«داعش» بين فقدان الوهج واستمرار تكتيكاته

طموحه بدأ في التقهقر منذ استهداف قوات التحالف بغاراتها مناطق قوى التنظيم

أحد عناصر {قوات سوريا الديمقراطية} يزيل علماً لـ {داعش} في الرقة  (أ.ف.ب)
أحد عناصر {قوات سوريا الديمقراطية} يزيل علماً لـ {داعش} في الرقة (أ.ف.ب)
TT

«داعش» بين فقدان الوهج واستمرار تكتيكاته

أحد عناصر {قوات سوريا الديمقراطية} يزيل علماً لـ {داعش} في الرقة  (أ.ف.ب)
أحد عناصر {قوات سوريا الديمقراطية} يزيل علماً لـ {داعش} في الرقة (أ.ف.ب)

يتعرض تنظيم داعش لهزّة قوية تسببت في إرباك لاستراتيجياته التي شكلت هويته منذ بداية ظهوره كتنظيم متطرف، هدفه اتضح من خلال اسمه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وحمل أملاً ينبع للمتطرفين عبر انعدام الأمن واستفحال حالة العنف وسط الارتباك، لتتغير التسمية فيما بعد إلى «الدولة الإسلامية» فحسب منذ إعلان التنظيم ذلك في 29 يونيو (حزيران) عام 2014 بطموحٍ مبالغ فيه لإقامة خلافة عالمية. ذلك الطموح بدأ في التقهقر منذ بدء استهداف قوات التحالف بغاراتها مناطق قوى التنظيم. الأمر الذي تعكسه تصريحات المسؤولين خلال اجتماع التحالف الدولي ضد «داعش» في 21 مارس (آذار) الماضي، حيث أوضح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أن «من أهم استراتيجيات مكافحة التنظيم وقف تمدده إلى خارج المنطقة وطموحاته في إقامة (الخلافة)»، وأن «ما يجمع بين المسؤولين المناهضين لـ(داعش) في الاجتماع ذاته هو التزامهم بهزيمة قوة الشر العالمية».
هذا الطموح يبدو أنه فقد وهجه في الآونة الأخيرة بعد أن بدأ التنظيم يلفظ أنفاسه الأخيرة والاستمرار بالقيام بهجمات عشوائية تظهر أشبه بعمليات فردية لمجرمين مختلي العقول، سواء عبر الطعن أو إطلاق النار على المدنيين عبر العالم.
يظهر ذلك من خلال العملية الإرهابية التي نفذت في لندن أمام البرلمان البريطاني في 22 مارس من قبل البريطاني خالد مسعود، صاحب الاسم الفعلي أدريان راسل، بعمر تجاوز 52 عاماً، ومن خلال عملية تعد مرتكبة من قبل «ذئب منفرد»، وإن كان تنظيم داعش قد نسب الهجوم إلى نفسه على أنه استهداف لرعايا دول التحالف بناء على مطالب لتنفيذ ذلك كرد على هجماتهم على المناطق التي يسيطر عليها التنظيم.
وقد جاء هجوم لندن في ذكرى هجمات بروكسل التي اتخذت النسق ذاته، وذلك في محاولة واهية للادعاء باستمرار تماسكه كتنظيم وقدرته على إرهاب العدو، أو كما أفادت تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بأن الحادثة تعد بمثابة هجوم على الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان وسيادة القانون، كما وصفت مرتكب الهجوم بأنه قام بالتنفيس عن جام غضبه بأسلوب عشوائي ضد الأبرياء.
وهذا الاستمرار في الاستهداف العشوائي على يد أشخاص مضطربين نفسياً ومؤدلجين ومحملين بثقافة الضغينة والسعي في إلغاء وجود الآخرين، يتوقع أن يستمر كآخر رمق للتنظيم بعد أن ازدادت صعوبة تنفيذ الهجمات الإرهابية بعد تشديد الأمن على الصعيد الدولي، وبعد أن تم تضييق الحصار عليهم في مناطق نفوذهم السابقة.

استمرار نهج التكتيكات
وعلى الرغم من التغير في الاستراتيجيات الداعشية، فإن التكتيكات تظل ذاتها دون تغيير. يظهر ذلك من خلال سعي التنظيم في استقطاب الآخرين وإقناعهم بالأهداف الداعشية على النهج ذاته من شيطنة العدو وإظهاره كأهداف لا بد من إنهاء حياتهم والانتقام منهم.
منذ عام 2016 من خلال منشورات التنظيم ورسائله الإلكترونية كمجلة «دابق» التي دعت مناصري «داعش» والمنتسبين إليه إلى مهاجمة كل من يخالفهم باستخدام السلاح، سواء باستخدام البنادق والمتفجرات أو حتى السكاكين. في سعي نحو الاستمرار في استخدام توليفة التخوين وإقصاء الآخر وشرعنة قتله، وبالأخص الأقليات التي يسهل تخوينها وتكفيرها وتحويلها إلى أعداء مستهدفين، وفي الوقت نفسه يتسبب ذلك في بلبلة وإثارة غضب الأقليات. ففي منطقة الشرق الأوسط يأتي استهداف الأقباط في مصر والشيعة في السعودية، وفي العراق الجيش العراقي والشيعة والأكراد.
فيما دعا التنظيم أخيراً مناصريه إلى استهداف اليهود في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وذلك عبر عنصر المباغتة سواء بالطعن أو إطلاق النار العشوائي عليهم. الأمر الذي يتفاقم ويصبح شيطنة الأغلبية في الدول الغربية كأعداء للمسلمين ينبغي استهدافهم بالأخص في الآونة الأخيرة مع تصاعد صوت اليمين وتزايد عدد المهاجرين غير الشرعيين المطالبين بحقوقهم.

تكرار الرسائل الإعلامية
تظل الرسائل الإعلامية أو الدعائية للتنظيمات الإرهابية ذاتها لا تختلف كثيراً عن التنظيمات السابقة، سواء عبر استخدام المنشورات والكتيبات الإلكترونية، أو البث المرئي الذي يظهر أشخاصاً عاديين اعتنقوا الفكر الداعشي وآمنوا به، وقرروا نبذ حياتهم العادية مع ذكرٍ لمبررات ذلك قبل الإتيان بعملية انتحارية. مع ابتعاد للظهور المرئي وتقليل التصريحات لقادة «داعش» كأبوبكر البغدادي. إذ يظهر كأن التنظيم أكثر شعبوية في محاولة لاستقطاب لعدد أكبر من الأشخاص، عن «القاعدة» الذي كان أشبه بتنظيم نخبوي يعظم من شأنه قادته وخطاباتهم كأسامة بن لادن وأيمن الظواهري. وإن تفوق «داعش» عن غيره بالطبع في قدرته على التغلغل إلى الآخرين ومحاولة فهم نفسياتهم وما ينتقصهم في حيواتهم، ومحاولة التعامل معهم بطرق مختلفة حسب أوضاع المكان وطباع الشخوص.
في بث مرئي داعشي جديد ظهر في شهر مارس تحت عنوان «وأنتم الأعلون»، ظهر هذا الامتداد لمحاولة استقطاب الآخرين من خلال تسليط الضوء على نماذج لمتطرفين يفترض أن يمتازوا بالهدوء ونبذ العنف كطبيب طاعن في السن وآخر طفل خطا للتو مرحلة المراهقة. فطبيب الأسنان أبو سالم المصلاوي يأتي بمظهر هادئ وهو يرتدي المعطف الأبيض ويقرر فجأة نبذ عمله ويتساءل: «فما فائدة معالجة المرضى؟»، ومع تعليق بارتفاع قدر الإنسان بمقدار إيمانه لا بمقدار عمله وشهاداته الجامعية. الأمر الذي يعلل فيما بعد سبب التحاقه بعملية انتحارية بسيارة مفخخة استهدفت الجيش العراقي كأنه الخيار الوحيد لمقاومة الوضع الراهن.
ويقابله من جهة أخرى مقطع للطفل أبو فاروق العراقي، الذي يصف بغضب رغبته بتفجير والده لتهديده له في حال استمراره البقاء مع التنظيم، ومن ثم يقوم بعملية انتحارية في الموصل. نماذج تدل على اختفاء براءة طفل وإيمان طبيب من المفترض أن يبحث عن معالجة الحالات الإنسانية ليستحيل الكره والقتل هدفاً أسمى وأهم. وهو أسلوب ليس بجديد في إشارته إلى تجارب «استشهادية» سابقة ومحاولة تخليد ذكرهم وتشجيع الآخرين على القيام بمثل هذه العمليات التي تظهر كأنها رحلة مشوقة. وقد برع تنظيم داعش في تخفيفه من التصوير المروع لجثث ووجوه الانتحاريين بعد مقتلهم، الأمر الذي كان «القاعدة» يقوم به في السابق، وقد يتسبب في تخويف من يخطط للالتحاق بمثل هذه العملية.

النقلة الاستراتيجية عبر الدعاية
وينجح البث المرئي في الآونة الأخيرة في تصوير ما يحدث كأنه أشبه بتفاخر أشخاص أقوياء واثقين في قدراتهم، كما يردد المتحدث في التسجيل الداعشي الأخير: «إنه عصر الملاحم جاء يزهو بالقتال»، وقد جاء هذا العصر «وأذاق فيه جنود الخلافة أحزاب الكفر أصناف العذاب والبلاء»، وهو وصف مبالغ فيه كسجيل يتهاوى عليهم من كبد السماء. فيما يظهر إسقاط للرؤية الداعشية المختلفة في الآونة الأخيرة ومحاولة لتأكيد أن استهدافهم في العراق وسوريا بهجمات عنيفة أوشكت على القضاء على أماكن وجودهم هناك. فكما يذكر المتحدث في البث المعنون «وأنتم الأعلون»: «وما علموا أن الأرض التي ابتلعت الآلاف من نخبهم وآلياتهم وأموالهم لم تكن يوماً ولن تكون هدفاً لقتالنا». وفي ذلك تتضح محاولات التنظيم التظاهر بالتماسك وعدم الضعف. «أما نحن فما قاتلنا يوماً من أجل الأرض وإنما نقاتل لإعادة الخلافة وإقامة شرع الله. نقاتل لنحكم الأرض كلها بما أنزل الله. لا نفاوض إلا بالمدافع ولا نحاور إلا بالبنادق. لا نساوم ولا نستجدي فلن نتكلم إلا بالقوة». وتعكس مثل هذه الرسالة تحوير الرسالة المحورية للتنظيم وتحويل أهدافه الآيديولوجية من إقامة خلافة إسلامية تمتد عبر المناطق التي تحتلها في سوريا والعراق، إلى الالتزام فقط بالقتال من أجل إعادة الخلافة وإقامة شرائع الدين القويم، وذلك من أجل أن يتماشى ذلك مع ما ينفذه التنظيم من استهداف عشوائي لمناطق مختلفة في العالم، فإن ذلك حتماً لن يحقق المبتغى السابق في إرساء معالم الخلافة الإسلامية. فالأمر أصبح مجرد محاولة مستميتة للبقاء يذكرها المتحدث الداعشي في البث ذاته: «فنكون أو لا نكون».
إلا أن تلك الطموحات لا يظهر أنها ستصمد، فحتى الفيديو ذاته لم يتكثف وجوده على الساحة الإلكترونية، الأمر الذي يدل على بدء تقهقر قوة التنظيم وانصرافه عن محاولة الاستقطاب أو تهويل الآخرين بالصراع على البقاء. تلك المحاولة هي مجرد مبالغة وتضخيم مدى تماسكهم ومحاولة الادعاء باستمرار قدرتهم على إثارة البغض وإقصاء الآخر.
الأمر الذي قد يتلاشى تماماً إن تمكنت قوات التحالف فعلاً من قتل أبو بكر البغدادي، إذ لا يظهر وجود شخص آخر يماثله في مقدار قدرته على تأليب الآخرين وإثارة نقمتهم ورغبتهم في تنفيذ أوامر «أميرهم». كما صرح وزير الخارجية الأميركي باعتباره أن مقتله «مسألة وقت». التصريح الذي جاء بعد أن دعا أبو بكر البغدادي أتباعه فيما سماه «خطبة الوداع»، وذلك في 28 فبراير (شباط)، بالفرار من الموت المؤكد في العراق والتخفي في المناطق الجبلية، ومن ثم مغادرة العراق، أو إن عجزوا عن القيام بذلك تفجير أنفسهم، وذلك بعد تضييق الخناق عليهم من قبل القوات العراقية.
وبشكل عام، فإن صمد تنظيم داعش لمدة أطول وهو أمر يشكك في إمكانية حدوثه، فإنه حتماً سيكثف من محاولات نسج رسائل دعائية تستهدف أعواناً ومناصرين له في خارج المناطق التي كان يسيطر عليها في السابق، وسيمعن في التواصل ومحاولة جذب المهمشين والمضطربين فكرياً أو دينياً الباحثين عن وسط متطرف يقوم باحتضانهم، كالمتطرف البريطاني الأخير أدريان أو خالد، وإن ظهر ضعف وعدم اهتمام بنشر الرسائل الإعلامية في الآونة الأخيرة، والانشغال بمحاولة إنقاذ ما تبقى من هيكل التنظيم الذي فر حتى قادته من الأرض التي كانت هدفاً أساسياً نسجت استراتيجيات التنظيم من أجل تحقيقه.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟