«داعش» بين فقدان الوهج واستمرار تكتيكاته

طموحه بدأ في التقهقر منذ استهداف قوات التحالف بغاراتها مناطق قوى التنظيم

أحد عناصر {قوات سوريا الديمقراطية} يزيل علماً لـ {داعش} في الرقة  (أ.ف.ب)
أحد عناصر {قوات سوريا الديمقراطية} يزيل علماً لـ {داعش} في الرقة (أ.ف.ب)
TT

«داعش» بين فقدان الوهج واستمرار تكتيكاته

أحد عناصر {قوات سوريا الديمقراطية} يزيل علماً لـ {داعش} في الرقة  (أ.ف.ب)
أحد عناصر {قوات سوريا الديمقراطية} يزيل علماً لـ {داعش} في الرقة (أ.ف.ب)

يتعرض تنظيم داعش لهزّة قوية تسببت في إرباك لاستراتيجياته التي شكلت هويته منذ بداية ظهوره كتنظيم متطرف، هدفه اتضح من خلال اسمه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وحمل أملاً ينبع للمتطرفين عبر انعدام الأمن واستفحال حالة العنف وسط الارتباك، لتتغير التسمية فيما بعد إلى «الدولة الإسلامية» فحسب منذ إعلان التنظيم ذلك في 29 يونيو (حزيران) عام 2014 بطموحٍ مبالغ فيه لإقامة خلافة عالمية. ذلك الطموح بدأ في التقهقر منذ بدء استهداف قوات التحالف بغاراتها مناطق قوى التنظيم. الأمر الذي تعكسه تصريحات المسؤولين خلال اجتماع التحالف الدولي ضد «داعش» في 21 مارس (آذار) الماضي، حيث أوضح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أن «من أهم استراتيجيات مكافحة التنظيم وقف تمدده إلى خارج المنطقة وطموحاته في إقامة (الخلافة)»، وأن «ما يجمع بين المسؤولين المناهضين لـ(داعش) في الاجتماع ذاته هو التزامهم بهزيمة قوة الشر العالمية».
هذا الطموح يبدو أنه فقد وهجه في الآونة الأخيرة بعد أن بدأ التنظيم يلفظ أنفاسه الأخيرة والاستمرار بالقيام بهجمات عشوائية تظهر أشبه بعمليات فردية لمجرمين مختلي العقول، سواء عبر الطعن أو إطلاق النار على المدنيين عبر العالم.
يظهر ذلك من خلال العملية الإرهابية التي نفذت في لندن أمام البرلمان البريطاني في 22 مارس من قبل البريطاني خالد مسعود، صاحب الاسم الفعلي أدريان راسل، بعمر تجاوز 52 عاماً، ومن خلال عملية تعد مرتكبة من قبل «ذئب منفرد»، وإن كان تنظيم داعش قد نسب الهجوم إلى نفسه على أنه استهداف لرعايا دول التحالف بناء على مطالب لتنفيذ ذلك كرد على هجماتهم على المناطق التي يسيطر عليها التنظيم.
وقد جاء هجوم لندن في ذكرى هجمات بروكسل التي اتخذت النسق ذاته، وذلك في محاولة واهية للادعاء باستمرار تماسكه كتنظيم وقدرته على إرهاب العدو، أو كما أفادت تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بأن الحادثة تعد بمثابة هجوم على الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان وسيادة القانون، كما وصفت مرتكب الهجوم بأنه قام بالتنفيس عن جام غضبه بأسلوب عشوائي ضد الأبرياء.
وهذا الاستمرار في الاستهداف العشوائي على يد أشخاص مضطربين نفسياً ومؤدلجين ومحملين بثقافة الضغينة والسعي في إلغاء وجود الآخرين، يتوقع أن يستمر كآخر رمق للتنظيم بعد أن ازدادت صعوبة تنفيذ الهجمات الإرهابية بعد تشديد الأمن على الصعيد الدولي، وبعد أن تم تضييق الحصار عليهم في مناطق نفوذهم السابقة.

استمرار نهج التكتيكات
وعلى الرغم من التغير في الاستراتيجيات الداعشية، فإن التكتيكات تظل ذاتها دون تغيير. يظهر ذلك من خلال سعي التنظيم في استقطاب الآخرين وإقناعهم بالأهداف الداعشية على النهج ذاته من شيطنة العدو وإظهاره كأهداف لا بد من إنهاء حياتهم والانتقام منهم.
منذ عام 2016 من خلال منشورات التنظيم ورسائله الإلكترونية كمجلة «دابق» التي دعت مناصري «داعش» والمنتسبين إليه إلى مهاجمة كل من يخالفهم باستخدام السلاح، سواء باستخدام البنادق والمتفجرات أو حتى السكاكين. في سعي نحو الاستمرار في استخدام توليفة التخوين وإقصاء الآخر وشرعنة قتله، وبالأخص الأقليات التي يسهل تخوينها وتكفيرها وتحويلها إلى أعداء مستهدفين، وفي الوقت نفسه يتسبب ذلك في بلبلة وإثارة غضب الأقليات. ففي منطقة الشرق الأوسط يأتي استهداف الأقباط في مصر والشيعة في السعودية، وفي العراق الجيش العراقي والشيعة والأكراد.
فيما دعا التنظيم أخيراً مناصريه إلى استهداف اليهود في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وذلك عبر عنصر المباغتة سواء بالطعن أو إطلاق النار العشوائي عليهم. الأمر الذي يتفاقم ويصبح شيطنة الأغلبية في الدول الغربية كأعداء للمسلمين ينبغي استهدافهم بالأخص في الآونة الأخيرة مع تصاعد صوت اليمين وتزايد عدد المهاجرين غير الشرعيين المطالبين بحقوقهم.

تكرار الرسائل الإعلامية
تظل الرسائل الإعلامية أو الدعائية للتنظيمات الإرهابية ذاتها لا تختلف كثيراً عن التنظيمات السابقة، سواء عبر استخدام المنشورات والكتيبات الإلكترونية، أو البث المرئي الذي يظهر أشخاصاً عاديين اعتنقوا الفكر الداعشي وآمنوا به، وقرروا نبذ حياتهم العادية مع ذكرٍ لمبررات ذلك قبل الإتيان بعملية انتحارية. مع ابتعاد للظهور المرئي وتقليل التصريحات لقادة «داعش» كأبوبكر البغدادي. إذ يظهر كأن التنظيم أكثر شعبوية في محاولة لاستقطاب لعدد أكبر من الأشخاص، عن «القاعدة» الذي كان أشبه بتنظيم نخبوي يعظم من شأنه قادته وخطاباتهم كأسامة بن لادن وأيمن الظواهري. وإن تفوق «داعش» عن غيره بالطبع في قدرته على التغلغل إلى الآخرين ومحاولة فهم نفسياتهم وما ينتقصهم في حيواتهم، ومحاولة التعامل معهم بطرق مختلفة حسب أوضاع المكان وطباع الشخوص.
في بث مرئي داعشي جديد ظهر في شهر مارس تحت عنوان «وأنتم الأعلون»، ظهر هذا الامتداد لمحاولة استقطاب الآخرين من خلال تسليط الضوء على نماذج لمتطرفين يفترض أن يمتازوا بالهدوء ونبذ العنف كطبيب طاعن في السن وآخر طفل خطا للتو مرحلة المراهقة. فطبيب الأسنان أبو سالم المصلاوي يأتي بمظهر هادئ وهو يرتدي المعطف الأبيض ويقرر فجأة نبذ عمله ويتساءل: «فما فائدة معالجة المرضى؟»، ومع تعليق بارتفاع قدر الإنسان بمقدار إيمانه لا بمقدار عمله وشهاداته الجامعية. الأمر الذي يعلل فيما بعد سبب التحاقه بعملية انتحارية بسيارة مفخخة استهدفت الجيش العراقي كأنه الخيار الوحيد لمقاومة الوضع الراهن.
ويقابله من جهة أخرى مقطع للطفل أبو فاروق العراقي، الذي يصف بغضب رغبته بتفجير والده لتهديده له في حال استمراره البقاء مع التنظيم، ومن ثم يقوم بعملية انتحارية في الموصل. نماذج تدل على اختفاء براءة طفل وإيمان طبيب من المفترض أن يبحث عن معالجة الحالات الإنسانية ليستحيل الكره والقتل هدفاً أسمى وأهم. وهو أسلوب ليس بجديد في إشارته إلى تجارب «استشهادية» سابقة ومحاولة تخليد ذكرهم وتشجيع الآخرين على القيام بمثل هذه العمليات التي تظهر كأنها رحلة مشوقة. وقد برع تنظيم داعش في تخفيفه من التصوير المروع لجثث ووجوه الانتحاريين بعد مقتلهم، الأمر الذي كان «القاعدة» يقوم به في السابق، وقد يتسبب في تخويف من يخطط للالتحاق بمثل هذه العملية.

النقلة الاستراتيجية عبر الدعاية
وينجح البث المرئي في الآونة الأخيرة في تصوير ما يحدث كأنه أشبه بتفاخر أشخاص أقوياء واثقين في قدراتهم، كما يردد المتحدث في التسجيل الداعشي الأخير: «إنه عصر الملاحم جاء يزهو بالقتال»، وقد جاء هذا العصر «وأذاق فيه جنود الخلافة أحزاب الكفر أصناف العذاب والبلاء»، وهو وصف مبالغ فيه كسجيل يتهاوى عليهم من كبد السماء. فيما يظهر إسقاط للرؤية الداعشية المختلفة في الآونة الأخيرة ومحاولة لتأكيد أن استهدافهم في العراق وسوريا بهجمات عنيفة أوشكت على القضاء على أماكن وجودهم هناك. فكما يذكر المتحدث في البث المعنون «وأنتم الأعلون»: «وما علموا أن الأرض التي ابتلعت الآلاف من نخبهم وآلياتهم وأموالهم لم تكن يوماً ولن تكون هدفاً لقتالنا». وفي ذلك تتضح محاولات التنظيم التظاهر بالتماسك وعدم الضعف. «أما نحن فما قاتلنا يوماً من أجل الأرض وإنما نقاتل لإعادة الخلافة وإقامة شرع الله. نقاتل لنحكم الأرض كلها بما أنزل الله. لا نفاوض إلا بالمدافع ولا نحاور إلا بالبنادق. لا نساوم ولا نستجدي فلن نتكلم إلا بالقوة». وتعكس مثل هذه الرسالة تحوير الرسالة المحورية للتنظيم وتحويل أهدافه الآيديولوجية من إقامة خلافة إسلامية تمتد عبر المناطق التي تحتلها في سوريا والعراق، إلى الالتزام فقط بالقتال من أجل إعادة الخلافة وإقامة شرائع الدين القويم، وذلك من أجل أن يتماشى ذلك مع ما ينفذه التنظيم من استهداف عشوائي لمناطق مختلفة في العالم، فإن ذلك حتماً لن يحقق المبتغى السابق في إرساء معالم الخلافة الإسلامية. فالأمر أصبح مجرد محاولة مستميتة للبقاء يذكرها المتحدث الداعشي في البث ذاته: «فنكون أو لا نكون».
إلا أن تلك الطموحات لا يظهر أنها ستصمد، فحتى الفيديو ذاته لم يتكثف وجوده على الساحة الإلكترونية، الأمر الذي يدل على بدء تقهقر قوة التنظيم وانصرافه عن محاولة الاستقطاب أو تهويل الآخرين بالصراع على البقاء. تلك المحاولة هي مجرد مبالغة وتضخيم مدى تماسكهم ومحاولة الادعاء باستمرار قدرتهم على إثارة البغض وإقصاء الآخر.
الأمر الذي قد يتلاشى تماماً إن تمكنت قوات التحالف فعلاً من قتل أبو بكر البغدادي، إذ لا يظهر وجود شخص آخر يماثله في مقدار قدرته على تأليب الآخرين وإثارة نقمتهم ورغبتهم في تنفيذ أوامر «أميرهم». كما صرح وزير الخارجية الأميركي باعتباره أن مقتله «مسألة وقت». التصريح الذي جاء بعد أن دعا أبو بكر البغدادي أتباعه فيما سماه «خطبة الوداع»، وذلك في 28 فبراير (شباط)، بالفرار من الموت المؤكد في العراق والتخفي في المناطق الجبلية، ومن ثم مغادرة العراق، أو إن عجزوا عن القيام بذلك تفجير أنفسهم، وذلك بعد تضييق الخناق عليهم من قبل القوات العراقية.
وبشكل عام، فإن صمد تنظيم داعش لمدة أطول وهو أمر يشكك في إمكانية حدوثه، فإنه حتماً سيكثف من محاولات نسج رسائل دعائية تستهدف أعواناً ومناصرين له في خارج المناطق التي كان يسيطر عليها في السابق، وسيمعن في التواصل ومحاولة جذب المهمشين والمضطربين فكرياً أو دينياً الباحثين عن وسط متطرف يقوم باحتضانهم، كالمتطرف البريطاني الأخير أدريان أو خالد، وإن ظهر ضعف وعدم اهتمام بنشر الرسائل الإعلامية في الآونة الأخيرة، والانشغال بمحاولة إنقاذ ما تبقى من هيكل التنظيم الذي فر حتى قادته من الأرض التي كانت هدفاً أساسياً نسجت استراتيجيات التنظيم من أجل تحقيقه.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».