لندن بعد عمليات الإرهاب الأخيرة

العاصمة البريطانية تتحدى «عهد الأمن»

عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
TT

لندن بعد عمليات الإرهاب الأخيرة

عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)
عنصران من الشرطة البريطانية أثناء الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا هجمات لندن التي نفذت من قبل 3 مهاجمين (أ.ف.ب)

أدمى حادث مانشستر الإرهابي القلوب والعقول جراء بشاعته الكارثية. ومن قبله، عرفت بريطانيا كثيراً من الحوادث الإرهابية المشابهة. وطوال أكثر من عقد، ضرب الإرهاب مواقع ومواضع حساسة في الداخل، كانت أشدها حدة وعنفاً وكراهية تفجيرات السابع من يوليو (تموز) عام 2005، إذ قام 4 أشخاص بالتسبب في 4 تفجيرات انتحارية، 3 منهم حدثت في قطارات لندن تحت الأرض، والانفجار الرابع حدث في حافلة نقل عام تتكون من طابقين. وأسفرت الهجمات عن مصرع 50 شخصاً، وإصابة ما يقرب من 700 آخرين. اثنا عشر عاماً انقضت، خيل فيها للناظر للمشهد هناك أن الحكومات البريطانية المتعاقبة ستضع على رأس أولوياتها محاربة الإرهاب، وشن حملات شعواء لتخليص البلاد من الإرهابيين، لا سيما رؤوس الفتنة من أعضاء الجماعات الأصولية والتكفيرية الذين تحتويهم لندن منذ عقود طوال، من كل الأقطار والأمصار العربية والإسلامية على حد سواء، وجلهم هاربين من العدالة في دولهم بعد صدور أحكام إدانة عليهم بتهم القتل والإرهاب. هل جاء حادث مانشستر الأخير ليغير من طريقة تعاطي بريطانيا مع خلايا العنف وجماعات الإسلام السياسي التي تسبغ عليها حمايتها، حتى وإن تسببت في قتل المواطنين الآمنين الأبرياء؟
عدة حقائق مثيرة للجدل في السياسات البريطانية، لا سيما في الأعوام السبعة الماضية، التي عرف فيها العالم العربي تلك الظاهرة التي أطلق عليها «الربيع العربي». وفى المقدمة من تلك الحقائق، أنه قد ثبت للعالم، شرقاً وغرباً، الدموية والإرهاب اللذان غلفا تلك الجماعات في دول العالم العربي، كالإخوان المسلمين في دول شمال أفريقيا، لا سيما في مصر تحديداً، ومع ذلك لم تحرك ساكناً، وبدا كأن موت الأبرياء في العالم العربي، وحرق المنازل والممتلكات، عطفاً على دور العبادة، أمر يتفق وحقوق الإرهابيين... ما هدف بريطانيا من التحالف مع هؤلاء الإرهابيين؟
الشاهد أنه في الأيام القليلة الماضية، التي أعقبت حادث مانشستر، أشارت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي إلى أن بريطانيا قررت تأسيس «لجنة مكافحة التطرف»، وتقول صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إن مهام اللجنة ستتمركز حول تحديد التطرف في المجتمعات الداخلية التي تمثل تهديداً للقيم البريطانية.
على أن فكرة اللجنة بدت هلامية، ذلك أنها جاءت دون رؤية استشرافية لمكافحة جذرية للإرهاب في الداخل أو الخارج، سيما بعد أن أثبتت التحقيقات الأولية أن «سلمان العبيدي»، إرهابي مانشستر، يعبر عن عينة قاتلة من الإرهابيين القائمين والنائمين بين حنايا أضلع البريطانيين، بل أكثر من ذلك أنه كان تحت سمع وبصر أجهزة الأمن البريطانية، سواء MI5 في الداخل أو MI6 في الخارج، وتحركاته تجاه سوريا وليبيا، وانتماءات والده مكشوفة ومعروفة، مما يعني أن الحديث عن مثل تلك اللجنة لا يتجاوز تطيب خواطر البريطانيين المجروحة، وتهدئة الرأي العام البريطاني الثائر والغاضب، دون نيات حقيقية لقتال شرس وعنيف ضد الأصولية الساكنة في الدروب البريطانية.
ما يجري في بريطانيا يدفعنا دفعاً في طريق 3 أسئلة لا بد من الجواب عنها حتى نفهم أبعاد الازدواجية البريطانية في التعامل مع الإرهاب الدولي والشرق أوسطي بنوع خاص:
أولاً: هل لدى بريطانيا بالفعل إرادة سياسية حقيقية للقضاء على الإرهاب، داخلها وخارجها، قضاء مبرماً، ومواجهة التطرف دفعة واحدة، أم أنها تلعب على متناقصات لا يعرفها البريطانيون أنفسهم، ولا تتوافر المعرفة هذه إلا للخبراء في مجال تاريخ علاقة بريطانيا بجماعات الإسلام السياسي؟
ثانياً: إذا كانت ماي راغبة فعلاً في مجابهة ناجعة للإرهاب، فهل حكومتها قادرة على طرد كل من يعيشون على أراضيها من قيادات متطرفة، واعتبار الجماعات التي تؤيد العمليات التكفيرية والانتحارية مجموعات إرهابية، سيما أن الدول التي جاءوا منها قدم مسؤولوها ملفات كاملة للحكومات البريطانية المتعاقبة تدينهم؟
أحد أفضل العقول البريطانية التي تفك لنا شفرة السلوك البريطاني تجاه المتطرفين والإرهابيين هو مارك كورتيس، المؤلف والصحفي والمستشار البريطاني الشهير، الذي عمل من قبل زميلاً باحثًا في المعهد الملكي للشؤون الدولية.
عبر كتابه الحاوي للأسرار، والمعنون: «شؤون سرية تحالف بريطانيا مع الأصولية الإسلامية»، الذي يقع في نحو ستمائة صفحة من القطع الكبير، يدرك المرء أن المصلحة الخاصة البريطانية طوال أكثر من قرن من الزمان، وبالضبط منذ نشأة القومية العربية ومجابهتها للاحتلالين العثماني والإنجليزي على حد سواء، كانت هي الأساس في سياسة بريطانيا الخارجية، وأن المبادئ والقيم ليس لها مكان فيها، وأنها استندت في ذلك أساساً على سياسة فرق تسد، وتقلبت في التعامل مع كل الأطراف المتضاربة، كما يوضح أيضاً كم كانت بريطانيا ماهرة وماكرة في التلاعب بكل الأطراف، وأن أكثر من استغلتهم ثم نبذتهم عندما لم يعد لهم جدوى وانتفى الغرض منهم، هم المتأسلمون.
كتاب «مارك كورتيس» ثروة فكرية للذين يتطلعون إلى فهم الدعم البريطاني للأصولية بنوع خاص... خذ إليك على سبيل المثال الفصل السادس عشر من هذا العمل الكبير والخطير، وعنوانه «لندنستان: ضوء أخضر للإرهاب»، ولا يفوت القارئ هنا أن تسمية العاصمة البريطانية بـ«لندنستان»، فيه من المترادفات لـ «أفغانستان».
يخبرنا كورتيس أن لندن في التسعينات كانت مركزاً من مراكز العالم الكبرى بالنسبة للجماعات المتطرفة، على غرار الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وجماعة الجهاد المصرية، و«القاعدة» نفسها من خلال مكتبها، ولجنة الشورى والإصلاح، وكانت كلها قد أنشأت قواعد في لندن.
تحولت لندن على هذا النحو للمركز العصبي لتنظيم القاعدة الذي يشرف على عملياتها في أوروبا كافة، بل إن «آدم ناثان»، في كتابه عن «القاعدة» يقول إن كثيرين من معاوني بن لادن الرئيسيين كانوا يعملون من هناك، وتم جمع ملايين الجنيهات في بريطانيا لتمويل قضايا الإرهاب، وتجنيد «المجاهدين» للقتال في شتى أنحاء العالم، من أفغانستان إلى اليمن.
سطور كتاب «كورتيس» تقودنا إلى تأكيد أن الآلاف من الأفراد الذين يتخذون من لندن مقراً لهم مروا من خلال معسكرات التدريب التابعة لـ«القاعدة» في التسعينات، وبحلول الوقت الذي حدثت فيه تفجيرات لندن (2005)، بلغ عددهم نحو 3 آلاف، حسب قول اللورد ستيفنز، رئيس شرطة العاصمة السابق.
لماذا صمتت التحقيقات الجنائية داخل بريطانيا على هذه الأوضاع؟
الثابت أن التحقيق الرسمي الذي أجرته وزارة الداخلية البريطانية في التفجيرات على نحو مخادع جاء فيه أنه: «أصبح من المعروف حالياً أنه حدث خلال التسعينات تدفق من الشبان المسلمين من المملكة المتحدة وأماكن أخرى، الذين سافروا إلى باكستان وأفغانستان من أجل التمذهب أو (الجهاد)».
والواقع أن هذا كان أمراً معروفاً في ذلك الوقت، ولم تتسامح معه السلطات البريطانية فحسب، ولكن ربما ساندته بنشاط، مثلما رأينا في مشاركة «المجاهدين» البريطانيين في حربي البوسنة وكوسوفو.
هل فكرة «عهد الأمن» بين المتأسلمين المتطرفين في بريطانيا وإدارات الأمن، الذي هو سمة أساسية للندنستان هي السبب في تلك العلاقة المريبة والغريبة؟
يصف «كريسبن بلاك»، وهو محلل سابقاً لمعلومات المخابرات في رئاسة مجلس الوزراء، هذا العهد باعتباره عادة بريطانية قديمة العهد في توفير الملجأ والرفاهية للمتطرفين المتأسلمين، على أساس افتراضي بأننا إذا وفرنا لهم الملاذ الآمن هنا، فإنهم لن يهاجمونا على هذه الشطآن، ويضيف ضابط آخر في الفرع الخاص أنه «كانت هناك صفقة مع من يسميهم (شذاذ الآفاق) هؤلاء، فقد أخبرناهم أنكم إن لم تسببوا لنا أي مشكلات، فإننا لن نضايقكم». ولا يمكن تفسير العهد المذكور إلا باعتباره أمراً غير عادي على الإطلاق، يعادل إعطاء ضوء أخضر من «هوايتهول» لجماعات لكي تضطلع بأنشطة إرهابية في الخارج. والمقطوع به أن اعترافات تشكيلة من الشخصيات المتأسلمة التي يذكرها «كورتيس» تدلل على ذلك، ومن بينها:
أبو حمزة، الإمام السابق لمسجد فنسبري بارك. ففي محاكمته في «أولدبيلي»، قال إنه يعتقد أن صفقة كانت سارية بمقتضاها يتم التسامح مع أنشطته ما دام أنها تستهدف بلاداً أجنبية فحسب. وذكر كيف طمأنه جناح المخابرات في «سكوتلنديارد»، الفرع الخاص، بأنه «ليس لديك أي شيء تقلق منه، ما دمنا لم نر دماً في الشوارع».
** خالد الفواز، رئيس مكتب بن لادن في لندن في منتصف التسعينات، كان قد أخبر ريشار لايفيه، الصحفى السويسري في أبريل (نيسان) 1998، بأن لندن هي المقر الرئيسي لرابطتنا... فالسلطات متسامحة، ما دام لا يتدخل المرء في مسائل السياسية الداخلية.
** في أغسطس (آب) من عام 1998، وصف عمر بكرى محمد، الذي كان قد أقام منظمة «المهاجرون» المتشددة كيف «أنني أعمل هنا بمقتضى عهد للسلام أبرمته مع الحكومة البريطانية عندما حصلت على حق اللجوء السياسي».
لاحقاً، وبعد ذلك بنحو 8 أشهر، أضاف بكرى في حوار آخر: «إن الحكومة البريطانية تعرف من نحن، لقد استجوبنا جهاز المخابرات الداخلية مرات كثيرة، وأعتقد أن لدينا الآن شيئاً يسمى الحصانة العامة». يعن للمتابع لقضية «عهد الأمن» هذا أن يتساءل: ماذا كانت سياسات بريطانيا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 في واشنطن ونيويورك؟
ومن الواضح تاريخياً أن العهد تعرض للضغط والاهتزاز، عندما شرعت حكومة تونى بلير في إصدار تشريع أكثر حزماً لمحاربة الإرهاب. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2001، أصدر المهاجرون بياناً ذكر صراحة العهد والأخطار التي يواجهها، بيان بمثابة تهديد لبريطانيا جاء فيه: «في الوقت الحالي، فإن المسلمين في المملكة المتحدة ملتزمون بعهد أمن يمنعهم من العدوان على حياة أي شخص يعيش هنا أو ثروته (...) بيد أن نظام بلير يجلس على صندوق مليء بالديناميت، وعليه أن يلوم نفسه فقط إذا ما انفجر في وجهه بعد مهاجمته للحركات الإسلامية والعلماء المسلمين».
لم يمت «عهد الأمن» في كل الأحوال بعد 11 سبتمبر 2001، وربما كانت الحرب على أفغانستان، ثم احتلال العراق بشراكة أميركية بريطانية بين جورج بوش الابن وتوني بلير، قد أحيت هذا العهد، غير أن سنوات الربيع العربي التي تسببت في نزوح مئات الآلاف من اللاجئين غيرت الشكل الديموغرافي للحضور العربي والإسلامي في أوروبا عموماً. ورغم أن نصيب بريطانيا من اللاجئين ضئيل، فإن هناك وبصورة مؤكدة كثير من الخلايا الإرهابية التي تسللت من الخارج من جهة، فيما الأخطر هو نشوء وارتقاء جماعات جديدة في الداخل البريطاني ولدت من رحم سكان لندنستان التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
على أن علامة الاستفهام الأخيرة والمثيرة: لماذا صبرت بريطانيا على إرهابييها بعد أن خرقوا عهد الأمن من يوليو 2005، وصولاً إلى مايو (أيار) 2017 وحادث مانشستر، أي طوال اثني عشر عاماً؟ ثم هل حان الوقت الآن لفسخ هذا التعاقد؟ أم أن لدى بريطانيا ما تخشى من إماطة اللثام عنه، لا سيما استخدام هؤلاء حول العالم كبيادق على رقعة شطرنج لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية.
هل من خلاصة قبل الانصراف؟
مما لا شك فيه أن سياسات بريطانية كانت ولا تزال قاصرة، فقد انتهجت سياسة التلاعب بالمتطرفين، مما زاد الإرهاب داخل بريطانيا وخارجها، بل إن سياساتها قوضت النظم القومية والعلمانية في الشرق الأوسط، وأسهمت في صعود الإسلاميين المتطرفين.
وإذا كانت دول الشرق الأوسط قد دفعت فاتورة باهظة الثمن جراء تلك السياسات، فإن حديث مانشستر الأخير يدق جرس الخطر النهائي لبريطانيا ولعهودها مع الراديكاليين الذين لا عهود لهم... فانظر ماذا ترى؟


مقالات ذات صلة

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فطر "الزر الأبيض" قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا (رويترز)

نوع من الفطر يبطئ نمو سرطان البروستاتا... تعرف عليه

أكدت دراسة جديدة أنَّ فطر «الزر الأبيض» قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا عن طريق إعاقة نمو الورم، ودعم الخلايا المناعية المقاومة للسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك حقن فيتامين سي عبر الوريد تتيح تحقيق مستويات مرتفعة لا يمكن الوصول إليها عبر الأقراص الفموية (جامعة أيوا)

فيتامين سي يحسن نتائج علاج سرطان البنكرياس

كشفت دراسة سريرية أميركية عن نتائج وُصفت بـ«الواعدة» لعلاج سرطان البنكرياس المتقدم باستخدام فيتامين سي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك رجل مريض بالسرطان (رويترز)

هل يقلل التعافي من السرطان احتمالات الإصابة بألزهايمر؟

منذ سنوات، بدأ الباحثون وخبراء الصحة في دراسة العلاقة بين السرطان وألزهايمر، وما إذا كان التعافي من المرض الخبيث يقلل فرص الإصابة بألزهايمر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟