أين ينتهي دور الحاكم المدني؟ وأين يبدأ دور القائد العسكري؟

صدر للكاتب خالد الغنامي ترجمة جديدة عن كتاب الأكاديمي الأميركي المتخصص في السياسة البروفسور إليوت كوهين، المعنون بـ«القيادة العليا: الجنود ورجال الدولة والقيادة في زمن الحرب»، الذي يطرح فيه أسئلة من نوع: أين ينتهي دور الحاكم المدني؟ وأين يبدأ دور القائد العسكري ثم ينتهي بدوره؟ وهي أسئلة تشكل الموضوع الأساسي لهذا الكتاب.
ويرى المترجم الغنامي أن الكتاب الذي صدر من دار «مدارك» للنشر «من أقوى النصوص السياسية التي كتبت بالإنجليزية خلال السنوات العشر الماضية لأنه كتاب في فن الحُكم، يعلّم فن التحليل التاريخي، وفن التحليل السياسي، في بضع مئات من الصفحات»، لافتاً إلى أن أهمية هذا الكتاب تكمن في أنه يتحدث عن قضية في غاية الحساسية، ألا وهي تلك العلاقة شديدة التعقيد بين الحاكم المدني والقائد العسكري الميداني. ويخص المؤلف زمن الحرب لأنه الزمن التي تبرز فيه الخلافات، وتكون على أشدها بين الطرفين المذكورين. فزمن الحرب يختلف عن زمن السلم، حيث «تُحبس العلاقة بين الطرفين في إطار المجاملات. أما في زمن الحرب، فالوضع يختلف إذ لا يوجد وقتٌ للمجاملات. هناك دولٌ بأسرها تواجه سؤال الوجود: نكون أو لا نكون».
ومع هذا السؤال، يُفترض أن تصبح المصلحة الوطنية مقدمة على كل اعتبار، وكلا الطرفين سيعتقد في نفسه أنه الأعرف بمكامن تلك المصلحة. القادة العسكريون يريدون يداً مطلقة في اتخاذ القرارات الخطيرة، دون الرجوع أو الحاجة إلى موافقة الحاكم المدني. هذه هي مطالبة الجنرالات عبر التاريخ. أما الحكّام المدنيون، فكانوا وما زالوا يرون أن السياسي وحده هو من يملك الحق في أن يبدأ الحرب ويُنهيها. وهناك نظرية متداولة في هذا العلم، علم وضع الاستراتيجيات، يسمّيها المؤلف «النظرية السائدة في العلاقات بين المدنيين والعسكريين»، وهي النظرية التي تقول إن على الزعيم السياسي الذي يريد أن يتنصر في حرب ما أن يقوم بتحديد الأهداف، وتعبئة الجماهير، واختيار القائد المناسب، وتسليمه إدارة شؤون الحرب كافة، وإن واجب الحاكم المدني إن أعطى للقائد العسكري أمراً، أن يمنح له القدر الكافي من الحرية لتنفيذ ذلك الأمر. هذه النظرية كانت تحسم هذه العلاقة على مدى القرون الماضية، إلا أن هناك اعتراضات برزت على هذه النظرية، فصارت في مجال تتنازعها فيه الأيدي، وتختلف رؤى الحكّام والقادة في تحديد حدودها وطريقة تطبيقها، وهناك من ينسفها بالكامل ولا يؤمن بجدواها.
ويناقش الكتاب مشكلة العلاقات بين المدنيين والعسكريين في زمن الحرب، واختار المؤلف عدداً من الشخصيات التاريخية، وصار يتوسع ويضيف فصولاً جديدة حتى كاد يغطي كل حروب أميركا، منتهياً بغزوها للعراق.
وبدأ المؤلف بـ«لنكولن والحرب الأهلية الأميركية»، حين قررت سبع ولايات جنوبية الانفصال عن الولايات المتحدة، وتكوين اتحاد آخر، ثم أسمت كيانها «الولايات الكونفدرالية الأميركية»، في مقابل الولايات المتحدة الأميركية، واختارت لها رئيساً ودستوراً مختلفاً، كما اختارت مونتغمري (عاصمة ألاباما) لتكون عاصمة للكونفدرالية. أما سبب الحرب، فهو أن تلك الولايات السبع يقوم اقتصادها على الزراعة، خصوصاً زراعة القطن الذي يعتمد قطفه على العبيد بشكل كبير.
الإعلان عن الانفصال جاء كردّ على ما أعلنه المرشح الجمهوري الشاب إبراهام لنكولن في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 1860، من أنه سيتوسّع في سياسة الحدّ من الرق. عندها، تم الإعلان عن الكونفدرالية في فبراير (شباط) 1861، قبل أن يدخل لنكولن البيت الأبيض في مارس (آذار) 1861. وبدأت الحرب في 12 أبريل (نيسان) 1861، عندما طلب حصن سيمتر، في تشارلستون (كارولينا الجنوبية)، الإمدادات من الرئيس لنكولن ليقوّي تحصيناته ضد هجوم محتمل من الكونفدرالية في كارولينا الشمالية. فأمر لنكولن بتزويدهم بتلك الإمدادات دون الدخول في اشتباك، إلا أن الكونفدرالية اعتبرت فعله هذا بمثابة إعلان للحرب. ومع بداية الحرب، بدأ الخلاف بين وجهات النظر. فقد أجمع الجنرالات على أنه لا يمكن الدفاع عن حصن سيمتر، وأن الحل الأمثل هو الانسحاب الطوعي منه، بينما كان للثعلب الكبير لنكولن رأي آخر، فلم ينسحب، ولم يبدأ الحرب. ها هنا، برز أول خلاف بين الرؤيتين المدنية والعسكرية في فترة لنكولن. لقد ترك للكونفدراليين مثلبة أن يطلقوا الطلقة الأولى، وأن يريقوا الدم الأول من أجساد أبناء وطنهم من الأميركيين، ليزيد بذلك تورّطهم في الدخول في موقف منبوذ من الجميع، مما سيتيح فرصة الفوز بحظوة، وتقدير بقية الولايات التي أربكها الموقف الثوري الجديد.
لقد كان المؤلف ذكياً للغاية وهو يحلل، سياسياً ونفسياً، شخصية لنكولن من خلال رسائله المحفوظة، ليخرج لنا بوجه آخر للرئيس. ليس بالوجه الجميل الذي اعتاد تخيله من يستقون المعرفة من الأفلام السينمائية. إنه وجه ماكر ومفرط الدهاء، كما أنه وجهٌ في غاية الصرامة والقسوة، وهو نفسه من أنقذ البلاد. لقد اعتمد المؤلف في هذا الفصل على الوثائق والخطابات التي كتبها لنكولن لقادته، وهي خطابات أقل ما يؤخذ منها: سحر الصراحة عندما تنطلق من التفكير العقلاني المتجرد من العواطف.
الشخصية الثانية هي جورج كليمنصو، رئيس وزراء فرنسا وزير دفاعها في أثناء الحرب العالمية الأولى. رجل اشتهر بأنه كان يرى أن للحرب شأناً لا يجوز أن يترك للعسكريين، وأن الأولوية للمدنيين في هذا الشأن، كما في حال السلم. حجة كليمنصو هي أن الحرب تبدأ لأسباب سياسية، وتنتهي لأسباب سياسية، وهذا فنٌ لا يُحسنه رجال الحرب، بل رجال السياسة. موقفه الحادّ أدى إلى صدامه مع ابن وطنه الجنرال فرديناند فوش، ذلك الزعيم المشهور الذي شغل منصب القائد الأعلى لجيوش الحلفاء حتى 11 نوفمبر 1918. هل كان الحق مع كليمنصو، السياسي المنتقص لعقول وخبرات واختيارات الجنرالات، أم أن الحق كان مع الجنرال فوش الذي لم تُرضه معاهدة فرساي، رغم قسوة شروطها على الألمان، فقال مقولته الشهيرة التي لن ينساها أبداً من يقرأ سير القادة العظماء: «هذه ليست معاهدة سلام، هذه هدنة مدتها عشرين عاماً»؟ لا شك أن دور النمر العجوز كليمنصو في صناعة النصر لبلاده كان أكبر وأهم، لكن كيف لنا ألا نذهل ونصاب بالدهشة، ونحن نقرأ تلك الجملة المحفوظة عن فوش، ثم نرى أدولف هتلر بعد عشرين سنة تماماً يشعل النار في أوروبا كلها، عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية.
صدق الإلهام الذي طرق بال فوش. ففي 1 سبتمبر (أيلول) 1939، كان احتلال أدولف هتلر لبولندا (في مدة شهر). إنها الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الثانية. وفي 10 مايو (أيار) 1940، بدأ هتلر باحتلال بلجيكا وفرنسا. في اليوم نفسه، تم تعيين ونستون تشرشل رئيساً لوزراء بريطانيا. إنه تشرشل؛ الرجل الذي يوصف بأنه أعظم قائد حرب في القرن العشرين. «النصر» هو ما سلط تشرشل كل طاقته باتجاهه، وإن شاب هذا فظاظة وقسوة مع قادته وجنوده. وعلى حد تعبير المؤلف: انطلقت علاقة تشرشل غير السهلة مع جنرالاته، في الجزء الأكبر منها، من رغبته في ضبط قادته الذين لا يتفقون معه، وقد فعل ذلك بصورة عنيفة.