زين الدين زيدان التألق مستمر

من الملاعب الخضراء إلى مواقع التدريب والإشراف

زين الدين زيدان التألق مستمر
TT

زين الدين زيدان التألق مستمر

زين الدين زيدان التألق مستمر

لا يختلف اثنان على أن زين الدين زيدان كان أفضل لاعب في عصره... كيف لا وهو الذي حصد كأس العالم عام 1998 ودوّن اسمه في تاريخ دوري أبطال أوروبا لكرة القدم بهدف من الأجمل في نهائي 2002. إلا أن النجم الفرنسي - الجزائري الأصل عاد قبل أيام ليدوّن اسمه في قائمة الشرف مدرباً لفريق نادي ريال مدريد الإسباني، بعدما أصبح أول مدرب منذ 27 سنة يحتفظ بلقب المسابقة القارية الأبرز.
ولئن كان الفوز بلقبين أوروبيين يمثل إنجازاً رائعاً لأي مدرب، فإن ما حققه زيدان يعد إنجازاً شبه استثنائي، خصوصاً أنها أول تجربة له كمدرّب مع فريق أول، في أعقاب توليه مسؤولية الجهاز الفني لريال مدريد في يناير (كانون الثاني) 2016، خلفاً للإسباني رافائيل بينيتيز، وبعدما تتلمذ على يدي الإيطالي كارلو أنشيلوتي.
والجدير بالذكر، أنه بعد أقل من خمسة أشهر في المنصب، بات زيدان أول فرنسي يحرز لقب دوري الأبطال لاعباً ثم مدرباً، ولقد أكمل موسمه الأول بـ«كأس السوبر» الأوروبية، قبل أن يختم عام 2016 بانتزاع كأس العالم للأندية. وبعد سنة، أضاف زيدان إلى رصيده لقب الدوري الإسباني (الأول لريال منذ 2012) والاحتفاظ بلقب دوري الأبطال، محققاً لـ«النادي الملكي» ثنائية أحزرها للمرة الأخيرة عام 1958.
لم يكن أكثر المتفائلين يتوقعون الصعود الصاروخي الذي حققه زين الدين زيدان الشاب الفتي المتحدر من أصول جزائرية، الذي كان أقاربه ينادونه باسم «يزيد» في طفولته. فالطفل الذي نشأ في منطقة كاستلان بمدينة مرسيليا الفرنسية التي أقام فيها أهله بعد هجرتهم من الجزائر عام 1960، خالف كل التوقعات وحرق المراحل في مسيرته الكروية، سواءً كان ذلك على المستطيل الأخضر أو عند خط التماس في مقاعد الجهاز الفني.
ما حققه زيدان المدرّب، في الحقيقة، لم يستطع أي مدرب تحقيقه منذ أريغو ساكي مع نادي إيه سي ميلان الإيطالي عامي 1989 و1990، بل وبات زيدان أول مدرب يحققه في الصيغة الحديثة لمسابقة دوري الأبطال التي دخلت حيّز التطبيق عام 1993. ويذكر أن ساكي حقق إنجازه وهو في سن الرابعة والأربعين من العمر، وها هو زيدان يكرر التجربة في السن نفسها. أما الفارق الأساسي بين الرجلين فهو أن ساكي ما كان معروفاً على نطاق واسع كلاعب، بينما فرض زيدان اللاعب اسمه في سجل عظماء اللعبة.

مشوار النجومية
عشية المباراة النهائية ضد فريق نادي يوفنتوس الإيطالي في العاصمة الويلزية كارديف، التي فاز بها ريال مدريد 4 - 1، قارن زيدان بين حياته وفيلم سينمائي، فقال «لو قلتم لي وأنا يافع إنني سأختبر كل هذا، ما كنت لأصدقكم». وفعلاً، قد تكون بداية زيدان مع النجومية قد تأخرت بعض الشيء بعد انتقاله من نادي بوردو الفرنسي إلى يوفنتوس الإيطالي عام 1996، إلا أن مشواره كمدرب لم يستغرق أكثر من 18 شهراً ليبلغ القمة.
من كان يستطيع أن يقول في يناير 2016، عندما تلقى زيدان اتصالا من فلورينتينو بيريز، رئيس ريال مدريد، يطلب منه فيه - أو بالأحرى يرجوه – القبول بتولي المسؤولية العصيبة خلفاً لرافائيل بينيتيز، أن يحقق النجم الفرنسي اللامع هذا الإنجاز وعلى هذا النحو.
لقد كانت جماهير ملعب سانتياغو بيرنابيو، معقل ريال مدريد، في ذلك الوقت تهتف باستمرار ضد رئيس النادي وتطالبه بالرحيل. أما زيدان فتولى هذه المهمة رغم خبرته القليلة في عالم التدريب، فإنه بفضل الاحترام الذي يتمتع به كأحد أساطير اللعبة تمكن من تهدئة الأجواء في المدرجات وكذلك داخل غرفة خلع الملابس. ومن ثم، أعاد فريق النادي العريق مرة أخرى للمنافسة وأنهى ذلك الموسم بطريقة غير متوقعة، إذ توّج بلقب دوري الأبطال إثر تغلبه على فريق نادي أتليتكو مدريد، «جاره» اللدود في العاصمة الإسبانية، بركلات الترجيح في المباراة النهائية.
يرى كثيرون أن زيدان مدير جيد للاعبين أكثر منه مديراً فنياً. ومنتقدوه يتحدثون دائماً عن «حسن طالعه» ويصفونه بـ«المدرب المحظوظ». وبعد نجاحه في تخطي عقبة الموسم الأول بنجاح، واجه زيدان بشجاعة تحدياً جديداً هذا الموسم، وتمكن من قيادة ريال مدريد للفوز بأول لقب له في الدوري الإسباني منذ 2012 وأنهى الموسم بقوة كبيرة بفضل سياسة التناوب الواسعة التي يتبناها والتي شارك فيها جميع اللاعبين بالفريق.

يوفنتوس...ومنتخب فرنسا
بدأ نجم زين الدين زيدان يسطع مع يوفنتوس الإيطالي خلال النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. إلا أن صانع الألعاب الموهوب فرض نجوميته على الساحة العالمية مساء 12 يوليو (تموز) 1998 على ملعب «ستاد دو فرانس» في ضاحية سان دوني الباريسية في نهائي كأس العالم بين منتخبي الدولة المضيفة فرنسا وحاملة اللقب البرازيل. مجريات ذلك المساء جعلت من «زيزو» معبود الجماهير الفرنسية، بعدما قاد منتخب فرنسا لفوز تاريخي 3 - صفر، كان له منها هدفان من رأسية بعد ركلة ركنية.
من ناحية أخرى، عرف زيدان نشوة الفوز وخيبة الخسارة في المحطة نفسها، نهائي مونديال 2006 في ألمانيا أمام إيطاليا. يومذاك كان النجم الكبير يخوض مباراته الأخيرة، ولقد سجل هدف الافتتاح لفرنسا من ركلة جزاء على طريقة «بانينكا» في مرمى حارس المرمى المخضرم جانلويجي بوفون. إلا أنه بعدما تعرض لمخاشنة وتلاسن أقدم على «نطح» المدافع الإيطالي ماركو ماتيراتزي، مما دفع الحكم إلى طرده ببطاقة حمراء، فخرج من الملعب مطأطأ الرأس، وهو يرمق الكأس الذهبية بطرف عينيه.
وبالفعل، أكمل فريقه المباراة بعشرة لاعبين وخسرها أمام المنتخب الإيطالي بركلات الترجيح 3 - 5 بعد وقت إضافي انتهى بالتعادل 1 - 1.
وعلى الرغم من مرور 11 سنة على الحادثة وإنجازاته الكثيرة كلاعب فإن زيدان ما زال عاجزاً عن الهروب من تلك الذكرى، ومع اقتراب موعد كل مونديال تتوالى عليه الأسئلة... حيثما ذهب أو مهما فعل، والجميع يرغبون الخوض في أسباب تلك الحادثة.

قيمة عاطفية
يحمل تحقيق زيدان إنجازه أمام يوفنتوس قيمة عاطفية خصوصاً للفرنسي. فبعد تجاربه مع فريقي ناديي كان وبوردو الفرنسيين، تألق النجم الفرنسي مع يوفنتوس، النادي العريق الكبير في مدينة تورينو الإيطالية. وفي صفوفه (بين 1996 و2001) تحوّل إلى أحد النجوم القلائل من غير الإيطاليين الذين تتغنى بهم جماهير فريق «السيدة العجوز»، وهي الفترة التي أحرز فيها إضافة إلى كأس العالم 1998، كأس أوروبا 2000، وجائزة «الكرة الذهبية» 1998.
جسدياً، لم يتغير زيدان كثيراً منذ تلك الفترة، ربما باستثناء أنه أصبح حليق الرأس بالكامل. لكن على المستوى الشخصي، بات تواصل زيدان مع الآخرين، أكانوا لاعبين أم صحافيين، أفضل من أي وقت. ففي تقديمه الرسمي كمدرّب لريال، حرص زيدان على تقديم صورة عائلية إذ وزّع الابتسامات على الحاضرين، وجلس إلى جانبه زوجته فيرونيك وأبناؤه الأربعة، وبينهم إنزو الذي أطلق عليه والده اسمه تيمنا بالنجم الأوروغواياني إنزو فرانشيسكولي، مُلهم «زيزو» الشاب كروياً. واليوم إنزو زيدان أحد اللاعبين الناشئين في تشكيلة ريال، ولقد استدعاه زيدان من ضمن 25 لاعباً للمشاركة في نهائي دوري الأبطال.
لقد أراد زيدان من خلال صورته في المؤتمر الصحافي أن يظهر أن «النادي الملكي» نادٍ عائلي، وأنه كمدرب سيكون مختلفاً عن سلفه رافائيل بينيتيز ويطوي صفحته.
في المقابل، شكك كثيرون بقدرة زيدان على تحمل مسؤولية ناد بضخامة ريال مدريد يضم مستوى استثنائياً من النجوم والاحترافية... والمتطلبات. إلا أن زيدان خالف كمدرب، كما فعل سابقا كلاعب، كل توقعات المشككين.
وهنا، يلفت ما قاله عنه زميله السابق في يوفنتوس، الأوروغواياني الدولي باولو مونتيرو «زيدان يستحق نجاحه. لقد ظهر الآن أنه مدرب كبير... هذه مباراته النهائية الثانية (في دوري الأبطال) أو الثالثة إذا احتسبنا تلك التي خاضها عندما كان مساعداً لأنشيلوتي. ورغم كل ما حققه... يبقى مثلما هو، لم يتغير».

أجمل الأهداف
بالنسبة للاعب فاز بكأس العالم وأحرز هدفا من أجمل الأهداف في تاريخ نهائيات دوري أبطال أوروبا ورفع أيضاً الكأس القارية مع منتخب بلاده، فإن زين الدين زيدان ربما بخس حق نفسه عندما قال بعد التتويج بنهائي دوري الأبطال «لم أسجل الكثير من الأهداف». وبتواضع ردّ على سؤال عمّن سيكون «النجم» لو جمعته تشكيلة واحدة للفريق مع كريستيانو رونالدو بقوله «كريستيانو طبعاً.. فهو يسجل الأهداف».
قد تدعم إحصاءات النجم البرتغالي كلام مدربه، ذلك أنه سجل 40 هدفا أو أكثر في كل موسم على مدار المواسم السبعة الأخيرة. أيضاً، كان كريستيانو رونالدو أخطر أسلحة ريال مدريد الهجومية في نهائي كارديف أمام يوفنتوس، ولذا لم يحاول زيدان إخفاء هذا الأمر، إذ علّق «لاعبو الوسط مهمون بالطبع. الكل مهم في مركزه... لكن في المباريات الكبرى تتوقع من المهاجمين التسجيل، والمؤكد أن الأهداف هي كل شيء في كرة القدم». وأردف: «أنا لم أسجل الكثير من الأهداف، ومع أنني أحرزت بعض الأهداف الحاسمة.. لكنها ليست أهدافاً كثيرة».
على أي حال، ما زال هدفا زيدان في نهائي كأس العالم 1998 وهدفه الرائع بتسديدة مباشرة بقدمه اليسرى في مرمى فريق نادي باير ليفركوزن في نهائي دوري الأبطال 2002 من الأهداف العالقة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة المحبة لكرة القدم.
وبينما تحوّل رونالدو، الذي اشتهر على مدار سنوات بدوره في مركز الجناح وصناعة اللعب، إلى اللعب في مركز المهاجم الصريح، ظل زيدان يدير اللعب من خط الوسط. وهو رغم افتقاره للسرعة، فإن سجلّ زيدان التهديفي يدعو للاحترام فخلال 155 مباراة لعبها مع ريال مدريد سجل زيدان 37 هدفاً، كما أحرز 24 هدفاً في 151 مباراة مع يوفنتوس. وفي سنواته الأولى مع كان وبوردو سجل 95 هدفا في 506 مباريات. وهزّ الشباك 31 مرة في 108 مباريات مع منتخب فرنسا، وهذا سجل يفخر به الكثير من المهاجمين الدوليين.

التحدي الثالث
زيدان الهادئ نجح في تخطي التحديات المختلفة منذ توليه المسؤولية الفنية لريال مدريد. ونجح في بث روح القتال والنهم للحصول على فوز توّج به غريمه التاريخي برشلونة.
وبذلك يكون ريال مدريد قد أنهى موسما حالما تحت قيادة مديره الفني الفرنسي.
والآن، يستعد زيدان لتحديه الثالث، الذي يرجح أن يكون الأكثر صعوبة، وهو يتمثل في الحفاظ على النهم وإقناع لاعبي الريال بمواصلة الانتصارات في إطار روح التضامن والأجواء الطيبة داخل الفريق، بالإضافة إلى إيمان الجميع بفكرة واحدة، ألا وهي تحقيق الألقاب.
ولن يكون هذا بالأمر السهل على زيدان، فهناك لاعبون يطالبون باللعب بشكل أكبر، هذا بجانب إنعاش الجانب الذهني، الذي يتعرض للإنهاك دائما تحت تأثير لمعان الكؤوس ونشوة الفوز بالألقاب.

بطاقة هوية
اسمه الكامل: زين الدين يزيد زيدان
الأصل: جزائري من قرية اغيمون بمنطقة القبائل شرقي الجزائر العاصمة.
مكان وزمان الولادة: مرسيليا (فرنسا) يوم 23 يونيو (حزيران) 1972
وضعه العائلي: متزوج من فيرونيك فيرنانديز منذ 1994 ولهما 4 أبناء هم إنزو ولوكا وثيو وإلياز
الأندية التي لعب لها: كان وبوردو (فرنسا) ويوفنتوس (إيطاليا) وريال مدريد (إسبانيا)
مبارياته الدولية مع منتخب فرنسا: 108 مباريات



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.