ديفيد غروسمان... التجربة الصهيونية حين تطحن أرواح البشر

«حصان يدخل حانة» توجت بـ«مان بوكر» العالمية 2017

غروسمان حاملاً روايته الفائزة بجائزة «بوكر» العالمية
غروسمان حاملاً روايته الفائزة بجائزة «بوكر» العالمية
TT

ديفيد غروسمان... التجربة الصهيونية حين تطحن أرواح البشر

غروسمان حاملاً روايته الفائزة بجائزة «بوكر» العالمية
غروسمان حاملاً روايته الفائزة بجائزة «بوكر» العالمية

عندما ألقى ديفيد غروسمان، الروائي الإسرائيلي المخضرم، كلمته الأسبوع الماضي في لندن لدى تتويج روايته الأخيرة «حصان يدخل حانة» بجائزة «مان بوكر» العالمية للروايات المترجمة إلى الإنجليزية للعام 2017 لم يجد بدا من التعليق على حقيقة أن قائمة الترشيحات النهائية للجائزة المرموقة ضمت روايتين إسرائيليتين من أصل ستٍ وصلت إلى القائمة القصيرة التي اختيرت من 124 عملاً (الرواية الأخرى كانت «جوداس» لعاموس عوز صديق غروسمان الشخصي ورفيقه في النشاط السياسي).
صاحب رواية «حصان يدخل حانة» التي جلبت له شهرة عالمية، اعتبر أن ذلك «بمثابة معجزة للغة العبرية التي أعيد إحياؤها بعد موت سريري استمر نحو ألفي عام ولم تكن متداولة بين سكان إسرائيل الحاليين قبل ثلاثة أو أربعة أجيال ليمكنها الآن الفوز بتقدير العالم لقدرتها على التعبير الأدبي عن أشواق البشر».
كان ذلك التعليق بالطبع تجنباً شديد الدبلوماسية على شفة إسرائيلي فخور بإسرائيليته - رغم ميوله اليسارية ومعارضته عالية الصوت لسياسات الاحتلال في الضفة الغربية - لحقيقة مفادها أن روايتي عوز وغروسمان كلتاهما استعراضات فكرية أليمة ونقاشات حادة حول مأزق «إسرائيل» الوجودي والأخلاقي ولا شيء آخر. عوز في «جوداس» وظف تناقضات التاريخ، وغروسمان في «حصان يدخل حانة» استعان بالسخرية المرة لقولِ الشيء ذاته: لقد طحنت التجربة الصهيونية أرواح البشر وأعطتهم جحيماً غير إنساني ليقيموا فيه دولة جل ما يجمع مواطنيها إحساسهم الدائم بالاختناق، ويقينهم بنهاية حتمية للتجربة كلها في وقت ما. اللغة العبرية لم تك السر في إنضاج الرواية الإسرائيلية المعاصرة. بل على العكس تماماً: إنها تلك المأساة الشكسبيرية الهائلة التي تسمى «دولة إسرائيل» والتي أعطت لغة المشروع الصهيوني فرصة لاستكشاف حدود السرد في هلوسات العرافين الذين تسميهم صحافة هذه الأيام بالروائيين. هلوسات عرافي إسرائيل هؤلاء تمس أوتاراً في تجربة البشر لأنها تأتي من حدود المقبرة، تتراقص مع الموت، ونعلمُ أنها أصوات أرواح تُشوى في جحيم لا خروج منه إلا للعدم.
غروسمان الذي تفرغ للكتابة فقط لدى فصله بعد ربع قرن من الخدمة العامة في إذاعة «كل إسرائيل» لأسباب سياسية، بدا وكأنه تقمص دور «هاملت» شكسبير في كل أعماله الروائية دون استثناء... موهوماً وحزيناً ومتردداً، لا يثق بنفسه ولا بأقرب الناس، يطارد شبحاً متخيلاً، ويقض مضجعه قلق الوجود، فلا يجد جواباً على تلك المسألة: «أن تكون، أو لا تكون».
«حصان يدخل حانة»، التي صدرت بالعبرية عام 2014 غير خارجة عن هذا الإطار، لكن غروسمان تفوق على نفسه في استعارته شخصية فنان كوميدي إسرائيلي محطم الأعماق يقف على امتداد مائتي صفحة ليلقي بنكاتٍ كما العلقم، يحكي من خلالها مآزقه الشخصية، التي هي بشكل أو بآخر مآزق الجمهور الحاضر - وكأنه شعب إسرائيل المعاصرة - الذي اقتنى تذاكر رخيصة لسهرة كان المفروض أن تكون وسيلة تناسٍ للواقع من خلال الفكاهة والكوميديا، فتحولت بحكم البوح «الهاملتي» إلى مرارة تامة، دفعت الجمهور للانفضاض عنه شيئا فشيئاً حتى لم يبق أمامه في الصالة سوى أفراد معدودين.
تكاد شخصية دوفاليه – الفنان الكوميدي في الرواية – تتطابق مع شخص الروائي ذاته. فهو من جهة متوسم بأخلاقية عالية وحس إنساني خالص، لكنه في أن الوقت يترنح مظللاً بجوانب مظلمة وتناقضات جدلية. غروسمان، الذي يسميه البعض «ضمير إسرائيل»، يمثل صوتاً جهوراً ضد سياسات الاحتلال والاستيطان التي تمارسها بلاده، لكنه لم يتورع عن الخدمة في الجيش الإسرائيلي وإرسال أولاده للغاية ذاتها، مبرراَ حروب إسرائيل العدوانية على جيرانها، ومتجاهلا تماماً مأساة فلسطين الكبرى التي أقصيت لتكون عنده «مجرد بلدات عربية تمتلئ صدور أهلها بالحقد علينا». بطل الرواية دوفاليه أيضاً شخصية تعرضت لأزمة حادة في وقت معين فأظلمت حياته وسلمته لمسارات جديدة مسربلة بحزن مقيم. وكان غروسمان نفسه قد فقد نجله الأوسط يوري الذي لم يكمل الحادية والعشرين من عمره بتعرض دبابته لصاروخ مضاد للدروع أثناء حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 بينما كان الأب الروائي قبلها بأيام قد عقد مؤتمراً صحافياً دعا فيه القيادة الإسرائيلية إلى وقف عدوانها العبثي على لبنان لاستحالة تحقيق نصر صريح. يهود أولمرت، رئيس الوزراء حينها، استمر بالمكابرة أسبوعاً بعد ذلك المؤتمر كانت تكلفته باهظة على الجانبين، ولا سيما بالنسبة لسلاح المدرعات الإسرائيلي ولغروسمان شخصياً. قلب غروسمان هجِس دائما بفقدان ابنه منذ التحق الأخير بالخدمة العسكرية، لكن لحظة إعلامه بموته كانت نقطة تحول أغرقته في بحر حزن لا قرار له، وطبعت طرائق عمله وموضوعاته بعدها، وأكسبته في وجدان مواطنيه المهووسين بالأساطير قداسة نبي عبراني وإن ألقى عليهم تعاليم اليسار. يعبر دوفاليه عن وجع العيش في جمهورية التناقضات هذه من خلال السخرية واللامبالاة. وغروسمان وجد دائماً أن اللامبالاة ربما تكون الشكل الأكثر دهاء للقسوة. دوفاليه يبدو شخصية معزولة، لا يفهمها الكثيرون، ويتناقص جمهورها لحظة فلحظة ونكتة فنكتة. وغروسمان بدوره يشعر بعزلة متزايدة، فمعظم الجمهور الإسرائيلي فقد إيمانه بإمكان التوصل إلى حلول وسط تنهي آلام الفلسطينيين، وانفض الناس عن بضاعة اليسار الإسرائيلي الباحث عن عدالة منقوصة عبر إدانة الاحتلال والاستيطان.
ليس «حصان يدخل حانة» رواية عن «إسرائيل» فحسب. هي ربما قصة كل مجتمع مدمر يعاني تناقضات قهرية تشظي أرواح البشر وترسل بهم إلى أفق اليأس القاتم. هذه التناقضات ربما تجد أفضل تعبير عنها في عمل روائي لا في جدل فلسفي أو أكاديمي، ولا سيما بحبرِ عراف تحرقه لوعة الفقد ويمتلك ناصية التعبير.
غروسمان صحافي وإعلامي بحكم التكوين المهني قبل تحولِه روائياً؛ الأمر الذي حكم على نصوصه بأن تُغرز كمخالب في أرض الواقع. مع ذلك، فإن لديه تلك الفكرة الغريبة، بامتلاك الأدب قوى خارقة تجدد الحياة وتمنع انزلاق الأرواح في وهدة الموت. يقول إنه لما خدم في غزو لبنان عام 1982 مع الجيش الإسرائيلي، تحايل على موته المحتمل وبشاعة العالم بحمله رواية كان يتسلل كل ليلة ليقرأ منها فصلاً على ضوء باهت فوق سطح منزل سيطر عليه الجيش في قرية لبنانية معزولة، معرضاً نفسه بالطبع لخطر القنص. تلك الفكرة استحوذت عليه عندما سطر روايته الأشهر «حتى نهاية الأرض» – 2008، وفيها أم تهرب من انتظارها ذلك الإشعار الرهيب - الذي تخشى تسلمه كل أسرة في إسرائيل عند تبليغها بمقتل ابنها على الجبهة - بالانطلاق في رحلة عبر البلاد نحو الحدود الشمالية مشياً على الأقدام وهي تروي حكايا لعشيق قديم قبِلَ أن يشاركها رحلتها تلك معتقدة بأن سرد الحكايات يؤجل الموت كما شهرزاد في ألف ليلة وليلة. باعت الرواية وقت صدورها أكثر من مائة ألف نسخة في بلد تعداد سكانه لا يتجاوز السبعة ملايين. فقد لمس غروسمان قلب كل أم إسرائيلية تختنق جزعاً من خبر قد يأتي عبر الحدود. وهو قال للصحافة حينها إنه اختار شخصية أم – لا أب – لبطولة الرواية لأنه يائس من قدرة الرجال في بلاده على تحدي المؤسسة الرسمية الموغلة بالعنف والشوفينية الحمقاء.
بدا غروسمان في أعماله الأخيرة زاهداً في السياسة، ومتجها نحو قراءة العواطف والشبق ومناطق التمازج بين الذاكرة والخيال. لم يعد قادراً على التعبير عن الوضع القائم «لأن السياسيين خطفوا كل الكلمات وحولوها إلى كليشيهات فارغة من المعنى». لقد ذهب الصحافي الذي كتب ذات يوم الوثائقي الاستقصائي الذي هز إسرائيل عن قسوة احتلالها للضفة الغربية «الريح الصفراء» - 1987 - إلى حضن الرواية كوسيلته الأفعل لاستكشاف حقيقة تصدع روح ذلك الشعب الهارب من جحيم الهولوكوست إلى صحراء الاحتلال. «لكن هذه بلادي، فأين أذهب؟» يقول غروسمان الذي لم تفلح كل حكاياته في تأجيل موت ابنه، وهي حتماً لن تؤجل موت بلاده المحتوم.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.