زين الدين زيدان التألق مستمر

من الملاعب الخضراء إلى مواقع التدريب والإشراف

زين الدين زيدان التألق مستمر
TT

زين الدين زيدان التألق مستمر

زين الدين زيدان التألق مستمر

لا يختلف اثنان على أن زين الدين زيدان كان أفضل لاعب في عصره... كيف لا وهو الذي حصد كأس العالم عام 1998 ودوّن اسمه في تاريخ دوري أبطال أوروبا لكرة القدم بهدف من الأجمل في نهائي 2002. إلا أن النجم الفرنسي - الجزائري الأصل عاد قبل أيام ليدوّن اسمه في قائمة الشرف مدرباً لفريق نادي ريال مدريد الإسباني، بعدما أصبح أول مدرب منذ 27 سنة يحتفظ بلقب المسابقة القارية الأبرز.
ولئن كان الفوز بلقبين أوروبيين يمثل إنجازاً رائعاً لأي مدرب، فإن ما حققه زيدان يعد إنجازاً شبه استثنائي، خصوصاً أنها أول تجربة له كمدرّب مع فريق أول، في أعقاب توليه مسؤولية الجهاز الفني لريال مدريد في يناير (كانون الثاني) 2016، خلفاً للإسباني رافائيل بينيتيز، وبعدما تتلمذ على يدي الإيطالي كارلو أنشيلوتي.
والجدير بالذكر، أنه بعد أقل من خمسة أشهر في المنصب، بات زيدان أول فرنسي يحرز لقب دوري الأبطال لاعباً ثم مدرباً، ولقد أكمل موسمه الأول بـ«كأس السوبر» الأوروبية، قبل أن يختم عام 2016 بانتزاع كأس العالم للأندية. وبعد سنة، أضاف زيدان إلى رصيده لقب الدوري الإسباني (الأول لريال منذ 2012) والاحتفاظ بلقب دوري الأبطال، محققاً لـ«النادي الملكي» ثنائية أحزرها للمرة الأخيرة عام 1958.
لم يكن أكثر المتفائلين يتوقعون الصعود الصاروخي الذي حققه زين الدين زيدان الشاب الفتي المتحدر من أصول جزائرية، الذي كان أقاربه ينادونه باسم «يزيد» في طفولته. فالطفل الذي نشأ في منطقة كاستلان بمدينة مرسيليا الفرنسية التي أقام فيها أهله بعد هجرتهم من الجزائر عام 1960، خالف كل التوقعات وحرق المراحل في مسيرته الكروية، سواءً كان ذلك على المستطيل الأخضر أو عند خط التماس في مقاعد الجهاز الفني.
ما حققه زيدان المدرّب، في الحقيقة، لم يستطع أي مدرب تحقيقه منذ أريغو ساكي مع نادي إيه سي ميلان الإيطالي عامي 1989 و1990، بل وبات زيدان أول مدرب يحققه في الصيغة الحديثة لمسابقة دوري الأبطال التي دخلت حيّز التطبيق عام 1993. ويذكر أن ساكي حقق إنجازه وهو في سن الرابعة والأربعين من العمر، وها هو زيدان يكرر التجربة في السن نفسها. أما الفارق الأساسي بين الرجلين فهو أن ساكي ما كان معروفاً على نطاق واسع كلاعب، بينما فرض زيدان اللاعب اسمه في سجل عظماء اللعبة.

مشوار النجومية
عشية المباراة النهائية ضد فريق نادي يوفنتوس الإيطالي في العاصمة الويلزية كارديف، التي فاز بها ريال مدريد 4 - 1، قارن زيدان بين حياته وفيلم سينمائي، فقال «لو قلتم لي وأنا يافع إنني سأختبر كل هذا، ما كنت لأصدقكم». وفعلاً، قد تكون بداية زيدان مع النجومية قد تأخرت بعض الشيء بعد انتقاله من نادي بوردو الفرنسي إلى يوفنتوس الإيطالي عام 1996، إلا أن مشواره كمدرب لم يستغرق أكثر من 18 شهراً ليبلغ القمة.
من كان يستطيع أن يقول في يناير 2016، عندما تلقى زيدان اتصالا من فلورينتينو بيريز، رئيس ريال مدريد، يطلب منه فيه - أو بالأحرى يرجوه – القبول بتولي المسؤولية العصيبة خلفاً لرافائيل بينيتيز، أن يحقق النجم الفرنسي اللامع هذا الإنجاز وعلى هذا النحو.
لقد كانت جماهير ملعب سانتياغو بيرنابيو، معقل ريال مدريد، في ذلك الوقت تهتف باستمرار ضد رئيس النادي وتطالبه بالرحيل. أما زيدان فتولى هذه المهمة رغم خبرته القليلة في عالم التدريب، فإنه بفضل الاحترام الذي يتمتع به كأحد أساطير اللعبة تمكن من تهدئة الأجواء في المدرجات وكذلك داخل غرفة خلع الملابس. ومن ثم، أعاد فريق النادي العريق مرة أخرى للمنافسة وأنهى ذلك الموسم بطريقة غير متوقعة، إذ توّج بلقب دوري الأبطال إثر تغلبه على فريق نادي أتليتكو مدريد، «جاره» اللدود في العاصمة الإسبانية، بركلات الترجيح في المباراة النهائية.
يرى كثيرون أن زيدان مدير جيد للاعبين أكثر منه مديراً فنياً. ومنتقدوه يتحدثون دائماً عن «حسن طالعه» ويصفونه بـ«المدرب المحظوظ». وبعد نجاحه في تخطي عقبة الموسم الأول بنجاح، واجه زيدان بشجاعة تحدياً جديداً هذا الموسم، وتمكن من قيادة ريال مدريد للفوز بأول لقب له في الدوري الإسباني منذ 2012 وأنهى الموسم بقوة كبيرة بفضل سياسة التناوب الواسعة التي يتبناها والتي شارك فيها جميع اللاعبين بالفريق.

يوفنتوس...ومنتخب فرنسا
بدأ نجم زين الدين زيدان يسطع مع يوفنتوس الإيطالي خلال النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. إلا أن صانع الألعاب الموهوب فرض نجوميته على الساحة العالمية مساء 12 يوليو (تموز) 1998 على ملعب «ستاد دو فرانس» في ضاحية سان دوني الباريسية في نهائي كأس العالم بين منتخبي الدولة المضيفة فرنسا وحاملة اللقب البرازيل. مجريات ذلك المساء جعلت من «زيزو» معبود الجماهير الفرنسية، بعدما قاد منتخب فرنسا لفوز تاريخي 3 - صفر، كان له منها هدفان من رأسية بعد ركلة ركنية.
من ناحية أخرى، عرف زيدان نشوة الفوز وخيبة الخسارة في المحطة نفسها، نهائي مونديال 2006 في ألمانيا أمام إيطاليا. يومذاك كان النجم الكبير يخوض مباراته الأخيرة، ولقد سجل هدف الافتتاح لفرنسا من ركلة جزاء على طريقة «بانينكا» في مرمى حارس المرمى المخضرم جانلويجي بوفون. إلا أنه بعدما تعرض لمخاشنة وتلاسن أقدم على «نطح» المدافع الإيطالي ماركو ماتيراتزي، مما دفع الحكم إلى طرده ببطاقة حمراء، فخرج من الملعب مطأطأ الرأس، وهو يرمق الكأس الذهبية بطرف عينيه.
وبالفعل، أكمل فريقه المباراة بعشرة لاعبين وخسرها أمام المنتخب الإيطالي بركلات الترجيح 3 - 5 بعد وقت إضافي انتهى بالتعادل 1 - 1.
وعلى الرغم من مرور 11 سنة على الحادثة وإنجازاته الكثيرة كلاعب فإن زيدان ما زال عاجزاً عن الهروب من تلك الذكرى، ومع اقتراب موعد كل مونديال تتوالى عليه الأسئلة... حيثما ذهب أو مهما فعل، والجميع يرغبون الخوض في أسباب تلك الحادثة.

قيمة عاطفية
يحمل تحقيق زيدان إنجازه أمام يوفنتوس قيمة عاطفية خصوصاً للفرنسي. فبعد تجاربه مع فريقي ناديي كان وبوردو الفرنسيين، تألق النجم الفرنسي مع يوفنتوس، النادي العريق الكبير في مدينة تورينو الإيطالية. وفي صفوفه (بين 1996 و2001) تحوّل إلى أحد النجوم القلائل من غير الإيطاليين الذين تتغنى بهم جماهير فريق «السيدة العجوز»، وهي الفترة التي أحرز فيها إضافة إلى كأس العالم 1998، كأس أوروبا 2000، وجائزة «الكرة الذهبية» 1998.
جسدياً، لم يتغير زيدان كثيراً منذ تلك الفترة، ربما باستثناء أنه أصبح حليق الرأس بالكامل. لكن على المستوى الشخصي، بات تواصل زيدان مع الآخرين، أكانوا لاعبين أم صحافيين، أفضل من أي وقت. ففي تقديمه الرسمي كمدرّب لريال، حرص زيدان على تقديم صورة عائلية إذ وزّع الابتسامات على الحاضرين، وجلس إلى جانبه زوجته فيرونيك وأبناؤه الأربعة، وبينهم إنزو الذي أطلق عليه والده اسمه تيمنا بالنجم الأوروغواياني إنزو فرانشيسكولي، مُلهم «زيزو» الشاب كروياً. واليوم إنزو زيدان أحد اللاعبين الناشئين في تشكيلة ريال، ولقد استدعاه زيدان من ضمن 25 لاعباً للمشاركة في نهائي دوري الأبطال.
لقد أراد زيدان من خلال صورته في المؤتمر الصحافي أن يظهر أن «النادي الملكي» نادٍ عائلي، وأنه كمدرب سيكون مختلفاً عن سلفه رافائيل بينيتيز ويطوي صفحته.
في المقابل، شكك كثيرون بقدرة زيدان على تحمل مسؤولية ناد بضخامة ريال مدريد يضم مستوى استثنائياً من النجوم والاحترافية... والمتطلبات. إلا أن زيدان خالف كمدرب، كما فعل سابقا كلاعب، كل توقعات المشككين.
وهنا، يلفت ما قاله عنه زميله السابق في يوفنتوس، الأوروغواياني الدولي باولو مونتيرو «زيدان يستحق نجاحه. لقد ظهر الآن أنه مدرب كبير... هذه مباراته النهائية الثانية (في دوري الأبطال) أو الثالثة إذا احتسبنا تلك التي خاضها عندما كان مساعداً لأنشيلوتي. ورغم كل ما حققه... يبقى مثلما هو، لم يتغير».

أجمل الأهداف
بالنسبة للاعب فاز بكأس العالم وأحرز هدفا من أجمل الأهداف في تاريخ نهائيات دوري أبطال أوروبا ورفع أيضاً الكأس القارية مع منتخب بلاده، فإن زين الدين زيدان ربما بخس حق نفسه عندما قال بعد التتويج بنهائي دوري الأبطال «لم أسجل الكثير من الأهداف». وبتواضع ردّ على سؤال عمّن سيكون «النجم» لو جمعته تشكيلة واحدة للفريق مع كريستيانو رونالدو بقوله «كريستيانو طبعاً.. فهو يسجل الأهداف».
قد تدعم إحصاءات النجم البرتغالي كلام مدربه، ذلك أنه سجل 40 هدفا أو أكثر في كل موسم على مدار المواسم السبعة الأخيرة. أيضاً، كان كريستيانو رونالدو أخطر أسلحة ريال مدريد الهجومية في نهائي كارديف أمام يوفنتوس، ولذا لم يحاول زيدان إخفاء هذا الأمر، إذ علّق «لاعبو الوسط مهمون بالطبع. الكل مهم في مركزه... لكن في المباريات الكبرى تتوقع من المهاجمين التسجيل، والمؤكد أن الأهداف هي كل شيء في كرة القدم». وأردف: «أنا لم أسجل الكثير من الأهداف، ومع أنني أحرزت بعض الأهداف الحاسمة.. لكنها ليست أهدافاً كثيرة».
على أي حال، ما زال هدفا زيدان في نهائي كأس العالم 1998 وهدفه الرائع بتسديدة مباشرة بقدمه اليسرى في مرمى فريق نادي باير ليفركوزن في نهائي دوري الأبطال 2002 من الأهداف العالقة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة المحبة لكرة القدم.
وبينما تحوّل رونالدو، الذي اشتهر على مدار سنوات بدوره في مركز الجناح وصناعة اللعب، إلى اللعب في مركز المهاجم الصريح، ظل زيدان يدير اللعب من خط الوسط. وهو رغم افتقاره للسرعة، فإن سجلّ زيدان التهديفي يدعو للاحترام فخلال 155 مباراة لعبها مع ريال مدريد سجل زيدان 37 هدفاً، كما أحرز 24 هدفاً في 151 مباراة مع يوفنتوس. وفي سنواته الأولى مع كان وبوردو سجل 95 هدفا في 506 مباريات. وهزّ الشباك 31 مرة في 108 مباريات مع منتخب فرنسا، وهذا سجل يفخر به الكثير من المهاجمين الدوليين.

التحدي الثالث
زيدان الهادئ نجح في تخطي التحديات المختلفة منذ توليه المسؤولية الفنية لريال مدريد. ونجح في بث روح القتال والنهم للحصول على فوز توّج به غريمه التاريخي برشلونة.
وبذلك يكون ريال مدريد قد أنهى موسما حالما تحت قيادة مديره الفني الفرنسي.
والآن، يستعد زيدان لتحديه الثالث، الذي يرجح أن يكون الأكثر صعوبة، وهو يتمثل في الحفاظ على النهم وإقناع لاعبي الريال بمواصلة الانتصارات في إطار روح التضامن والأجواء الطيبة داخل الفريق، بالإضافة إلى إيمان الجميع بفكرة واحدة، ألا وهي تحقيق الألقاب.
ولن يكون هذا بالأمر السهل على زيدان، فهناك لاعبون يطالبون باللعب بشكل أكبر، هذا بجانب إنعاش الجانب الذهني، الذي يتعرض للإنهاك دائما تحت تأثير لمعان الكؤوس ونشوة الفوز بالألقاب.

بطاقة هوية
اسمه الكامل: زين الدين يزيد زيدان
الأصل: جزائري من قرية اغيمون بمنطقة القبائل شرقي الجزائر العاصمة.
مكان وزمان الولادة: مرسيليا (فرنسا) يوم 23 يونيو (حزيران) 1972
وضعه العائلي: متزوج من فيرونيك فيرنانديز منذ 1994 ولهما 4 أبناء هم إنزو ولوكا وثيو وإلياز
الأندية التي لعب لها: كان وبوردو (فرنسا) ويوفنتوس (إيطاليا) وريال مدريد (إسبانيا)
مبارياته الدولية مع منتخب فرنسا: 108 مباريات



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».