حزب التحرير الإسلامي.. 62 سنة من الخلافات و«التشرد» الفكري والسياسي

فوجئ المواطنون الأردنيون في عمان الشرقية بمهرجان كبير في جبل نزال يوم 23 مارس (آذار) الماضي، حين ارتفعت مكبرات الصوت تذكر المسلمين بالذكرى التاسعة والتسعين لسقوط الخلافة الإسلامية، وتحثهم على العمل لإعادة بناء الدولة الإسلامية مرة ثانية.
ومنظمو المهرجان كانوا مجموعة من أعضاء «حزب التحرير الإسلامي» الذي يعد نفسه التعبير الفلسطيني عن طلائع تنظيمات الإسلام السياسي في القرن العشرين. إذ كانت الساحة الحزبية في القدس خاضعة لنفوذ أحزاب كثيرة تتمركز قياداتها في سوريا، كحزب البعث العربي الاشتراكي، أو في القاهرة كجماعة الإخوان المسلمين، أو في موسكو كالحزب الشيوعي، أو في لبنان كالحزب القومي السوري الاجتماعي.
في الخمسينات من القرن الماضي، كان «الإخوان المسلمون» مسيطرين سيطرة كاملة على الساحتين السياسية والفكرية في الأردن، بضفتيه الشرقية والغربية. وشعر البعثيون والشيوعيون، أنه لم يعد لهم بقاء في الأردن، بسبب استقطاب حركة الإخوان المسلمين لجميع العناصر المسلمة الكفؤة في ذلك المجتمع المحافظ، ومنهم اثنان ترأسا وزارتين فيما بعد، و74 أصبحوا وزراء. وعندما بدأ حزب التحرير دعوته، حاول الإخوان عبثا استمالة الشيخ تقي الدين النبهاني، فانقسمت الساحة الإسلامية وتراجع المد الإسلامي، وتنفس الكثيرون الصعداء.

أنشأت جماعة من الموظفين المتدينين «حزب التحرير» في القدس، بعد انشقاقها عن الإخوان المسلمين. وقد بدأ المبادرة بالانشقاق، في بداية عام 1952، العالم الأزهري القاضي الشيخ تقي الدين النبهاني، وهو من رجال الحاج أمين الحسيني. وانضم إلى الشيخ النبهاني، عندما كان مدرسا في مدرسة ثانوية، ثلاثة من زملائه في الخليل، وهم: الشيخ أسعد بيوض التميمي، والشيخ رجب بيوض التميمي، وعبد القديم زلوم. وعقدت المجموعة لقاءات عدة، غالبا في القدس والخليل، لتبادل الآراء وتجنيد أعضاء جدد. وجرى التركيز في الأشهر القليلة الأولى، على النقاشات الدينية، لكن المجموعة بدأت باتخاذ طابع حزب سياسي في نهاية عام 1952.
قدم الأعضاء الخمسة للمجموعة (وهم: تقي الدين النبهاني، داود حمدان، منير شقير، عادل النابلسي، غانم عبده)، طلبا رسميا إلى وزارة الداخلية الأردنية، للسماح بتشكيل حزب سياسي في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1952. وقد رُفض الطلب. وكانت أسباب الرفض التي أعلنتها وزارة الداخلية، بناء على البرنامج المقترح للحزب وليس على تشكيل عضويته.
وقد أبلغ أصحاب الطلب، أن معتقدات البرنامج المقترح لا تتعارض فقط مع روح الدستور الأردني، بل مع بنوده. وقد تم الإيضاح، على سبيل المثال، أن المشروع المقترح لا يقبل مبدأ الحكم الوراثي، كما هو منصوص عليه في الدستور الأردني، وبدلا من ذلك، دعا البرنامج إلى انتخاب حاكم. ولم يعترف البرنامج بالإضافة إلى ذلك، بالقومية على أنها النمط السائد كأساس للدولة، بل بالدين الإسلامي. بعبارة أخرى، فإن البرنامج المقترح كان تحديا لشرعية النظام الأردني.
تركز نشاط المجموعة (الذين دعاهم الناس «النبهانيون» - نسبة إلى مؤسسها - في حين أن اسم حزب التحرير استعمل بشكل أقل)، في السنة الأولى عامة في القدس، الخليل، ونابلس، وفي مخيمات اللاجئين حول أريحا. حاول الحزب الدعوة لتعاليمه بعد صلاة الجمعة. كما حاول الشيخ النبهاني، بعد حصوله على مساعدات مالية كبيرة من لبنان، تشكيل مجموعات عدة تضم كل منها عشرة أعضاء، إلا أن هذه التجربة فشلت باستثناء مجموعة واحدة في القدس.
وسرعان ما تبين خطأ الرأي الذي دعا إليه داود حمدان، حول حاجة الحزب إلى ثلاثة أشهر، فقط، ليكون مستعدا لإسقاط النظام. وقد أعلن حمدان في أحد الاجتماعات المغلقة، أن الإعداد سوف يحتاج إلى وقت أطول مما توقع في الأصل. وأن هناك حاجة ماسة لأعضاء جدد قبل محاولة القيام بالانتفاضة. وبناء على ذلك، قاموا بجهود لزيادة أتباع الحزب، بالتسلل إلى المناطق الريفية والتركيز على المدرسين في القرى. وجرت محاولات عدة من قبل التنظيم في القرى الغربية لنابلس، وتم تأسيس فروع جديدة، وكان أكثرها نجاحا في عزون.
وتتابعت جهود الحزب الرئيسة في التوجه إلى المراكز البعيدة عن المدن. كانت الأهداف الرئيسة في نابلس وفي طولكرم وقلقيلية. وأسست بعض الفروع الأقل أهمية في جنين ورام الله والبيرة خلال عام 1954.
منحت الانتخابات العامة لذلك العام، الفرصة للحزب لنشر آرائه بين العامة بحرية. ورشح الشيخ أحمد الداعور نفسه للبرلمان، وقام بحملات انتخابية عدة، وأجرى لقاءات في نابلس. أدت عضوية الشيخ الداعور بالبرلمان إلى تصاعد ثقة الحزب بنفسه، وقد أصبح مستعدا للتعبير عن آرائه علانية في ذلك الوقت، خاصة في المساجد. وكان هذا صحيحا خاصة خلال شهر رمضان، حيث تصبح الحماسة الدينية على أشدها عند الناس، كما هي العادة.
لم ينجح الشيخ تقي الدين النبهاني في الوصول إلى البرلمان عام 1951، كما خسر أمام مرشح البعث عبد الله نعواس، الذي حصل على 5000 صوت مقابل 2300 صوت للشيخ النبهاني. ناضل الحزب بعد عامين، أي في عامي 1954 و1956، ورشح أعضاء الحزب أنفسهم بشكل مستقل، في انتخابات 1956، (وقد كانت ولاءاتهم السياسية واضحة للجميع) والمرشحون هم: داود حمدان (القدس)، عبد القديم زلوم (الخليل)، أسعد بيوض التميمي (الخليل)، عبد الغفار الخطيب (الخليل)، أحمد الداعور (طولكرم)، ومحمد موسى عبد الهادي (جنين). لم ينجح من هؤلاء إلا أحمد الداعور عن (طولكرم) الذي تعاون مع الإخوان المسلمين، وقام بحملات حيوية في القرى ومخيمات اللاجئين في المنطقة. ولولا تعاونه مع الإخوان المسلمين في تلك المنطقة، ولولا تنظيمهم لحملته كي لا ينجح عن طولكرم شيوعي أو بعثي، لما نجح أحمد الداعور في البرلمان.
ناضل مرشحو الحزب الآخرون، في جنين ونابلس، بقوة أثناء الانتخابات، لكن نشاطاتهم الدعائية توقفت تماما عقب هزيمتهم في الاقتراع. وقد أبعدت المهام البرلمانية أحمد الداعور عن مجاله في النشاط المحلي في طولكرم وقلقيلية، بعد انتخابه عضوا في البرلمان في عمان. كما أبقى الحزب على نشاطاته حية في نابلس، بدعوة أعضاء بارزين من القدس والخليل لإلقاء الخطب في المساجد، ولتنظيم مجموعات دراسية صغيرة.
لم تكن نشاطات الحزب بارزة خلال العقد الذي تلا تلك الفترة، لأسباب عدة. فقد قلل قانون الوعظ والإرشاد لعام 1950، من استغلال الحزب للمسجد للدعاية السياسية. كما خفف من فعالية الحزب بشكل عام. كما أضعفت الخلافات الداخلية الحزب في أواسط الخمسينات عندما اختلف الشيخ تقي الدين، الذي انتقل إلى بيروت، مع الكثير من الدعاة التحريريين في الضفة الغربية. وقد أدى ذلك إلى استقالة الكثير من الأعضاء في نابلس عام 1956، وتقليص الحزب في تلك المنطقة إلى فرع واحد في قلقيلية. كما طرد الشيخ تقي الدين عددا من القادة الذين اختلفوا معه بعد سنتين من ذلك. وبعد ذلك، أصدرت السلطات الأردنية أمرا بترحيل العديد من أكثر الأعضاء بروزا في منتصف عام 1956، ما أدى إلى وقف مؤقت لنشاطات الحزب في القدس.

* آيديولوجية الحزب
* يعتقد حزب التحرير ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، وتوحيد جميع المسلمين تحت رايتها، وذلك من خلال اتباع المنهج النبوي في نشر الدعوة سلميا، كما حصل في مكة المكرمة. ثم خلق الوعي السياسي لدى طبقات الشعب. ثم «طلب النصرة» من قادة الجيش وأصحاب القرار والمتنفذين في الإدارة الحكومية، لإقامة شرع الله والحكم بكتابه. وقد أوضح الشيخ تقي الدين النبهاني تفاصيل منهجية الحكم في كتبه الكثيرة، ومنها «نظام الحكم في الإسلام» «النظام الاقتصادي في الإسلام» و«النظام الاجتماعي في الإسلام» وكتاب «الشخصية الإسلامية» وكتاب «الدولة الإسلامية» وكتاب «الخلافة» وكتاب «إنقاذ فلسطين» وكتاب «كيف هدمت الخلافة» وكتاب «الفكر الإسلامي».
وقدّر بعض المخططين في الحزب، أن المرحلة التالية قد تستغرق خمس عشرة سنة، بينما أشار آخرون بالصبر ورفضوا تحديد موعد زمني. اتفق الجميع على أنه ليس من الضروري اللجوء للعنف الجسدي لتحقيق الهدف النهائي، حيث يمكن الوصول إلى الدولة بالسيطرة عليها من داخلها. لهذا كان هناك تأكيد كبير على النشاط السري المكثف، ولم يتوقعوا حدوث نجاح سريع ودراماتيكي. وباستثناء حادثة أو حادثتين، فإن حزب التحرير لم يدع إلى العنف سواء على شكل مظاهرات أو نشاطات أكثر جدية من ذلك. لم يتخل الحزب أبدا عن هدفه في السيطرة على الحكومة، لكنهم أجلوه إلى ما لا نهاية. والتوصل إلى ذلك يجب أن يكون بطيئا ومنتظما، وذلك بتوصلهم إلى المراكز الحساسة في المجتمع، وإعداد الجمهور ليكون مستعدا لنوع النظام الذي يتوق إليه الحزب، ثم الاشتراك في الحياة البرلمانية.
تهاجم كتابات حزب التحرير، غالبا، الاستعمار الغربي بمرارة. وتمثل الإمبريالية الغربية، بالنسبة للحزب، النمط النموذجي للعدو الرئيس، حيث تظهر أيديها الماكرة خلف الكثير من الأحداث السياسية في العالم العربي، ولا يوجد أي نظام عربي لم يتسرب إليه أعوان وعملاء الغرب، وفقا لأدبيات الحزب. ولا ينظر حزب التحرير إلى الإمبريالية على أنها قوة مفردة متراصة ومتناغمة، بل يرى منافسة مستمرة بين بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين تتنافسان على التأثير والسيطرة في العالم العربي. وينظر حزب التحرير إلى موسكو نظرة عداء أيضا، وغالبا ما اتهمها باستغلال العرب في صراعاتها مع الغرب، إلا أن درجة النقد الموجه إلى موسكو، أقل بكثير من غيره. ويرى حزب التحرير أيضا، أن وجود شيوعيين هو سبب كاف للنظر إليهم باحتقار، إلا أن السبب في الموقف المعتدل نسبيا ضدهم، يكمن في «افتقارهم إلى الوجود» في الشرق الأوسط، ولهذا فإن خطرهم أقل حدة من خطر الغرب. وأن ثمة مؤامرة تثيرها الولايات المتحدة (وغالبا بدعم فعال من أصدقائها لطرد البريطانيين)، بينما يحاول الغرب، عموما، إغراء الدول العربية للدخول في تحالف عسكري واقتصادي معه، من أجل تحقيق أهدافه في الشرق الأوسط. ويصور حزب التحرير بصراحة، المعاهدات العسكرية كمحاولات صريحة لإخضاع دول الشرق الأوسط شبه المستقلة. وتصور مشاريع المساعدات الاقتصادية، كشكل ذكي للإمبريالية يهدف إلى السيطرة السياسية من خلال التدخل المالي. وينظرون إلى جميع هذه التحالفات، على أنها جوانب لاستراتيجية واحدة مسيطرة تحاول احتواء الأقطار الإسلامية في الصراع من أجل سيطرة الإمبرياليين الكفار. ويعرض الحزب، في أدبياته، لهذه المحاولات الواضحة المخربة والسامة، ويحاول إعطاء ضحاياها تحذيرا مفصلا وخاصا.
ويصور حزب التحرير القوى الاستعمارية، على أنها المتهم الرئيس في تدهور وضع الإسلام. ولا ينظر حزب التحرير إلى وجود دوافع عقائدية شريرة خلف هذه المؤامرة، بل اعتبارات واقعية، مثل السيطرة على المصادر الطبيعية، والاستراتيجية العسكرية.. الخ. كان الاعتماد الاقتصادي على الغرب، والتقسيم السياسي للعالم الإسلامي إلى عشرات الدول منفصلة عن بعضها، هو الثمرة المباشرة للأزمة الدينية والعقائدية لهذا العالم، فكانت الوسيلة لإنعاش العالم الإسلامي هي التحرر الكامل من سيطرة الغرب الثقافية والاقتصادية والسياسية. إلا أن الهدف الأسمى يجب أن يكون خلق دولة إسلامية واحدة، يتحتم عليها السيطرة على جميع الشؤون الداخلية لحياة السكان وفقا لتعاليم الإسلام. أما في الشؤون الخارجية، فتباشر العمل لحرب مقدسة في جهد متآلف لعرض الإسلام على كل العالم غير المسلم. ويجب الاحتفاظ بالتكنولوجيا الغربية فقط في دولة المستقبل هذه، والهدف من ذلك بشكل خاص تطوير الصناعات الحربية الشاملة.
رمى حزب التحرير من وراء هذا الهدف المقترح، إلى تحويل العالم كله إلى الإسلام، ويمكن الوصول إلى هذا الهدف من خلال العمل على ثلاثة مستويات متتابعة وهي: الوعي الفردي، «المجموعة المختارة»، الدولة المثالية. وليست المرحلة النهائية في توحيد جميع الشعوب الإسلامية في دولة كلية السيادة، مجرد حلم ورؤيا. فقد ولد الجنين في الدول العربية. ولهذا يجب توجيه أبلغ الاهتمام إليها. وعلى المرء أن يتجنب أي إشارة إلى وجود شعوب عربية مختلفة مثل «الشعب الأردني»، أو «الشعب الفلسطيني»، فكلها تشملها هوية واحدة هي الإسلام. ولم يكن مفهوم القومية العربية إلا من خلق الإمبريالية وتجديدا يناقض روح الإسلام (اعتبر حزب التحرير العبارة المألوفة تماما «الدول الشقيقة» معادية لعقائد حزب التحرير). لا يمكن قبول إلا الرابطة الإسلامية الموحدة. لم تحظ الدول الأخرى في العالم الإسلامي، إلا بانتباه ضئيل في الواقع العملي. ولم يكن تركيز الحزب السياسي على العالم العربي ككل، بل على مشكلة فلسطين. فلم تكن فلسطين بلدا إسلاميا عاديا، بل إنها تحتل أهمية خاصة في الإسلام. واعتبر حزب التحرير مجرد وجود حكم أجنبي (وبشكل خاص في القدس) هو بمثابة إهانة. ولن يكون هناك حل عادل إلا بالحرب المقدسة. أما إعادة توطين اللاجئين في مكان آخر، أو إرجاعهم إلى أوطانهم تحت الحكم الإسرائيلي، فيجب ألا يُشجع. ولم يدعم «التحريريون» انبثاق «كيان فلسطيني»، بل أظهروا، على عكس الآخرين، معارضة شديدة ومستمرة، حتى إنهم لم يترددوا في انتقاد منظمة التحرير الفلسطينية بشكل صريح، بسبب دعمها لمبدأ دولة فلسطينية منفصلة. ولم يكن خلق دولة فلسطينية منفصلة يعارض أكثر معتقدات الحزب جوهرية بوحدة إسلامية كاملة، بل إن هذا قد يضع حدا لمشكلة فلسطين. وليس هذا إلا هدف الاستعمار الغربي، وإسرائيل، وبعض القادة العرب الذين يودون التخلص من كل الوضع المتأزم. لهذا يرى حزب التحرير «إن إنشاء كيان فلسطيني ودولة في الضفة الغربية جريمة كبيرة ومحرم تحريما قاطعا».
كان حزب التحرير هو الحزب الوحيد في العالم العربي الذي عارض باستمرار منظمة التحرير الفلسطينية، والمنظمات الأخرى التي تشارك منظمة التحرير أهدافها. ومن الممتع رفض حزب التحرير تطويع مبادئه لتحمّل الاتجاه السائد، حول التساؤل المتعلق بكيان فلسطيني مستقل. وهو التساؤل الذي كان سيصبح مسيطرا على التفكير السياسي لأبناء الشعب الفلسطيني. قاوم الحزب بشدة وباستمرار أي محاولة للهبوط بالمشكلة الفلسطينية إلى مستوى مشكلة لاجئين. كما رفض وبالإصرار نفسه، أن تكون فلسطين مجرد قضية قومية على وجه التخصيص، لا يستحق أي شيء عناية جادة ما لم يؤدّ إلى إعادة تشكيل العالم الإسلامي في دولة موحدة واحدة.
استقطب حزب التحرير عداء المثقفين العرب في رفضه لفكرة الديمقراطية التي اعتبرها نوعا من الكفر، ويخرج من ملة الإسلام من يؤمن بها، أو يمارسها، لأنها بدعة أوروبية تبتعد عن فكر القرآن الكريم القادر على تنظيم الحياة العصرية بصورة شاملة، ضمن الإطار الإسلامي، وهو الخلافة الراشدة القادرة «عند إقامتها»، على حل مشكلات الشعوب الإسلامية قاطبة.
ويهاجم حزب التحرير في أدبياته النظام الرأسمالي الغربي، ويعتبره سببا في إعادة استعباد الشعوب وشقائها. كما اعتبر النظام الاقتصادي الشيوعي بالدرجة نفسها من الفشل في تحقيق الرفاه والسعادة للإنسان. كما لم تستطع الاشتراكية العربية إقناع منظري الحزب بجدواها، إذ اعتبروها كالرأسمالية والشيوعية، من أسباب بؤس الإنسان المعاصر.
وبسبب موقف الحزب المعادي للقومية العربية وتكفيره لمن ينادي بها، فقد جرى إعدام الشيخ عبد العزيز البدري، من قادة الحزب في العراق، في ثمانينات القرن الماضي، كما لم يعرف أحد مصير وفد الحزب إلى ليبيا بعد لقائه الرئيس معمر القذافي لطلب «النصرة».
لقد تعاقب على رئاسة الحزب ثلاثة حتى الآن، يحمل كل منهم لقب أمير: المؤسس الشيخ تقي الدين النبهاني، والشيخ عبد القديم زلوم، والمهندس عطا أبو الرشتا، الأمير الحالي. وقد مارسوا جميعا القبضة الفولاذية ضد الأجيال الجديدة التي رفضت تشدد القيادة، وعدم تكيفها مع مقتضيات العصر الحديث، وعدم مرونتها في تفسير النصوص التراثية.
ونتيجة لذلك، فقد جرى فصل السوري الشيخ عمر بكري محمد، من «ولاية» بريطانيا عام 1996، فأسس جماعة «المهاجرون» التي تضم في عضويتها بضعة آلاف من الشباب المقيم في المملكة المتحدة، قبل أن ينتقل الشيخ ويستقر في لبنان.
كما تأسست عام 1997، جماعة الإصلاح، من أعضاء الحزب الذين رفضوا التزمت والجمود، وعدم التدرج في الوصول إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية. وكان نصيبهم الفصل أيضا، ويحملون اسم «الناكثون»، كنوع من الازدراء بهم.
وقام جماعة من شباب الحزب المتعلم، المثقف، بتأسيس تنظيم حزبي تقدمي جديد ليلم شملهم في الولايات المتحدة، سموه «حزب التحرير - أميركا».
وقد أدت استراتيجية الحزب في استخدام أسلوب الإقناع والاستدلال بالحجج القرآنية، إلى انتشاره الواسع في إندونيسيا وماليزيا، على أيدي الطلبة الخريجين من الجامعات البريطانية، ممن تأثروا بأفكار الحزب. كما ذكرت الأنباء الصحافية، أن سجون أوزبكستان، تضم أكثر من ألف من أعضاء حزب التحرير المحظور هناك.
وعلى الرغم من تركيز أدبيات الحزب على إقامة دولة الخلافة الإسلامية من خلال المراحل السلمية الثلاث، وهي مرحلة إعداد الأفراد فكريا وعقائديا، ومرحلة التفاعل مع المجتمع بخلق وعي عام شامل كامل يؤمن بضرورة التغيير وحتمية الانتصار، ومرحلة تعقب ذلك بطلب النصرة من أصحاب القرار الذين انخرطوا في «الحلقات» السرية للحزب. فإن ممارسات الحزب العملية، أوضحت أنهم حاولوا القيام بانقلاب في الأردن، في ستينات القرن الماضي، وفي تونس، في السبعينات، وفشلوا. كما خططوا لانقلاب مماثل فاشل في القاهرة، فيما عُرف باسم «الكلية الفنية العسكرية» في أبريل (نيسان) 1974 وأُعدم نتيجته الدكتور صالح عبد الله سرية، وهو من قرية «اجزم» الفلسطينية نفسها التي ينتمي إليها الشيخ النبهاني، والتي تعرضت نساؤها عام 1948، إلى مجازر وانتهاكات شبيهة بمذابح دير ياسين.
وقد ذاق أعضاء الحزب في ليبيا والعراق، من صنوف التعذيب والتنكيل والإعدام، ما لم يمر به أي تنظيم حزبي آخر.
لقد تشظى حزب التحرير حاليا إلى ست مجموعات، بسبب فقدانه المرونة السياسية، وعدم أخذه بأحكام التدرج في الوصول إلى الغايات، وعدم تكيفه مع مقتضيات العصر الحديث. ويوجد الآن في فلسطين والأردن، «الناكثون» بزعامة «الشيخ أبو رامي». ويوجد المهاجرون في سوريا ولبنان. ويوجد حزبان في بريطانيا، يحمل كل منهما اسم حزب التحرير. كما يوجد في الولايات المتحدة «حزب التحرير - أميركا». وتوجد المجموعة السادسة في شرق آسيا وماليزيا وإندونيسيا.
وتأخذ هذه المجموعات الست على قيادة الحزب عدم تأقلمها مع المتغيرات العالمية أو استيعاب متطلبات القرن الحادي والعشرين وفهمها.
* كاتب من الاردن