لندن بعد عمليات الإرهاب الأخيرة

العاصمة البريطانية تتحدى «عهد الأمن»

عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
TT

لندن بعد عمليات الإرهاب الأخيرة

عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)

أدمى حادث مانشستر الإرهابي القلوب والعقول جراء بشاعته الكارثية. ومن قبله، عرفت بريطانيا كثيراً من الحوادث الإرهابية المشابهة. وطوال أكثر من عقد، ضرب الإرهاب مواقع ومواضع حساسة في الداخل، كانت أشدها حدة وعنفاً وكراهية تفجيرات السابع من يوليو (تموز) عام 2005، إذ قام 4 أشخاص بالتسبب في 4 تفجيرات انتحارية، 3 منهم حدثت في قطارات لندن تحت الأرض، والانفجار الرابع حدث في حافلة نقل عام تتكون من طابقين. وأسفرت الهجمات عن مصرع 50 شخصاً، وإصابة ما يقرب من 700 آخرين. اثنا عشر عاماً انقضت، خيل فيها للناظر للمشهد هناك أن الحكومات البريطانية المتعاقبة ستضع على رأس أولوياتها محاربة الإرهاب، وشن حملات شعواء لتخليص البلاد من الإرهابيين، لا سيما رؤوس الفتنة من أعضاء الجماعات الأصولية والتكفيرية الذين تحتويهم لندن منذ عقود طوال، من كل الأقطار والأمصار العربية والإسلامية على حد سواء، وجلهم هاربين من العدالة في دولهم بعد صدور أحكام إدانة عليهم بتهم القتل والإرهاب. هل جاء حادث مانشستر الأخير ليغير من طريقة تعاطي بريطانيا مع خلايا العنف وجماعات الإسلام السياسي التي تسبغ عليها حمايتها، حتى وإن تسببت في قتل المواطنين الآمنين الأبرياء؟
عدة حقائق مثيرة للجدل في السياسات البريطانية، لا سيما في الأعوام السبعة الماضية، التي عرف فيها العالم العربي تلك الظاهرة التي أطلق عليها «الربيع العربي». وفى المقدمة من تلك الحقائق، أنه قد ثبت للعالم، شرقاً وغرباً، الدموية والإرهاب اللذان غلفا تلك الجماعات في دول العالم العربي، كالإخوان المسلمين في دول شمال أفريقيا، لا سيما في مصر تحديداً، ومع ذلك لم تحرك ساكناً، وبدا كأن موت الأبرياء في العالم العربي، وحرق المنازل والممتلكات، عطفاً على دور العبادة، أمر يتفق وحقوق الإرهابيين... ما هدف بريطانيا من التحالف مع هؤلاء الإرهابيين؟
الشاهد أنه في الأيام القليلة الماضية، التي أعقبت حادث مانشستر، أشارت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي إلى أن بريطانيا قررت تأسيس «لجنة مكافحة التطرف»، وتقول صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن مهام اللجنة ستتمركز حول تحديد التطرف في المجتمعات الداخلية التي تمثل تهديداً للقيم البريطانية.
على أن فكرة اللجنة بدت هلامية، ذلك أنها جاءت دون رؤية استشرافية لمكافحة جذرية للإرهاب في الداخل أو الخارج، سيما بعد أن أثبتت التحقيقات الأولية أن «سلمان العبيدي»، إرهابي مانشستر، يعبر عن عينة قاتلة من الإرهابيين القائمين والنائمين بين حنايا أضلع البريطانيين، بل أكثر من ذلك أنه كان تحت سمع وبصر أجهزة الأمن البريطانية، سواء MI5 في الداخل أو MI6 في الخارج، وتحركاته تجاه سوريا وليبيا، وانتماءات والده مكشوفة ومعروفة، مما يعني أن الحديث عن مثل تلك اللجنة لا يتجاوز تطيب خواطر البريطانيين المجروحة، وتهدئة الرأي العام البريطاني الثائر والغاضب، دون نيات حقيقية لقتال شرس وعنيف ضد الأصولية الساكنة في الدروب البريطانية.
ما يجري في بريطانيا يدفعنا دفعاً في طريق 3 أسئلة لا بد من الجواب عنها حتى نفهم أبعاد الازدواجية البريطانية في التعامل مع الإرهاب الدولي والشرق أوسطي بنوع خاص:
أولاً: هل لدى بريطانيا بالفعل إرادة سياسية حقيقية للقضاء على الإرهاب، داخلها وخارجها، قضاء مبرماً، ومواجهة التطرف دفعة واحدة، أم أنها تلعب على متناقصات لا يعرفها البريطانيون أنفسهم، ولا تتوافر المعرفة هذه إلا للخبراء في مجال تاريخ علاقة بريطانيا بجماعات الإسلام السياسي؟
ثانياً: إذا كانت ماي راغبة فعلاً في مجابهة ناجعة للإرهاب، فهل حكومتها قادرة على طرد كل من يعيشون على أراضيها من قيادات متطرفة، واعتبار الجماعات التي تؤيد العمليات التكفيرية والانتحارية مجموعات إرهابية، سيما أن الدول التي جاءوا منها قدم مسؤولوها ملفات كاملة للحكومات البريطانية المتعاقبة تدينهم؟
أحد أفضل العقول البريطانية التي تفك لنا شفرة السلوك البريطاني تجاه المتطرفين والإرهابيين هو مارك كورتيس، المؤلف والصحفي والمستشار البريطاني الشهير، الذي عمل من قبل زميلاً باحثًا في المعهد الملكي للشؤون الدولية.
عبر كتابه الحاوي للأسرار، والمعنون: «شؤون سرية تحالف بريطانيا مع الأصولية الإسلامية»، الذي يقع في نحو ستمائة صفحة من القطع الكبير، يدرك المرء أن المصلحة الخاصة البريطانية طوال أكثر من قرن من الزمان، وبالضبط منذ نشأة القومية العربية ومجابهتها للاحتلالين العثماني والإنجليزي على حد سواء، كانت هي الأساس في سياسة بريطانيا الخارجية، وأن المبادئ والقيم ليس لها مكان فيها، وأنها استندت في ذلك أساساً على سياسة فرق تسد، وتقلبت في التعامل مع كل الأطراف المتضاربة، كما يوضح أيضاً كم كانت بريطانيا ماهرة وماكرة في التلاعب بكل الأطراف، وأن أكثر من استغلتهم ثم نبذتهم عندما لم يعد لهم جدوى وانتفى الغرض منهم، هم المتأسلمون.
كتاب «مارك كورتيس» ثروة فكرية للذين يتطلعون إلى فهم الدعم البريطاني للأصولية بنوع خاص... خذ إليك على سبيل المثال الفصل السادس عشر من هذا العمل الكبير والخطير، وعنوانه «لندنستان: ضوء أخضر للإرهاب»، ولا يفوت القارئ هنا أن تسمية العاصمة البريطانية بـ«لندنستان»، فيه من المترادفات لـ «أفغانستان».
يخبرنا كورتيس أن لندن في التسعينات كانت مركزاً من مراكز العالم الكبرى بالنسبة للجماعات المتطرفة، على غرار الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وجماعة الجهاد المصرية، و«القاعدة» نفسها من خلال مكتبها، ولجنة الشورى والإصلاح، وكانت كلها قد أنشأت قواعد في لندن.
تحولت لندن على هذا النحو للمركز العصبي لتنظيم القاعدة الذي يشرف على عملياتها في أوروبا كافة، بل إن «آدم ناثان»، في كتابه عن «القاعدة» يقول إن كثيرين من معاوني بن لادن الرئيسيين كانوا يعملون من هناك، وتم جمع ملايين الجنيهات في بريطانيا لتمويل قضايا الإرهاب، وتجنيد «المجاهدين» للقتال في شتى أنحاء العالم، من أفغانستان إلى اليمن.
سطور كتاب «كورتيس» تقودنا إلى تأكيد أن الآلاف من الأفراد الذين يتخذون من لندن مقراً لهم مروا من خلال معسكرات التدريب التابعة لـ«القاعدة» في التسعينات، وبحلول الوقت الذي حدثت فيه تفجيرات لندن (2005)، بلغ عددهم نحو 3 آلاف، حسب قول اللورد ستيفنز، رئيس شرطة العاصمة السابق.
لماذا صمتت التحقيقات الجنائية داخل بريطانيا على هذه الأوضاع؟
الثابت أن التحقيق الرسمي الذي أجرته وزارة الداخلية البريطانية في التفجيرات على نحو مخادع جاء فيه أنه: «أصبح من المعروف حالياً أنه حدث خلال التسعينات تدفق من الشبان المسلمين من المملكة المتحدة وأماكن أخرى، الذين سافروا إلى باكستان وأفغانستان من أجل التمذهب أو (الجهاد)».
والواقع أن هذا كان أمراً معروفاً في ذلك الوقت، ولم تتسامح معه السلطات البريطانية فحسب، ولكن ربما ساندته بنشاط، مثلما رأينا في مشاركة «المجاهدين» البريطانيين في حربي البوسنة وكوسوفو.
هل فكرة «عهد الأمن» بين المتأسلمين المتطرفين في بريطانيا وإدارات الأمن، الذي هو سمة أساسية للندنستان هي السبب في تلك العلاقة المريبة والغريبة؟
يصف «كريسبن بلاك»، وهو محلل سابقاً لمعلومات المخابرات في رئاسة مجلس الوزراء، هذا العهد باعتباره عادة بريطانية قديمة العهد في توفير الملجأ والرفاهية للمتطرفين المتأسلمين، على أساس افتراضي بأننا إذا وفرنا لهم الملاذ الآمن هنا، فإنهم لن يهاجمونا على هذه الشطآن، ويضيف ضابط آخر في الفرع الخاص أنه «كانت هناك صفقة مع من يسميهم (شذاذ الآفاق) هؤلاء، فقد أخبرناهم أنكم إن لم تسببوا لنا أي مشكلات، فإننا لن نضايقكم». ولا يمكن تفسير العهد المذكور إلا باعتباره أمراً غير عادي على الإطلاق، يعادل إعطاء ضوء أخضر من «هوايتهول» لجماعات لكي تضطلع بأنشطة إرهابية في الخارج. والمقطوع به أن اعترافات تشكيلة من الشخصيات المتأسلمة التي يذكرها «كورتيس» تدلل على ذلك، ومن بينها:
أبو حمزة، الإمام السابق لمسجد فنسبري بارك. ففي محاكمته في «أولدبيلي»، قال إنه يعتقد أن صفقة كانت سارية بمقتضاها يتم التسامح مع أنشطته ما دام أنها تستهدف بلاداً أجنبية فحسب. وذكر كيف طمأنه جناح المخابرات في «سكوتلنديارد»، الفرع الخاص، بأنه «ليس لديك أي شيء تقلق منه، ما دمنا لم نر دماً في الشوارع».
** خالد الفواز، رئيس مكتب بن لادن في لندن في منتصف التسعينات، كان قد أخبر ريشار لايفيه، الصحفى السويسري في أبريل (نيسان) 1998، بأن لندن هي المقر الرئيسي لرابطتنا... فالسلطات متسامحة، ما دام لا يتدخل المرء في مسائل السياسية الداخلية.
** في أغسطس (آب) من عام 1998، وصف عمر بكرى محمد، الذي كان قد أقام منظمة «المهاجرون» المتشددة كيف «أنني أعمل هنا بمقتضى عهد للسلام أبرمته مع الحكومة البريطانية عندما حصلت على حق اللجوء السياسي».
لاحقاً، وبعد ذلك بنحو 8 أشهر، أضاف بكرى في حوار آخر: «إن الحكومة البريطانية تعرف من نحن، لقد استجوبنا جهاز المخابرات الداخلية مرات كثيرة، وأعتقد أن لدينا الآن شيئاً يسمى الحصانة العامة». يعن للمتابع لقضية «عهد الأمن» هذا أن يتساءل: ماذا كانت سياسات بريطانيا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 في واشنطن ونيويورك؟
ومن الواضح تاريخياً أن العهد تعرض للضغط والاهتزاز، عندما شرعت حكومة تونى بلير في إصدار تشريع أكثر حزماً لمحاربة الإرهاب. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2001، أصدر المهاجرون بياناً ذكر صراحة العهد والأخطار التي يواجهها، بيان بمثابة تهديد لبريطانيا جاء فيه: «في الوقت الحالي، فإن المسلمين في المملكة المتحدة ملتزمون بعهد أمن يمنعهم من العدوان على حياة أي شخص يعيش هنا أو ثروته (...) بيد أن نظام بلير يجلس على صندوق مليء بالديناميت، وعليه أن يلوم نفسه فقط إذا ما انفجر في وجهه بعد مهاجمته للحركات الإسلامية والعلماء المسلمين».
لم يمت «عهد الأمن» في كل الأحوال بعد 11 سبتمبر 2001، وربما كانت الحرب على أفغانستان، ثم احتلال العراق بشراكة أميركية بريطانية بين جورج بوش الابن وتوني بلير، قد أحيت هذا العهد، غير أن سنوات الربيع العربي التي تسببت في نزوح مئات الآلاف من اللاجئين غيرت الشكل الديموغرافي للحضور العربي والإسلامي في أوروبا عموماً. ورغم أن نصيب بريطانيا من اللاجئين ضئيل، فإن هناك وبصورة مؤكدة كثير من الخلايا الإرهابية التي تسللت من الخارج من جهة، فيما الأخطر هو نشوء وارتقاء جماعات جديدة في الداخل البريطاني ولدت من رحم سكان لندنستان التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
على أن علامة الاستفهام الأخيرة والمثيرة: لماذا صبرت بريطانيا على إرهابييها بعد أن خرقوا عهد الأمن من يوليو 2005، وصولاً إلى مايو (أيار) 2017 وحادث مانشستر، أي طوال اثني عشر عاماً؟ ثم هل حان الوقت الآن لفسخ هذا التعاقد؟ أم أن لدى بريطانيا ما تخشى من إماطة اللثام عنه، لا سيما استخدام هؤلاء حول العالم كبيادق على رقعة شطرنج لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية.
هل من خلاصة قبل الانصراف؟
مما لا شك فيه أن سياسات بريطانية كانت ولا تزال قاصرة، فقد انتهجت سياسة التلاعب بالمتطرفين، مما زاد الإرهاب داخل بريطانيا وخارجها، بل إن سياساتها قوضت النظم القومية والعلمانية في الشرق الأوسط، وأسهمت في صعود الإسلاميين المتطرفين.
وإذا كانت دول الشرق الأوسط قد دفعت فاتورة باهظة الثمن جراء تلك السياسات، فإن حديث مانشستر الأخير يدق جرس الخطر النهائي لبريطانيا ولعهودها مع الراديكاليين الذين لا عهود لهم... فانظر ماذا ترى؟


مقالات ذات صلة

الأول من نوعه... نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه اكتشاف سرطان الدماغ

صحتك صورة توضيحية تُظهر ورماً في المخ (أرشيفية)

الأول من نوعه... نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه اكتشاف سرطان الدماغ

يفترض الباحثون أن شبكة الذكاء الاصطناعي التي تم تدريبها على اكتشاف الحيوانات المتخفية يمكن إعادة توظيفها بشكل فعال للكشف عن أورام المخ من صور الرنين المغناطيسي.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فطر "الزر الأبيض" قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا (رويترز)

نوع من الفطر يبطئ نمو سرطان البروستاتا... تعرف عليه

أكدت دراسة جديدة أنَّ فطر «الزر الأبيض» قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا عن طريق إعاقة نمو الورم، ودعم الخلايا المناعية المقاومة للسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك حقن فيتامين سي عبر الوريد تتيح تحقيق مستويات مرتفعة لا يمكن الوصول إليها عبر الأقراص الفموية (جامعة أيوا)

فيتامين سي يحسن نتائج علاج سرطان البنكرياس

كشفت دراسة سريرية أميركية عن نتائج وُصفت بـ«الواعدة» لعلاج سرطان البنكرياس المتقدم باستخدام فيتامين سي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».