ثلاثة كتب أثرت على حياتي

غلاف «مهزلة العقل البشري» لعلي الوردي
غلاف «مهزلة العقل البشري» لعلي الوردي
TT

ثلاثة كتب أثرت على حياتي

غلاف «مهزلة العقل البشري» لعلي الوردي
غلاف «مهزلة العقل البشري» لعلي الوردي

قد يصعب على المرء تنقيبه في ماضي قراءاته ليعرف أي كتاب ترك عليه أثراً أكثر من سواه. أحياًنا يبدو نموّ عقل القارئ مشابهاً بشكل ما لنموّ جسده، حيث لا وجود لتلك النقاط التي تفصل بوضوح بين مرحلة وأخرى. قرّرت خوض هذه التجربة على كل حال، محاولاً استخراج ما قد يستحقّ الكتابة عنه في هذه المساحة. لم أجد ما أنا مدين له كما يلوح لي في هذه اللحظة، أكثر من ثلاثة كتب اعترضت رحلتي مبكراً.
أتذكر تماماً مشاعري المختلطة بين الدهشة والصدمة عندما قرأت كتاب «مهزلة العقل البشريّ» للمفكر العراقي علي الوردي، ورأيت قدرته العجيبة على طرح الأسئلة وإخضاع المسلّمات للتفكير من جديد. كانت لغته البسيطة وعباراته التي تطرق الموضوعات من زوايا النظر المختلفة شيئاً جديداً بالنسبة لي. لأوّل مرة أتعثّر بكاتب يقول لي أنا لا أترافع لصالحك وكذلك لا أترافع ضدّك، إنما أحاورك فقط، أمّا وصولك لما تتبناه فهذا شيء يخصّك وحدك!
تحت تأثير نشوة كتابه بدأت بالسعي إلى كتبه الأخرى وقراءتها ولا أتذكر منها ما خذلني في مساعدتي على فحص قناعاتي واختبار ما يصمد منها معرفياً أمام الجدل الواقعيّ.
هناك كتاب آخر لا أنسى ما طبعه على ذاكرتي من أثر أيضاً، وأعني كتاب «محنة ثقافة مزوّرة» للمفكّر الليبي الصادق النيهوم، حيث كان كتابه ذاك بوّابة الولوج لعالمه الشيّق. رغم سلاسة الأسلوب التي اتّسمت بها كتاباته وقرّبت إنتاجه للقراء الشباب حينها، فإن طريقة تفكيره المركّبة كانت قادرة على الكشف عن مباهجها على نحوٍ فائق. اختزالية النظر هي أول ما يتهاوى أمام أطروحات النيهوم. إذا كان بإمكاننا أن نتصوّر مقدار التغيير الذي يحدثه خفق فراشة على حركة العالم، فإنّ النيهوم من أكثر العقول قدرة على تعقّب خفق أجنحة فراشات التاريخ. فكما كانت رسالة الوردي إلى أن اكتسب الجرأة على مراجعة القناعات دون توقّف، كانت رسالة النيهوم تقتضي أن أتنبّه إلى أي مقدارٍ من الممكن أن تتشابك العوامل الصانعة لكلّ حدث، وإلى أي مدى قد يبدو من السخيف تجاهل هذا التشابك.
كتاب «مفهوم الحريّة» للمفكر المغربي عبد الله العروي كان كذلك محطّة مهمة في رحلتي مع الكتب. فقدْ كان المصافحة الأولى التي أخذتني إلى مستوى جديد من العمق. عرفت في العروي ميزة لم أجدها عند غيره حين ذاك، وهي قدرته على التفكير خارج أسوار اللغة إلى أبعد حدٍ ممكن. أتذكر متعتي وأنا أرى المفاهيم تتجرّد من أقنعتها الاصطلاحية لتختال أمامي بأقل قدرٍ من التباسات اللغة. بعد اكتشافي لخطورة قيود الألفة، وأوهام الاختزال، لا أعرف أي صدفة قُدّرت لي عند تجربتي دهشة العقل باطلاعه على ما تحدثه اللغة في أفكاره من تلاعب. لعلّ هذا أهمّ ما استوعبته من كتابات العروي وأقوى ما يجعلني أشعر تجاهه بالامتنان.
ربّما لا تكون هذه الكتب هي الأهم بالنسبة إلى غيري. لكنها كتب ساهمت في إبقاء جذوة شغفي للقراءة حتى الآن، وساعدت في صنع الأدوات التي أنظر من خلالها إلى العالم اليوم. ما زلت أحتفظ تجاهها بحميمية دافئة، وغبطة أجدها في نفسي كلّما تحدثتُ عنها، ومن ذلك ما أشعر به في هذه اللحظة.
* باحث سعودي



كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».