوا ضيافته واحتضنوه، وهناك أيضاً نشر بعض نصوصه التي استُقبِلَت بحفاوة.
كل نص كابوس، وكل قصيدة صور تنبثق من أعماق روح ملتهبة، سواء على شكل أسئلة أو آلام مرسومة على «دفاتر المصحة».
«حين رد علي جلادٌ تحية الصباح
وخطب جزارٌ جسداً لأختي
واغتصب الموت أمي وولى هارباً
وصارت هوايتي جني القبور (وكتابة شاهداتها المرمرية المصقولة جيداً)
صرختُ في حانة أخيرة بنادي اتحاد الأدباء في ساحة الأندلس:
(لم أعد أهذي فهم سرقوا جنوني)»!
الجنون، وحده، يمتلك كل تلك الطاقة على الاحتجاج عندما لم يعد للعقل من جدوى، وإذ تختلط الأوراق في «دفاتر المصحة» بعد أن اختلط العقل بالجنون في رأس الشاعر، لم يعد ثمة فرق واضح بين الاثنين.
«كان مطراً فولاذياً يعبث بسفينة السماء ويدق مسامير ساخنة على رأسي الصغير، العابر».
تقنياً، يغلب على كتابة ميري السطر الطويل، وليس السطر القصير سوى قنطرة بين مقطعين أو أكثر، ومرد ذلك هو اضطراب التسلسل عندما تتكاثر المسامير الساخنة، فلا يعود لإدارة الفكرة سوى التمرد على سياق الوعي المفترض لحظة الكتابة.
في حالة هذا الشاعر - الكاتب - الروائي، الذي يقيم خارج جدران القوالب والصناديق، يكون من الواضح أنه ضحية أكثر من قطب جاذب أو مسمار ساخن، فليس غريباً أن يأتي نصه نابعاً من أكثر من مصدر، وذاهباً إلى أكثر من مصب، ومنثوراً نحو أكثر من ضفة... بينما يغرق بأوجاعه تحت المطر الفولاذي:
«الشتاء ومطره من الفولاذ الآسن البذيء،
إحداهنّ ترضع الملح الشحيح من أفواه الغرباء، الأتقياء المناسبين للغنيمة،
لكن المطر الفولاذي يقاطع شهوة الرضيع يبلل جسده المنفوخ ككيس من النايلون، وبوله يخر تحته».
أكثر من مركز قوى، في المقطع أعلاه، يجذب النص إلى أكثر من منحى وقصد ومهرب: الشتاء، المطر، الفولاذ، الملح الشحيح، الغرباء، الأتقياء، جسد الرضيع المنفوخ... إلخ.
هكذا يكتمل الحصار ولا يكتمل، حصار يهطل من السماء، فولاذياً (الحرب)، الغرباء (الاحتلال)، الطفل (الذعر).
تلكم عينة صغيرة من دفتر «المصحة» التي سكنها ميري مرات كثيرة: داخل جسده، في الطريق إليها، مقيماً فيها، متأملها، راسمها بالمسامير الحارة، ليقيم ثانية في جسدٍ يذوي بينما الكلمات تورق، في زمن طويل، غارقٍ في القدم، أهوج، منذ الطوفان، ومنذ أن كانت الشمسُ سومرية، بينما «عشبة الخلود» لا لون لها:
«تتراجع أقدام المارة، تتكسر الذكريات الفارّة من كوّات الجسد
من لونه المتفحم البهي
من أسنانه الشائكة
لونه المائي، لونه الذي كان دموياً، قبل أن ينطفئ جماله
وعشبة الخلود كذلك لا لون لها، الآن تطير».
عارية، حادة، مكشوفة، شائكة، دموية، نصوص هذه الدفاتر غير اللائقة للطباق والجناس وبلا زخرفة تُذكَر، وهي تعرض لقارئها الألم الممضّ، الألم المرئي في مصحة بسعة بلاد.
أصدر الراحل ونشر كثيراً من الكتب منها: «الإشكالوية والمعنى في السؤال الفلسفي» عن دار «الأمد» عام 1993، في عمان و«الفكر المشتت، تعقيب على فوكو» عن دار «الصخرة» في عمان أيضاً، و«الجنون في نيتشه» عن دار «الغد» الأردنية، و«أيام الجنون والعسل» عام 2000، و«صحراء بوذا وحكايات من الشماعية» عام 2003، و«سيرة ذاتية لجمجمة» عام 2003، و«جن وجنون وجريمة»، و«سارق الحدائق»، و«الذبابة على الوردة»، التي كتبها في مصر، قبل سنة من عودته إلى بغداد بعد خمس سنوات من الإقامة هناك، كما له كتاب «تعديل ذيل الكلب»، و«كتاب الجيب للمحكومين بالإعدام»، و«مباهج حياة موتاي»، وكتاب «دفاتر المصحة»، وكتيب صغير عنوانه «دفاعاً عن الجنون»، وكتاب «أحلام عازف الخشب» عن الموسيقار نصير شمه.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».