هزائم تلد أخرى

ذاكرتنا الجمعية كما يبدو ليست على ما يرام. فنحن لا نكف عن إعادة إنتاج الأوهام ذاتها، مرة تلو مرة. وإذا كانت في المرة الأولى مأساة، إذا استعرنا تعبير فريدريك هيغل، فهي في المرة الثانية مسخرة. الجوهر باقٍ كما هو في الحالتين. يتغير الديكور في كل مرة، ونصوره على أنه الجوهر. وهكذا، لم نتعلم شيئاً من هزائمنا التي لا نكف عن إنجابها كل عقد تقريباً ابتداء من النكبة الأولى - هل كانت الأولى - ؟ عام 1948. ثم الانقلابات العسكرية في مصر وسوريا والعراق، التي سميناها ثورات على طريقتنا في صناعة الأوهام الكبرى. وهي لم تكن في الحقيقة سوى عمليات قطع تاريخية واجتماعية كبرى في طريق تطورنا الطبيعي.
تولد من هذا الوهم ما سميناه بالفكر القومي، وشقه البعثي. ولم يكن هذا الفكر بتنظيراته الهجينة، المتأثرة أساساً بالمنطلقات الفكرية للحزب النازي، في تبنيه للفكر الشمولي الذي أراد من المجتمع كله أن يؤمن به بالقوة تحت شعارات هائمة مثل الوحدة والحرية والاشتراكية، سوى الحامل الفكري للأنظمة العسكرية الديكتاتورية، تحت شعار «محاربة الإمبريالية» و«مساندة الأنظمة الوطنية». والمفارقة، إن الأحزاب اليسارية، التي كانت تنازع الاتجاهات القومية في الشارع العربي، تبنت الأطروحات نفسها، على الرغم من التنافر الآيديولوجي الكبير بين الطرفين. كل الأنظمة العسكرية المتعاقبة منذ انقلاب جمال عبد الناصر حظيت بمباركة الطرفين، اللذين ساهما مساهمة كبرى في خلق الوهم الكبير عند الناس حول طبيعة السلطة الحاكمة، وتمييع المطلب الأساسي المفقود في حياتنا السياسية والاجتماعية: الديمقراطية.
هل تغير شيء بعد خمسين عاما من هزيمة 67؟ للأسف، لم يتغير شيء. فلا تزال الأسباب التي أدت إلى الكارثة هي نفسها، ولا تزال البنى الفكرية والاجتماعية هي نفسها، ولا يزال الخراب المادي والاجتماعي والثقافي هو نفسه مهما جمّلناه، أو هربنا منه إلى الأمام، بينما المطلوب العودة إلى الماضي، ونبش ما أبقيناه عالقاً في الأرض، بانتظار أن ينبثق من جديد، وهو يفعل ذلك كلما غفلنا أو تغافلنا.
ولنذكر هنا بتقرير التنمية البشرية التابعة للأمم المتحدة الصادر قبل ستة أشهر فقط: نحن نشكل 5 في المائة فقط من سكان العالم، ومع ذلك 45 في المائة من الإرهاب العالمي انطلق من أرضنا وتاريخنا، و58 في المائة من لاجئي العالم ينتمون إلينا. أما فسادنا فهو يلتهم 75 ملياراً في كل سنة على مدى ربع قرن، وتريليوناً يتسرب إلى الجيوب عبر السرقات الصغيرة غير المرئية. في المقابل هناك جيل ينمو: 100 مليون شاب، أي 30 في المائة من 370 مليون عربي، وهو، حسب التقرير، الجيل الأكثر تمدناً في تاريخ المنطقة، والأكثر مستوى تعليمياً.. لكن هناك حقيقة أخرى، لا يراها البعض أو لا يريد أن يراها عن سابق إصرار، وخصوصاً السياسيون. هذا الجيل مختنق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ونفسياً.. وحينما تحين اللحظة الذاتية والموضوعية المناسبة، كما يعلمنا التاريخ، والدروس القريبة للربيع العربي، سيعبر هذا الجيل عن نفسه بأشكال مختلفة، ليس أقلها الانفجار.
وأضيفوا إلى هذه القائمة حرماننا، منذ عهد موغل في القدم، من حقنا الأساسي في الحياة: الحرية.
لماذا، إذن، لا ننجب ألف كارثة، ليس في الماضي فقط، وإنما في المستقبل أيضاً؟