خمسون سنة على «معركة الجزائر» وطروحاته الحاضرة

رفض اليمين واليسار معاً

لقطة من «معركة الجزائر» الثوار تحت الحصار - الفرنسيون اعتبروا الفيلم غير منصف لهم
لقطة من «معركة الجزائر» الثوار تحت الحصار - الفرنسيون اعتبروا الفيلم غير منصف لهم
TT

خمسون سنة على «معركة الجزائر» وطروحاته الحاضرة

لقطة من «معركة الجزائر» الثوار تحت الحصار - الفرنسيون اعتبروا الفيلم غير منصف لهم
لقطة من «معركة الجزائر» الثوار تحت الحصار - الفرنسيون اعتبروا الفيلم غير منصف لهم

في الثالث من شهر سبتمبر (أيلول) 1966 تم العرض العالمي الأول لفيلم جيلو بونتيكورفو «معركة الجزائر» وذلك في مهرجان فنيسيا السينمائي الدولي، في دورته الـ27 آنذاك.
في مثل هذه الأيام، وبعد مرور خمسين سنة على ذلك الفيلم النيّـر، ما زالت طروحاته حاضرة ولو في قوالب أخرى. ذلك الفيلم الذي أخرجه الإيطالي بونتيكورفو لحساب السينما الجزائرية (في واحد من أعمالها التي جلبت إليها مخرجين أوروبيين في تلك الفترة) طرح قضية الثورة الإسلامية في بلد اندلعت فيه المواجهة بين جنود الاحتلال الفرنسي وبين الثوار الجزائريين. تلك المشاهد الكثيرة التي توحي بعالمين متناقضين واحد حاضر بثقافته الغربية والآخر بتراثه الإسلامي والعربي الساعي للاستقلال.
تحت مسميات أخرى، تشهد أوروبا وبعض دول العالم الإسلامي الصراع نفسه يقوده متطرفون ومتشددون إسلاميون يزرعون القنابل أو يهاجمون الأبرياء بالشاحنات أو ينقضون عليهم بإطلاق النار. شتّـان، في الواقع، بين ثورة الجزائر وبين إرهاب الدولة الإسلامية وتفرعاتها، لكن فيلم بونتيكورفو بدا، في الوهلة الأولى، حياديا إلى حد أثار عليه غضب الجهات الفرنسية والعربية معاً.
خلال عرض الفيلم في المهرجان الإيطالي، حيث خرج بجائزته الأولى بعد أسبوع من ذلك التاريخ، هب الوفد الفرنسي واقفاً خلال العرض وانسحب احتجاجاً على الفيلم الذي يعرض كيف يمارس الجنود الفرنسيون التعذيب لإجبار المقبوض عليهم من جبهة التحرير الجزائرية الاعتراف بالمعلومات. في الجزائر كما في سواها من بلاد العرب، اعتبر النقاد (ورهط من السينمائيين) الفيلم بأنه يدين الثورة ويصفها بالإرهابية.

أفلام أخرى مهمة

واقع الحال أن الاحتجاجات ضد الفيلم صدرت من اليسار ومن اليمين في آن واحد. لأن ما فعله المخرج الراحل (1919 - 2006) هو إلقاء نظرة حيادية - تقريرية - شبه باردة على طرفي تلك الحرب فصوّر قيام الثوار الجزائريين بمهاجمة المدنيين الفرنسيين وزرع القنابل في المقاهي التي يترددون عليها، وصوّر كذلك أساليب التعذيب التي مارستها قيادة الجيش الفرنسي في الجزائر لكي تحصل على المعلومات بأي ثمن.
كبداية، لم يكن «معركة الجزائر» الفيلم الجيد الوحيد في مسابقة فنيسيا آنذاك. بمراجعة ما عرضه في مسابقته (10 أفلام) نجد حضوراً لافتاً لخمسة مخرجين جيدين في مضمار ما حققوا من أعمال في ذلك الحين وما بعد وهم الفرنسي فرنسوا تروفو الذي قدّم فيلماً «ثورياً» آخر ولو على طريقته وهو «فهرنهايت 451» والروسي أندريه كونتشالوفسكي «المعلم الأول» الذي فازت عنه ممثلته الأولى ناتاليا أربنباساروفا والسويدية ماي زترلينغ «ألعاب ليلية» والألماني ألكسندر كلوغ «فتاة الأمس» والإيطالي فيتوريو دي سيكا عن «نصف رجل».
وفي حين ذهبت الجائزة الأولى لفيلم «معركة الجزائر»، نال «فتاة الأمس» جائزة لجنة التحكيم الخاصة مناصفة مع فيلم «تشاباكوا» لمخرج غير معروف آنذاك ولم يُنجز إلا فيلم واحد بعد ذلك اسمه كونراد روكس.
بين كل هذه الأفلام جاء «معركة الجزائر» الوحيد الأكثر سخونة ووقعاً بين كل ما سبق. هذا على الرغم من أن سنة 1966 ذاتها كانت مفعمة بالإنجازات الأخرى التي توجه معظمها لمهرجانات أخرى مثل «برسونا» لإنغمار برغمن (السويد) و«انفجار» لمايكل أنجلو أنطونيوني (إيطاليا) و«أندريه روبلوف» لأندريه تاركوفسكي (روسيا) و«قطارات مراقبة عن كثب» لييري منزل (تشيكوسلوفاكيا) و«رجل لكل الفصول» لفرد زنمان من بين عشرات أخرى في عام شبه استثنائي من حيث زخم الأعمال المتميزة فنا ومضموناً التي أنتجت وعرضت فيه.
بين تجاذب الآراء المؤيدة له من هنا والمعارضة له من هناك والعكس، لا يمكن إلا ولفت النظر إلى حقيقة قليلة التداول وهي أن أسلوب المخرج بونتيكورفو الواقعي ومنهجه التقريري شبه التسجيلي وتصويره في حي القصبة وليس في استديو ما، أمور مهمّـة منحت الفيلم لا انتمائه إلى مدرسة واقعية، أو نضالية، فقط، بل، يعد أساساً، إلى منهج وضع فيه المخرج الحالات الماثلة وحاول عدم التدخل في تسييرها مدركاً ما سيحدثه ذلك من انطباع ولغط. بونتيكورفو رفض أن يكون عاطفياً، وهو اليساري الذي لا بد أنه وقف لجانب الثورة الجزائرية، وعرض وسائل كل جانب من جانبي الصراع قبل أن ينحاز بوضوح صوب المطالبين بالاستقلال في مشهد النهاية بعد تدمير الجيش الفرنسي المخبأ الذي آوى إليه الثوار، إذ ينتهي الفيلم بمشاهد للمدينة تندلع فيها أصوات النساء وهن يزغردن كرد فعل متحدٍ كتأبين للشهداء حسب التقاليد.
الزغردة ليست من الجوار بل من كل المدينة والفيلم ينتهي بالصوت بعدما قامت الصورة بمهامها في عرض الوضع الحاصل. إنها بمثابة إعلان، نسائي في ذاته، برفض الوجود الاستيطاني للفرنسيين ما يجعل الفيلم - رغم منواله الذي يبدو حياديا في النظرة الأولى - دعوة شاملة لرفض ما عرف بالفترة الاستعمارية الأوروبية على أفريقيا.
الصورة
في النظرة الأكثر تعاملاً مع عمق المطروح من مشاهد، لا يمكن لهذا الفيلم أن يكون حياديا على الإطلاق. ليس فقط أن مشاهد التعذيب واضحة في عنفها وتخفق في الإتيان بتبرير ما لصالح الفرنسيين، بل هناك الحق في الاستقلال الذي يمثله الثوار ما يبرر قيامهم بكل ما هو متاح من عمليات يذهب المواطنون الفرنسيون ضحايا لها. التبرير في هذا الجانب أقوى من التبرير في الجانب الفرنسي، كذلك حقيقة إيمان الجزائريين بما يقومون به وتشكيلهم شبكة اتصالات لا يستطيع أحد فكّـها (إلا بالتعذيب) وفي حي مكتظ مليء بالأزقة والبيوت المتاخمة تدخل أحدها فتدلف إلى آخر.
الواقعية التي في هذا الفيلم دفعت البعض للاعتقاد أن بونتكورفو استخدم مشاهد تسجيلية، الأمر الذي نفاه المخرج وموزعو الفيلم تماماً. ما قام به المخرج هو اختياره الأسلوب مستعيناً بمدير التصوير مارشيللو غاتي (رحل سنة 2013 بعد نحو 74 فيلما في عداد ما قام بتصويره) للتأكد من حسن استخدامه نوعية الفيلم الخام الذي يمكن له أن يمنح تلك الواقعية لونها المناسب. الفيلم بالأبيض والأسود، لكن مدير التصوير استخدم حساسية خاصة منحت الصورة تدرجات داكنة أكثر بقليل من مجرد لونيه المتناقضين ما جعله يبدو كما لو صوّر على نحو تسجيلي بالفعل حيث إن التصوير للدراما عادة ما يتطلب نوعية مختلفة من الفيلم الخام لكي تؤمن اختلافه عن الواقع.
مشاهدة «معركة الجزائر» من جديد تفضي إلى إعادة اكتشاف عمل غير عادي بين كل ما عرفته السينما من أعمال وُصفت بالنضالية. حتى السينما الجزائرية ذاتها لم تستطع تقديم عمل مواز في تأثيره على الرغم من إنتاجها أفلاماً جيدة حول موضوع الثورة. كذلك فإن المشاهدة المتجددة تطرح مقارنة بين ثورة استخدمت العنف لأجل تحقيق الغاية، وبين إرهابيي اليوم الذين نقلوا صراعهم ضد الإنسانية من العالم العربي إلى العالم الغربي معيدين بذلك مواجهة غير ضرورية ولا هي مطلوبة بين ثقافتين ومنهجي حياة.
بين الحالتين خمسون سنة بقي فيها هذا الفيلم من عماد الأفلام السياسية واحتفي به في كل مناسبة ممكنة.



شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
TT

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)

RENDEZ‪-‬VOUS AVEC POL‪-‬POT ★★★

* إخراج: ريثي بَنه (فرنسا/ كمبوديا)

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم. ويُذكّر الفيلم أن الصحافة في تاريخها العريق، دائماً ما وجدت نفسها أمام مسؤوليات وتحديات عديدة. في هذا الفيلم الذي أخرجه ريثي بَنه عن الأحداث التي عصفت في بلاده سنة 1978 اقتباسات عن كتاب الصحافية إليزابيث بَكَر (Becker) وعن تجربتها بصفتها واحدة من 3 صحافيين دُعوا لمقابلة بُل بوت، رئيس وزراء كمبوديا وأحد قادة منظمة «الخمير الحمر» (Khmer Rouge) المتهمة بقتل ما لا يقل عن مليون و500 كمبودي خلال السبعينات. الصحافيان الآخران هما الأميركي ريتشارد دودمان، والأسكوتلندي مالكوم كالدويل.

لا يبدو أن المخرج اتّبع خُطى الكتاب كاملةً بل تدخّل بغايةِ ولوج الموضوع من جانب الحدث الذي وضع حياة الثلاثة في خطر بعدما جاءوا للتحقيق ومقابلة بُل بوت. في الواقع دفع الأميركي حياته ثمناً لخروجه عن جدول الأعمال الرسمي والتقاطه صوراً تكشف عن قتلٍ جماعي. وفي الفيلم لحظة مختصرة لكنها قاسية التأثير عندما يَلقى الصحافي حتفه غرقاً في نهر دُفع إليه.

الفرنسية إيرين جاكوب التي تؤدي شخصية الكاتبة بَكَر تُعايش بدورها الوضع بكل مأساته. تُفصل عن زميلها ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وتمر بدورها بتجربة مخيفة لم تكن تعلم إذا ما كانت ستخرج منها حية.

في باطن هذا الفيلم الجيد على تواضع إنتاجه، تُطرح أسئلة فيما إذا كان الصحافي يستطيع أن يقبل التحوّل إلى جزءٍ من البروباغاندا. وهل هو أداة لنقل الرأي الرسمي بغياب حرية التعبير؟ وماذا لو فعل ذلك وماذا لو لم يفعل؟

هو ليس بالفيلم السّهل متابعته من دون معرفة ذلك التاريخ ودلالاته حول العلاقة بين النُّظم الفاشية والإعلام. والحرية التي لا تُمنح لصحافيين محليين هي نفسها التي لا تُمنح كذلك للأجانب ما دام عليهم نقل ما يُقال لهم فقط.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

‪THE‬ WRESTLE‪R‬ ★★

* إخراج: إقبال حسين شودهوري (بنغلاديش).

يقترب الرجل المسن موجو (ناصر أودين خان) وسط أشجار ليست بعيدة عن شاطئ البحر وينتقل من واحدة لأخرى ماداً يديه إليها كما لو كان يريد أن يدفعها بعيداً أو أن يُزيحها من مكانها. ومن ثَمّ يتركها ويركض صوب أخرى ليقوم بالفعل نفسه قبل أن يعود إليها. يبعث هذا المشهد على تكراره سخرية غير مقصودة. قد تكون طريقة قديمة لممارسة تمارين المصارعة أو التدريب الوحيد المُتاح في تلك القرية، لكن موجو جادٌ في محاولته لدفع الأشجار إلى الخلف أو تغيير مواقعها، استعداداً لملاقاة مصارع أصغر منه سنّا وأكبر حجماً في المباراة المقبلة.

«المصارع» (أبلبوكس فيلمز)

هناك كثير مما يتأمله المخرج شودهوري بطيئاً قبل تلك المباراة وما بعدها. بعضُ المشاهد لديها نسبة معقولة من الشِّعر الناتج عن تصوير الطبيعة (ماء، أشجار، حياة... إلخ) وبعضها الآخر لا يفضي إلى تقدير خاص. في نصف الساعة الأولى يعكس المخرج شغفاً ما بتصوير شخصياته من الخلف. عندما يتخلى المخرج عن هذه العادة لاحقاً، يستبدل بتلك اللقطات سلسلة من المشاهد البعيدة عن شخصياته في الغالب. هنا يتحسّن تأطير اللقطات على نحوٍ نافع ولو أن شغله على الدراما يبقى غير ذي مكانة.

يطرح الفيلم مشكلة رجلٍ لا يريد الاعتراف بالواقع ويتحدى من هو أكثر قوّة منه. يحقّق طموحه بلقاء المصارع الآخر ويخفق في التغلب عليه. في الواقع يسقط أرضاً مغشياً ومن ثمّ نراه لاحقاً في بيت العائلة قبل أن يعود إلى تلك الأشجار ليصارعها. المخرج (ثاني فيلم له) طموح، لكن أدواته التّعبيرية وإمكانياته التي تفرض نفسها على السيناريو وحجم الفيلم بأسره، محدودة.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

ONE OF THOSE DAYS WHEN HEMME DIES ★★★

* إخراج: مراد فرات أوغلو (تركيا).

قرب نهاية الفيلم يبدأ الشاب أيوب مراجعة ما مرّ به طوال اليوم. لقد انطلق غاضباً من المُشرِف على العمل عندما شتم أمّه. يعمل أيوب في حقلٍ لتجفيف الطاطم. ويعرف المخرج كيف يوظّف المكان، درامياً (سهل منبطح تحت شمس حامية وصعوبة العمل)، وجمالياً (تلك الثمار المقطوعة إلى نصفين والملقاة فوق شراشف على مد النظر).

«أحد تلك الأيام التي مات فيها هيمي» (مهرجان مراكش)

نقطة الخلاف أن أيوب يُطالب بأتعابه، لكن المُشرف على العمل لم يتقاضَ المال بعد ليدفع له، مما يؤجّج غضب أيوب فينشب شجار بينهما. يركب دراجته النارية وينطلق صوب بلدته. في منزله مسدسٌ سيتسلّح به وفي البال أن يعود لينتقم. معظم الفيلم هو رحلة على الدراجة التي تتعطل مرّتين قبل إصلاحها عند المساء. الأحداث التي تقع على الطريق وفي القرية الصغيرة تُزيّن الموضوع بشخصيات تدخل وتخرج من الحدث الرئيسي الماثل. في أحد هذه الأحداث الثانوية يُساعد أيوب رجلاً عجوزاً اشترى بطيخة ولا يستطيع حملها، فيوصله والبطيخة إلى داره. وفي مشهد آخر يستمع لتوبيخ زوج شقيقته لأنه كان عرض عليه العمل في شركته ورفض. لا يقول لنا الفيلم لماذا رفض ما ينتقص من بنية الموضوع وأسباب عزوف أيوب على تنفيذ وعده لنفسه بالانتقام.

اعتمد المخرج هذين المشهدين وسواهما لملء الوقت الممتد بين عزم أيوب على الانتقام وعزوفه عن ذلك. لكنه هذه المشاهد ضرورية رغم أن الفيلم ينتهي من دون أن يبني حجة دامغة لقرار أيوب النهائي. هذا الفيلم دراما مصوّرة جيداً ومكتوبة بدراية، رغم الهفوات المذكورة.

* عروض حالياً في مهرجان «مراكش»

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز