خلال أسبوع باريس للموضة الأخير، وفي فندق الريتز، كان اللقاء مع جيامبيرو بودينو. كانت المناسبة كشف الستار عن 3 ساعات سرية تُجسد شغفه بالأشكال الهندسية وفن العمارة، كما تُعبر عن رومانسية عميقة تجسدها الورود المتفتحة بشتى ألوان الأحجار الكريمة.
ساعة «بريمافيرا» مثلاً تُجسد بساطة الورد في تصميم ثلاثي الأبعاد، تُعززه أشكال بتلات من الماس والسافير الوردي، إضافة إلى أحجار ماسية رمادية، بينما تأتي ساعة «روزا دي فانتي» على شكل زنبقة ماء ناعمة، تتوسطها زمردة غير مصقولة من عيار 11.49 قيراط، من زامبيا. وأخيراً وليس آخراً، ساعة «موزاييكو» بشكلها الهندسي الذي تغطيه فسيفساء من الدوائر المتشابكة المصنوعة من أحجار الألماس المرصعة على حجر السبينل الأبيض والذهبي والأسود. هذه الساعات الثلاث طال انتظارها من المصمم، فرغم تعاوناته لسنوات وراء الكواليس مع شركات ساعات مهمة ضمن مجموعة ريشمون، مثل «بانيراي» و«بولغاري» وغيرهما، ارتأى أن ينصب تركيزه على الجواهر الرفيعة أولاً عندما أطلق داره، في عام 2013.
عندما يدخل جيامبيرو بودينو القاعة التي تستعرض فيها الساعات الثلاث، يشدك بطوله الفارع، ومظهره الذي يحاكي أسلوب نجوم الروك أند رول. كان يلبس جاكيتاً جلدياً، وبنطلوناً من الجينز باللون الأسود، وحذاءً عالي الرقبة يُربط بأحزمة، فضلاً عن خواتم ضخمة تزين أصابعه.
ليس هذا هو المظهر الذي ترسمه في خيالك لمصمم جواهر، لكن هذا لا يمنع من القول إن قوة تأثيره لا يضاهيها سوى درامية الأحجار الكبيرة التي يصوغ بها تصاميمه. عندما أشير له بانطباعي الأولى، يرد مبتسماً وهو يطمئنني بأن مظهره يخفي في جوهره طفلاً مسكوناً بالرومانسية، وبأنه مزيج بين القوة والنعومة، العقل والعاطفة: «وأعتقد أن هذا مهم جداً في عملي، وتعكسه تصاميمي. فهي كلاسيكية في شكلها، لكنها تتضمن دائماً عنصراً جديداً ومبتكراً (...) وهذا هو ما اعتبره عصرياً».
ثم يتابع بصوت تعمد أن يكون هامساً: «لا تستغربي أني أبكي ولا أتمالك دموعي عندما أشاهد فيلماً حزيناً، أو رومانسياً... أنا لا أمزح».
ورغم كل ما حققه من نجاحات، واكتسبه من سُمعة طيبة في مجاله، يتميز بودينو بتواضع فطري، يصل أحياناً إلى درجة التقليل من قدراته. فطوال الحديث معه، كرر عشرات المرات أنه لولا الحظ لما وصل إلى ما وصل إليه: «قد أكون موهوباً، وقد تخرجت من الجامعة بدرجات عالية، لكن الحظ لعب دوراً مهماً في حياتي. فهناك أشخاص موهوبون ومتفوقون في مجالاتهم، ولم تُتح لهم فرصة ليفجروا ما بداخلهم من طاقة. وبالتالي، لم ينالوا ما يستحقونه (...) مشكلتهم لم يوجدوا في المكان المناسب والوقت المناسب (...) من هذا المنظور، اعتبر نفسي محظوظاً».
وُلد جيامبيرو بودينو ودرس في تورينو، عاصمة صناعة السيارات الإيطالية، وكان من الممكن أن يبقى فيها طوال حياته، مثل كثير من أبناء جيله ممن تخرجوا معه لولا الصدفة أو الحظ، كما يسميها. وبما أنه كان من المتخرجين المتفوقين، لم يجد صعوبة في أن يجد وظيفة في مجال تصميم السيارات مباشرة بعد تخرجه، وكان من الممكن أن يبقى مكتفياً بها طوال حياته، لكن الأقدار كانت في صالحه. ففي يوم من الأيام، تلقى رسالة من مدير مدرسته القديمة، يطلب فيها مقابلته، ليخبره بأن واحداً من أفراد عائلة بولغاري، المالكة لدار الجواهر الشهيرة بروما، أعجب في زيارة له للمدرسة برسم كان قد قدمه وهو طالب فيها، ويرغب في مقابلته. وبالفعل، حصل اللقاء، وأعرب السيد بولغاري لبودينو الشاب عن أنه ينوي إعادة هيكلة الشركة، وتغيير مصمميها بروما. ويتذكر بودينو أن السيد بولغاري أخبره - حينذاك - بأنه لم يكن يريد مصمماً له خبرة طويلة في تصميم الجواهر، بل يبحث عن شاب من مجال آخر، له قدرة على تقديم رؤية مختلفة عما هو سائد في الساحة. «كان من الممكن أن أرفض، وأبقى في تورينو، لكني كنت شجاعاً وقبلت التحدي، وهو ما اعتبره أيضاً حظاً لأنه فتح آفاقي على أشياء كثيرة»، حسب قوله.
لا يختلف كل من يعرف بودينو شخصياً، أو من خلال تصاميمه، على أنه فنان مُبدع عاشق للجمال. فقد ساعدته دراسته للهندسة المعمارية، وعمله في تصميم السيارات، ثم عمله لفترة طويلة وراء الكواليس، على اكتساب خبرة عميقة. فمجموعة ريشمون التي يعمل معها منذ عدة عقود تضم بيوت جواهر وساعات من عيار كارتييه، فان كليف أند آربلز، بياجيه، جيجير لوكولتر، أوفيشيني بانيراي، فاشرون كونستانتين، بوم أن ميرسييه، مونبلان، وغيرهم.
ورغم أنه كان بإمكان «ريشمون» أن تشتري أي دار جواهر قديمة وتُنعشها، مثل ما حصل مع كثير من بيوت الأزياء والجواهر في العقد الأخير، فإن جوهان روبرت، الرئيس التنفيذي للمجموعة، رأى أن تأسيس دار جديدة من الصفر أسهل، وأرخص بكثير، لأنها لا تحتاج إلى تسويق وعلاقات عامة وما شابه من أمور. الأهم من هذا أنه كان مؤمناً ببودينو، ويثق بأنه أفضل من يمكن أن يقوم بالمهمة، عدا أنه شعر بأن الوقت قد حان لكي يأخذ حقه، ويُوقع تصاميمه باسمه الخاص.
مرة أخرى قبل المصمم التحدي، وإن بعد تردد هذه المرة لأن فورة الشباب التي كانت تتملكه منذ قرابة 20 عاماً تقريباً خففت منها تجارب الحياة.
ومع ذلك، شعر بأن «الوقت كان مواتياً»، حسب رأيه، ليقبل عرضاً ربما كان سيرفضه من قبل. صحيح أن العمل مع الآخرين وسع نظرته الفنية، ومنحه خبرة لا تقدر بثمن، لكن تبقى بداخل كل فنان طاقة هائلة تحتاج للتنفيس عنها بأسلوبه الخاص، ومن دون قيود أو تقيد برموز متوارثة.
من هذا المنظور، كانت المسألة بالنسبة له بمثابة هدية، بمعنى أنها كانت «كنفس» أبيض يمكنه أن يرسم عليه تصوره الشخصي للجمال والأناقة بحرية تامة. هنا أيضاً، يعود إلى تذكيري بالحظ ودوره في حياته، بدءاً من تفكير جوهان روبرت به في المقام الأول، إلى ثقته به ومنحه كل الصلاحيات، بوضع كل الإمكانيات التي تتمتع بها المجموعة تحت تصرفه، موضحاً: «أنا لم أبدأ من الصفر مثل غيري، والحرية التي مُنحت لي ترف لا يمكن وصفه».
عندما يعود الحديث إلى الجواهر، يشرح أنها مثل الناس تماماً: «أحياناً نرى شخصاً يعجبنا عن بُعد، وعندما نجلس معه، ونتعرف عليه أكثر، يختفي جماله، وتحل محله حالة من الملل، أو نشعر بأنه عادي جداً، وهو ما ينطبق على الجواهر أيضاً». كان هنا يُلمح إلى أن التصاميم المطروحة في الأسواق حالياً بأسعار خيالية أصبحت متشابهة في تسابقها على جذب الانتباه، وتحقيق الربح بالترويج لها على أنها استثمار. صحيح أنه لا غبار عليها، ولا تفتقد إلى الدقة والجودة، حسب رأيه، لكنها تفتقد إلى العاطفة «وهذا ما أحرص على أن أضيفه في كل قطعة أصوغها (...) ذلك الإحساس بالحب والتفرد والخصوصية، فأنا لست تاجر جواهر مهمته بيع الأحجار الكريمة بأي شكل». هذا لا يعني أنه لا يولي الأحجار الكريمة والكبيرة الحجم أهمية، فهو يختارها بدقة، كما يستعملها بسخاء لتكون استثماراً بعيد المدى، لكنه يرفض أن يأتي على حساب الإبداع في التصميم، «فأنا لو ركزت على الأحجار وحدها، سأتجاهل عنصر الإبداع والابتكار، وأسقط في مطب التكرار. ثم إن هذه الأحجار تتنفس وتتحدث لغة راقية، مهمتي أن أفهمها لكي أوظفها في أشكال تُبرز جمالها وطاقتها، لا سيما أن الوقت قد تغير».
التغيير الذي يقصده يطال أيضاً مفهوم الترف، وطرق التسوق حالياً «فمنذ 20 أو 30 سنة تقريباً، كان اسم الدار هو الذي يُحدد قيمة وأهمية قطعة الجواهر. ورغم أن الأمر لا يزال كذلك إلى حد ما لأن الناس تثق في دار معروفة لسمعتها، أو لتعاملهم معها لعقود، أو فقط بدافع الرغبة في استعراض قدراتهم الشرائية، فإني ألاحظ تغيراً ملموساً يظهر جلياً في تقنينهم لما يشترونه. فهم يكتفون الآن بقطعة واحدة مميزة فريدة، عوض شراء عدة قطع، خصوصاً أنهم يدفعون مبالغ طائلة يريدون أن يكون لها ما يبررها».
هذه الثقافة لا تزال برأيه في أولها، ولم تنضج تماماً، إلا أنها تتضح بالتدريج. فزبون اليوم يريد التصميم المبتكر الأنيق، وفي الوقت ذاته الاستثمار فيها، فيما يخص المواد المترفة والأحجار عالية الجودة المستعملة فيها. فالجواهر كانت دائماً زينة وخزينة، وهذه هي المعادلة التي عمل جيامبيرو بودينو على تحقيقها، ونجح.
جيامبيرو بودينو: أدين بنجاحي للحظ وحرية الإبداع
فنان يصوغ جواهره لتكون زينة وخزينة
جيامبيرو بودينو: أدين بنجاحي للحظ وحرية الإبداع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة