كتاب غير حياتي: أحببت طه حسين لكن العقاد خطفني بمطالعاته

كتاب غير حياتي:  أحببت طه حسين لكن العقاد خطفني بمطالعاته
TT

كتاب غير حياتي: أحببت طه حسين لكن العقاد خطفني بمطالعاته

كتاب غير حياتي:  أحببت طه حسين لكن العقاد خطفني بمطالعاته

كنت في مطالع الصبا، أدق باب المعرفة بشوق غريزي جامح، وكنت أعيش في حي قديم من مدينتي، مدينة دمنهور، هو حي «أبي عبد الله» ، حيث مسجدها الشهير الذي نرتاده، ليس للصلاة فقط، بل كنا نستذكر دروسنا أيضاً فيه، وهناك دارت مناقشة حادة بين أصدقائي حول أهمية كل من طه حسين والعقاد، وكنت أنا من المعسكر الذي يناصر طه حسين. وبعد مضي نحو يوم فوجئت بأمين مكتبة البلدية الذي شاركنا المناقشة منتصراً للعقاد يضع بين يدي كتاباً يطلب مني قراءته.
كان الكتاب لعباس محمود العقاد بعنوان «مطالعات في الكتب والحياة». أخذت الكتاب منه، وبدأت فيه، وكنت في الحقيقة أبدأ مرحلة عقلية جديدة في حياتي. لقد أصابني هوس العقاد، ونجح الكتاب في أن يفتح للمعرفة باباً في عقلي كان من الاتساع أن صار أساساً مكيناً بنيت بعدها عليه بقدر الأعلام الذين تعرض لهم الكتاب، من فرويد وماكس نوردو وهتلر وماركس ونيتشه وأحمد شوقي وسعد زغلول، وبقدر ما ارتاد من أبواب المعرفة في الفلسفة وعلم النفس والسياسة ونقد الشعر.
تحولت بفعل الكتاب إلى درويش من دراويش العقاد. ورحت أواصل تتبع من قدم لهم في كتابه في مظان أخرى أكثر تفصيلاً، وأوفر مادة، وأكثر اتساعاً. وكان الفضل الأول للكتاب في تأكيد معنى الموسوعية والتنوع للمعرفة الإنسانية، وفي إعطاء المعنى العميق للمثقف الشامل المحيط بالإبداع الإنساني والقادر على المساهمة في الوعي العام.
أما في ميدان الشعر فقد كان لتحديداته لمفهوم الشعر وهو المفهوم الذي تبناه مع جماعة الديوان التي ضمت إضافة للعقاد المازني وعبد الرحمن شكري، وهي الجماعة التي كان لها أبلغ الأثر في افتتاح حقبة التجديد الشعري ليس في مصر فقط، بل في العالم العربي على اتساعه، دور هائل في تشكيل حساسيتي الشعرية. أما نقد عباس محمود العقاد لأمير الشعراء أحمد شوقي فقد مثل زلزالاً نقدياً في رأسي، فأحمد شوقي هو من هو في عالم الشعر العربي، حيث طبقت شهرته الآفاق، ونال من تقدير الخاصة والعامة ما نال، فيجيء العقاد لهذا الصرح الشامخ ليزلزل أركانه بقوة شمشونية فتنت الصبي الذي كنته، وكان درسها الأول في قرارة روحي أن لا أحد يعلو على سلطة النقد، وأن الاستنامة للعادة والشائع والمكرور كسل عقلي لا يجدر بمن يحمل عقلاً أن يقع في شباكه.
* شاعر مصري



«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

ناثان هيل
ناثان هيل
TT

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

ناثان هيل
ناثان هيل

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها. الضغوط اليومية والتوقعات غير المطابقة تُعكر الأجواء وتطرد السعادة، فكيف يواجهان خيبات الأمل، وهما تجسيد للحب المثالي؟ مثل هذه التأملات خطرت على بال الكاتب الأميركي ناثان هيل، حين بدأ كتابة روايته الرائعة «الرفاهية (أو «ويل نيس»)، والنتيجة غوص عميق في سيكولوجية العلاقات الرومانسية، وتشريح بالمشرط لحياة زوجين من الطبقة الوسطى «ميدل كلاس» في مجتمعٍ تطغى عليه الرقميات ووسائل التواصل الاجتماعي.

موضوع أزمة العلاقات الزوجية يبدو متداولاً بكثرة، إلا أن قوة الرواية تكمن في الذكاء الذي عُولجت به، والسرد الروائي المشوِّق، والبنية المُحكمة التي جعلت التنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل يبدو شديد التناسق، ويجعلنا نلتهم 700 صفحة بكثير من المتعة والاهتمام.

غلاف «الرفاهية»

الرواية تبدأ في شيكاغو، خلال سنوات التسعينات، جاك وإليزابيث جاران في العشرينات من العمر، هو طالب في الفنون الجميلة ومصوِّر، وهي طالبة في علم النفس. كل منهما لاحظ وجود الآخر من خلال ظلمة النوافذ المتقابلة، بدأ يراقبان بعضهما البعض لدرجة الهوس: ماذا يسمع من الموسيقى؟ ماذا تقرأ من كتب قبل النوم؟ لماذا تأخر، اليوم؟ ماذا تكتب منذ ساعة؟ إلى أن يجري اللقاء مصادفة في حانة من حانات الحي، فيحدث الحب من أول نظرة. وعلى امتداد أكثر من خمسين صفحة ينجح الكاتب ببراعة في إقناعنا بقوة هذه العاطفة التي تربط شخصين لا يجمعهما شيء، فهو شاب عفوي من عائلة بسيطة تنحدر من الأرياف والسهول الشاسعة لمنطقة الكانساس، وهي فتاة منضبطة سليلة عائلة غنية من الساحل الشرقي جمعت ثروتها من استغلال الآخرين، لنكتشف أن الهروب من محيط عائلي مفكّك وتطلعاتهم الرافضة لحياة مسطَّرة هو ما يجمع الاثنين. في هذا الفصل يحملنا الكاتب على سحابة وردية لنلامس السعادة في حياة الحبيبين، من خلال مناقشتهما الطويلة، وتأملاتهما العميقة، وتعبيرات الفرح والحماس.

بعد مُضي عشرين سنة، نلتقي بهما من جديد وهما متزوجان ومستقران مهنياً. وبين نوبات غضب الابن المراهق، والروتين الخانق، ومشروع المنزل الجديد، تدخل العلاقة بين جاك وإليزابيث في أزمة. الفضاء الضيق الذي اندمج، بعد أن وقعا في حب بعضهما البعض، بدأ يميل إلى الاتساع لدرجة أنه أصبح هاوية... هل تأثرا بما تُسميه بعض الدراسات منحنى U؟ سعادة عارمة في السنوات الأولى، ثم ملل وفتور في الوسط، وفي النهاية عودة السعادة تدريجياً مع نقص المسؤوليات؟ هل وصلا إلى وسط المنحنى؛ حيث تكون فيه السعادة أسفل القاع؟ وهل هي ضبابة عابرة أم أزمة عميقة؟ هل أخطآ الاختيار؟ أم أنهما ببساطة تغيَّرا مع الوقت؟ يحاول ناثان هيل الإجابة عن هذه الأسئلة بالتحليل العميق وفتح الأبواب؛ الواحد تلو الآخر، حيث يتعرض لأشباح الماضي التي تُوجه خياراتنا في الحياة دون وعي، من خلال شخصية والدة جاك المتسلطة القاسية، وإحساس الذنب عند إليزابيث بسبب والدها رجل الأعمال الاستغلالي. كما يسلّط الكاتب الضوء على دور الحتميات الأولية والمغالطات الناتجة عنها، حيث يبدو أن الحب والعلاقات تعمل بالطريقة نفسها التي تعمل بها الأدوية الوهمية «بلاسيبو»؛ أي من خلال الإيحاء الذاتي والرغبة في الإيمان الأعمى بأساطير السعادة، التي يزرعها فينا المجتمع. ناثان هيل لا ينسى أن يفتح باب المعتقدات الجديدة؛ كهوسنا الجماعي بـ«الرفاهية»، والتي فرضت نفسها على أسلوب حياتنا بديلاً للسعادة العفوية. الرواية عميقة لأن الكاتب تعمَّق في تحليله لدرجة تشريح الظواهر التي تُشكل المجتمع المعاصر، مثل غزو الممارسات الرقمية، وانتشار الخوارزميات التي تحدِّد ماهية الأخبار التي نحصل عليها، والأشخاص الذين نتعرف عليهم، أيضاً من خلال النظريات التآمرية على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث نرى جاك وهو يواجه والده على فيسبوك بسبب تفسير غبي لسرِّ انتشار الإيبولا، أو طغيان السعادة وكل ما يجرُّه من ادعاءات، فيخصّص لنا الكاتب فقرة مطوَّلة عن «التربية الإيجابية» التي تُجربها إليزابيث مع توبي؛ ابنهما المراهق الذي أصبح التعامل معه موضوع جدال بين الزوجين.

وبالفعل، منذ صدورها لقيت رواية «الرفاهية» ترحيباً واسعاً من طرف النقاد والجمهور، وحصدت كثيراً من الجوائز كجائزة «نيويورك تايمز»، و«الجائزة الكبرى للأدب الأميركي»، حتى إن البعض عدَّ الكاتب ناثان هيل، الذي كان قد فاجأ المجتمع الأدبي بموهبته المتميزة في عمله الأول «لا شيء»، أنه الآن ماضٍ على خطى عمالقة الأدب الأميركي.

الصحافي الناقد في الملحق الأدبي لجريدة «لوفيغارو»، إيريك نؤوف، وصف الرواية بالعبارات التالية: «هي كالكاتدرائية التي ينفجر منها عرض عملاق للألعاب النارية. تحتوي على كل شيء: قصة حب، وصورة لقارة بحواضرها وأريافها، وتأمل في الخوارزميات، وحنين هائل إلى الماضي، واهتمام بالتفاصيل يذكِّرنا أحياناً بدون دي ليلو»، مضيفاً، في آخِر المقال: «قد لا تكون (الرفاهية) الرواية الأميركية العظيمة، لكنها ليست بعيدة عن ذلك». وفي مقالة نقدية أخرى بمجلة «تيلي راما» الثقافية، تكتب نتالي كروم مايلي: «يأخذ ناثان هيل وقته للتعرف على شخصياته، حيث انتظر سبع سنوات قبل أن يبدأ روايته الثانية هذه، وحين نرى النتيجة الرائعة فإننا لا نملك إلا أن نقارنه بأقلام كبيرة كجون إرفينغ وفيليب روث...».