المكان ليس الأهم للممارسة الديمقراطية

الكنائس والمقاهي والمغاسل العامة تستقبل صناديق الاقتراع

قريبا من أكسفورد أدلى الناس بأصواتهم في الكنائس (أ.ف.ب)
قريبا من أكسفورد أدلى الناس بأصواتهم في الكنائس (أ.ف.ب)
TT

المكان ليس الأهم للممارسة الديمقراطية

قريبا من أكسفورد أدلى الناس بأصواتهم في الكنائس (أ.ف.ب)
قريبا من أكسفورد أدلى الناس بأصواتهم في الكنائس (أ.ف.ب)

أبدع البريطانيون، أمس، في اختيار مقار الانتخابات التشريعية وتنوعت تشكيلة تلك المقار بما لا يخطر على بال في كل أنحاء المملكة المتحدة. ولم يُضطَرّ البريطانيون إلى التوجه، أمس (الخميس)، إلى المدارس أو مقرات لنوادي اجتماعية بالضرورة، كما هو المعتاد، ليدلوا بأصواتهم. فقد استغلت السلطات كل ما يمكن استخدامه لجانا للانتخابات لتيسير أداء هذا الواجب الديمقراطي في جميع أنحاء البلاد، وجعلت من حافلات المكتبات المتنقلة، وعربات القطارات ومحلات معالجة الأظافر، بل وحتى المقاهي مقرات لهذه الغرض. وفي مقهى «فوكس آند هاوندز» بمنطقة أكسفورد شاير كانت القهوة قريبة من الناخبين بعد أدائهم الواجب الانتخابي. وتمكن ناخبون آخرون من تسليم غسيلهم إلى محل التنظيف، الذي أدلوا فيه بأصواتهم، كما تمكن آخرون من ممارسة شيء من الرياضة في مراكز الرياضة. بل كانت هناك إمكانية الولوج إلى مراكز اللياقة الرياضية وبناء الأجسام بعد التصويت في تلك المقار، كما جاء في تقرير الوكالة الألمانية. وجرى التصويت بعض الأحيان في أماكن غريبة. فقرب مدينة أكسفورد أُقِيم مكتب اقتراع في مركز غسل عام، حيث وُضِع صندوق الاقتراع على طاولة قرب إحدى آلات الغسل. وفي برايتون (جنوب) وضع مكتب اقتراع في طاحونة هوائية تعود إلى القرن التاسع عشر. كما جُهِّزت عدة كنائس في مختلف أنحاء البلاد. ومن كورنويل، جنوب غربي إنجلترا، إلى اسكوتلندا في شمال بريطانيا مروراً بلندن وبرمنغهام ومانشستر وليفربول وغلاسكو، دعي 47 مليون ناخب إلى التصويت من الصباح الباكر أمس وحتى العاشرة مساء.
لم تصدر أي أرقام عن استطلاعات الرأي عند خروج الناخبين من مراكز الاقتراع قبل انتهاء التصويت. ومع فجر اليوم تكون النتيجة قد بدأت تظهر ملامح.
ويجري هذا الاقتراع قبل ثلاث سنوات من موعده الدستوري، الذي حدد سابقاً أن يكون في عام 2020. وتشير استطلاعات الرأي إلى تقدُّم المحافظين، لكنها تكشف عن تقلص الفارق بينهم وبين العماليين بقيادة جيريمي كوربن بمقدار النصف على الأقل، بعدما كان أكثر من عشرين نقطة عند الإعلان عن الانتخابات المبكرة في أبريل (نيسان) الماضي.
وقال جواد (23 عاماً) في مكتب اقتراع في باركينغ (شرق لندن)، الذي انطلق منه منفذو اعتداء السبت: «لا نريد أن تؤثر هذه الهجمات على ما نفكر به»، مضيفاً: «في مطلق الأحوال، سيكون هناك تهديدات بغض النظر عن الفائز». وقال انغوس ديتماس (25 عاماً) في مكتب اقتراع في حي بشمال لندن لوكالة الصحافة الفرنسية: «لقد قمت بخياري على أساس هاتين المسألتين؛ الحصول على اتفاق جيد حول (بريكست) والأمن». وفي المكتب نفسه عبر سايمون بولتون (41 عاماً) عن رغبته في التصويت «لزعيم قوي، شخص يقدم ضمانات وبإمكانه أن يحصل على أفضل اتفاق ممكن حول (بريكست)».
ورهان الانتخابات يتجاوز إلى حد كبير حدود البلاد فيما يريد الاتحاد الأوروبي أن يبدأ مفاوضات «بريكست» في أسرع وقت ممكن. تيريزا ماي التي أدلت بصوتها صباحاً في بلدة سونينغ (غرب إنجلترا) أعربت عن أملها في أن تزيد غالبيتها الضيقة من 17 مقعداً إلى نحو 50 مقعداً برلمانياً لتجنب أي تمرد من معسكرها خلال مفاوضات «بريكست».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟