ألمانيا في مرحلة إعادة صياغة علاقاتها التجارية

تفتح الباب أمام آسيا مع أفول آمالها في أميركا وبريطانيا

ميركل تدعو الى الاحتفاظ بالصداقة مع أميركا وبريطانيا وحتى مع روسيا
ميركل تدعو الى الاحتفاظ بالصداقة مع أميركا وبريطانيا وحتى مع روسيا
TT

ألمانيا في مرحلة إعادة صياغة علاقاتها التجارية

ميركل تدعو الى الاحتفاظ بالصداقة مع أميركا وبريطانيا وحتى مع روسيا
ميركل تدعو الى الاحتفاظ بالصداقة مع أميركا وبريطانيا وحتى مع روسيا

تبدو ألمانيا، وهي القوة الاقتصادية الأبرز في الاتحاد الأوروبي بعد انفصال بريطانيا، والشريك القوي لفرنسا في قيادة وزعامة منطقة اليورو، كما لو أنها في مرحلة إعادة صياغة لعلاقاتها الاقتصادية والتجارية خلال المرحلة القادمة. وذلك بعد صدمة انفصال بريطانيا العام الماضي، واتهامات أميركية بممارسة إجراءات تجارية غير عادلة، إضافة إلى ما تشهده خريطة القوى الاقتصادية العالمية من إعادة تشكيل، مع اتجاه العملاق الصيني إلى تفعيل مبادرة طريق الحرير، كخطوة من شأنها أن تمنح الاقتصاد الآسيوي القوي مزيدا من السيطرة على حركة التجارة حول العالم.
وظهرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بمظهر الزعيم القوي، في وجه الاتهامات الأميركية، وكذلك نهج الحمائية الذي يتبناه الرئيس دونالد ترمب، وذلك خلال ظهورهما معا في قمة مجموعة السبع الصناعية الكبرى في صقلية مع نهاية الأسبوع الماضي.
ولم تنتظر ميركل كثيرا حتى تضرب ضربتها الثانية، عندما صُدمت كثير من حلفائها، سواء في واشنطن أو لندن، بقولها إن أوروبا يتعين أن تمسك بمصيرها بين يديها، فيما يشير ضمنا إلى أن الولايات المتحدة في ظل رئاسة ترمب، وبريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يعد بالإمكان اعتبارهما شريكين يعتمد عليهما.
وكان ترمب والإدارة الأميركية قد انتقدوا خلال الأشهر الماضية ألمانيا، واتهموها بإضعاف اليورو عن عمد من أجل خلق منافسة غير عادلة للسلع الألمانية مقابل نظيرتها الأميركية، مستندين إلى ميل الميزان التجاري بشدة تجاه ألمانيا. كما اتهموا الشركات الألمانية العملاقة بأنها تغزو الأسواق وتغرقها، وهي الانتقادات التي دعت عددا من المسؤولين الألمان إلى القول: «حين تتمكن أميركا من صنع سيارات مثل (مرسيدس) و(بي إم دبليو) و(بورشه)، حينها فقط يمكن أن تلوم المنافسة».
* أمل إحياء اتفاقية التجارة
ومع تصاعد حدة الخطاب بين الطرفين، يبدو أن ألمانيا لم تغلق باب الأمل تماما في وجه إعادة فتح مفاوضات التجارة الحرة عبر الأطلسي بين أوروبا وأميركا. إذ ترى وزيرة الاقتصاد الألمانية بريجيته تسيبريس أنه لا يزال من الممكن إتمام اتفاقية تحرير التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رغم معارضة ترمب.
وقالت تسيبريس أمس الاثنين، في تصريحات لإذاعة ألمانيا، إنها تلقت إشارات إيجابية خلال زيارتها للولايات المتحدة الأسبوع الماضي، مضيفة أن وزير الاقتصاد الأميركي ويلبور روس دعا خلال محادثاته معها إلى «علاقات تجارية عادلة» مع أوروبا، وقالت: «استشعرنا من ذلك انفتاحا كبيرا تجاهنا نحن الألمان».
وذكرت تسيبريس أنه لم يتضح بعد متى ستجرى مجددا مفاوضات حول الاتفاقية، وقالت: «من الواضح للغاية أن الولايات المتحدة لديها الآن أولوية لإعادة التفاوض حول اتفاقية نافتا»، وذلك في إشارة إلى اتفاقية تحرير التجارة لأميركا الشمالية بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
وينظر ترمب لاتفاقية تحرير التجارة مع الاتحاد الأوروبي بريبة؛ لأنه يرى أن بلاده ستتضرر منها اقتصاديا، كما أن هذه الاتفاقية مثار جدل في الاتحاد الأوروبي أيضا. وكان أول إجراء اتخذه ترمب عقب توليه مهام منصبه هو إلغاء اتفاق الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادي.
لكن الإدارة الأميركية وترمب عبرا أكثر من مرة أنهم لا يعارضون اتفاقات ثنائية مع دول أخرى؛ لأنها ستتضمن شروطا أكثر وضوحا وعدالة للطرفين.
ومن ناحية أخرى، ذكرت تسيبريس أن موضوع فائض الميزان التجاري لألمانيا مع الولايات المتحدة لم يكن مثار جدل خلال زيارتها لواشنطن. ويذكر أن ترمب انتقد أكثر من مرة علانية فائض الميزان التجاري الألماني. وترى تسيبريس أنه من الممكن أن يفرض ترمب في هذا الإطار رسوما على الواردات القادمة للولايات المتحدة.
* تنافس آسيوي
وبينما تبدو الأمور غاية في الغموض والتعقيد بين برلين وواشنطن، فإن أبرز قوتين اقتصاديتين في آسيا، وهما الصين والهند، تبدوان في اهتمام بارز بتنمية العلاقات مع العملاق الألماني في الوقت الحالي، خاصة في ظل التنافس القائم بينهما بالفعل. وقال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قبيل زيارة تستمر يومين لألمانيا بدأت أمس، إن الهند تحرص على جذب مزيد من الشركات الألمانية للاستثمار، كما تحرص على تحسين العلاقات الثنائية.
ويزور رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ ألمانيا هذا الأسبوع كذلك، وأثار وصول زعيمي قوتين صاعدتين في آسيا في أعقاب كلمة ميركل عن أوروبا وأميركا، الحديث عن محور شرقي يضم ألمانيا التي كانت تميل بوضوح من قبل للتعاون عبر الأطلسي.
وقال مودي في مقابلة مع صحيفة «هاندلسبلات»: «الحكومتان (الألمانية والهندية) ملتزمتان تماما بتقوية العلاقات الاقتصادية». وأضاف: «أنا متفائل جدا بشأن شراكتنا المستقبلية».
وكانت تصريحات ميركل التي أدلت بها أمام حلفاء حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي الذي تتزعمه في الائتلاف الحاكم في ميونيخ صادمة للغاية، نظرا إلى أن ميركل معجبة بالولايات المتحدة منذ سنوات مراهقتها في ألمانيا الشرقية الشيوعية، وكانت دائما معروفة بإيمانها بالتعاون بين أوروبا والولايات المتحدة.
* خيبة أمل المستشارة
وقالت ميركل وسط تصفيق الحضور، فيما تظهر بوضوح خيبة أملها بسبب فشلها في الحصول على تأييد ترمب لاتفاق باريس المناخي خلال اجتماع قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى: «الوقت الذي كان بإمكاننا فيه الاعتماد بالكامل على آخرين انقضى فيما يبدو». وأضافت: «شهدت ذلك في الأيام القليلة الماضية. علينا نحن الأوروبيين أن نأخذ مصيرنا في أيدينا. بالطبع (مع الاحتفاظ) بصداقتنا مع الولايات المتحدة الأميركية وصداقتنا مع بريطانيا العظمى، وكجيران طيبين كلما أمكن ذلك مع دول أخرى، حتى مع روسيا».
وعلقت «هاندلسبلات»، وهي صحيفة صفوة مجتمع الأعمال في ألمانيا، قائلة، إن ميركل ترى في الصين والهند إمكانية شراكة في العمل على إبطاء التغير المناخي وتشجيع التجارة الحرة. وكتبت الصحيفة في صفحتها الأولى تقول: «بعد قمة مجموعة السبع المخيبة للآمال، تحول المستشارة الألمانية آمالها فيما يتعلق بالتجارة الحرة وحماية المناخ إلى الهند والصين».
لكن كلمات ميركل المختارة بعناية التي أشارت فيها إلى أن وقت الاعتماد على الغير انقضى «فيما يبدو» تشير إلى أن آراء المستشارة الموالية للولايات المتحدة يمكن أن تتغير.
وكتبت صحيفة «بيلد» المحافظة: «هناك شيء واضح، في المستقبل، ستظل الولايات المتحدة أهم شريك لنا في السياسات الاقتصادية والخارجية وسياسات الأمن».
وقال شتيفن زايبرت المتحدث باسم ميركل، أمس، إن ميركل مؤمنة تماما بقوة العلاقات الألمانية الأميركية، وإن تسليط الضوء على الخلافات في العلاقات مع واشنطن إنما ينبع من صراحتها في التعامل مع الولايات المتحدة.
ومضى يقول: «لأن العلاقات عبر الأطلسي مهمة للغاية بالنسبة إلى هذه المستشارة، فمن الصائب من وجهة نظرها التحدث بصراحة عن الخلافات».
وفي فيينا سئل إيوالد نووتني، عضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، عما إذا كانت العلاقات الصعبة بين أوروبا والولايات المتحدة تتسبب في أي مخاطر على الاقتصاد العالمي، قائلا: «لا، يتعين علي القول إن هذه ميزة للبنوك المركزية بالمقارنة بالحكومات». ووصف نووتني تعاون البنك المركزي الأوروبي مع الاحتياطي الاتحادي الأميركي بأنه «جيد جدا ومكثف جدا». وقال: «لحسن الحظ فإن البنوك المركزية مستقلة ولا تعتمد على مناقشات سياسية قصيرة الأجل».



قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
TT

قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

رئيس أميركي جديد... حرب تجارية مهددة... استمرار تعثر اقتصاد الصين... اضطرابات سياسية في مراكز القوة بأوروبا... توترات جيوسياسية في الشرق الأوسط... يبدو أن عام 2025 سيكون عاماً آخر استثنائياً. فكيف سيشكل كل ذلك الاقتصاد العالمي في عام 2025؟

في عام 2024، اتجه الاقتصاد العالمي نحو التحسن في ظل تباطؤ معدلات التضخم، رغم استمرار المخاطر.

لكن العام المقبل يقف عند منعطف محوري. فمن المرجح أن يرفع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب الرسوم الجمركية، واضعاً حواجز حمائية حول أكبر اقتصاد في العالم، بينما سيستمر قادة الصين في التعامل مع عواقب العيوب الهيكلية داخل نموذج النمو في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم. أما منطقة اليورو، فستظل محاصرة في فترة من النمو المنخفض للغاية.

ترمب ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يتحدثان قبل اجتماع حلف شمال الأطلسي (أ.ب)

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يُتوقع أن يظل الاقتصاد العالمي ككل مرناً نسبياً في 2025. ويفترض صندوق النقد الدولي بتقرير نشره في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي قبل حسم نتائج الانتخابات الأميركية، أن يظل النمو ثابتاً عند 3.2 في المائة بالعام المقبل، وهو نفسه الذي توقعه لعام 2024. بينما التوقعات بتباطؤ النمو في الولايات المتحدة إلى 2.2 في المائة في عام 2025، من 2.8 في المائة في عام 2024، مع تباطؤ سوق العمل. في حين توقعت جامعة ميشيغان في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأميركا إلى 1.9 في المائة في عام 2025.

وفي منطقة اليورو، من المتوقع أن يبلغ النمو 1.2 في المائة في عام 2025، وهو أضعف قليلاً من توقعات الصندوق السابقة. ويشار هنا إلى أن الأحداث السياسية في كل من فرنسا وألمانيا سيكون لها وقعها على نمو منطقة اليورو ككل. فالسياسات الاقتصادية الفرنسية والألمانية تعوقها حالة كبيرة من عدم اليقين السياسي بعد استقالة رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه ضحية الموازنة، وانهيار الائتلاف الحكومي في ألمانيا للسبب نفسه.

أما الصين، فيتوقع الصندوق أن ينمو ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 4.6 في المائة في عام 2025 مع مخاوف تحديات استمرار ضعف سوق العقارات، وانخفاض ثقة المستهلكين والمستثمرين، وذلك في وقت تكافح فيه بكين للتوفيق بين إعادة توجيه استراتيجيتها للنمو والضغوط قصيرة الأجل لإجراءات التحفيز غير المكتملة. لكن وكالة «فيتش» أقدمت منذ أيام على خفض توقعاتها السابقة بالنسبة لنمو الاقتصاد الصيني من 4.5 في المائة إلى 4.3 في المائة.

موظف يعمل بشركة تصنيع قطع غيار سيارات في تشينغتشو (أ.ف.ب)

السياسة النقدية في 2024

لقد كان من الطبيعي أن يمثل تباطؤ التضخم المسجل في عام 2024، أرضية لبدء مسار خفض أسعار الفائدة من قبل المصارف المركزية الكبرى. وهو ما حصل فعلاً. فالاحتياطي الفيدرالي خفّض أسعار الفائدة الفيدرالية مرتين وبمقدار 75 نقطة أساس حتى نوفمبر 2024 - و25 نقطة أساس أخرى متوقعة باجتماع في 17 و18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي - لتصل إلى 4.50 - 4.75 في المائة، رغم نمو الاقتصاد بواقع 3 في المائة.

رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يتحدث إلى رئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد ويتوسطهما محافظ بنك اليابان كاز أودا في مؤتمر «جاكسون هول» (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فأجرى خفضاً للفائدة 4 مرات في 2024 وبواقع 25 نقطة أساس كل مرة إلى 3.00 في المائة بالنسبة لسعر الفائدة على الودائع.

بنك إنجلترا من جهته، خفّض أسعار الفائدة مرتين بمقدار 25 نقطة أساس (حتى اجتماعه في نوفمبر).

باول ومحافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي ورئيس بنك كندا المركزي تيف ماكليم (رويترز)

وبالنسبة لبنك الشعب (المصرف المركزي الصيني)، فلقد كان التيسير مع مجموعة أدواته الموسعة حافلاً هذا العام، حيث تم الإعلان عن إصلاح إطار عمل جديد للسياسة النقدية في شهر يونيو (حزيران)، وتخفيضات بمقدار 30 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي لمدة 7 أيام، وتخفيضات بمقدار 100 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي، وبرامج جديدة لدعم أسواق الأسهم والعقارات.

إلا أن المفاجأة كانت في تغيير زعماء الصين موقفهم بشأن السياسة النقدية إلى «ميسرة بشكل معتدل» من «حكيمة» للمرة الأولى منذ 14 عاماً، ما يعني أن القيادة الصينية تأخذ المشاكل الاقتصادية على محمل الجد. وكانت الصين تبنت موقفاً «متراخياً بشكل معتدل» آخر مرة في أواخر عام 2008، بعد الأزمة المالية العالمية وأنهته في أواخر عام 2010.

ولكن ماذا عن عام 2025؟

سوف تستمر المصارف المركزية في خفض أسعار الفائدة على مدى العام المقبل، ولكن في أغلب الاقتصادات الكبرى سوف تمضي هذه العملية بحذر.

بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، يبدو أن التوقف عن الخفض في اجتماع يناير (كانون الثاني) أمر محتمل، حيث إنه سيكون لديه بحلول اجتماع مارس (آذار)، فهم أكثر وضوحاً لخطط الرئيس دونالد ترمب بشأن التعريفات والضرائب والإنفاق والهجرة وغيرها. ومن المؤكد أن احتمالات خفض الضرائب المحلية لدعم النمو التي ستدفع بالطبع التضخم إلى الارتفاع، ستؤيد مساراً أبطأ وأكثر تدريجية لخفض أسعار الفائدة العام المقبل. وهناك توقعات بحصول خفض بمقدار 25 نقطة أساس لكل ربع في عام 2025.

متداول في سوق نيويورك للأوراق المالية يستمع إلى مؤتمر باول الصحافي (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فيبدو أنه مصمم الآن على المضي قدماً في إعادة أسعار الفائدة إلى المستوى المحايد بأسرع ما يمكن مع ضعف النمو الشديد وتباطؤ ظروف سوق العمل، وسط توقعات بأن يخفض سعر الفائدة الرئيسي إلى نحو 1.5 في المائة بحلول نهاية عام 2025. ومن بين العواقب المترتبة على ذلك أن اليورو من المرجح أن يضعف أكثر، وأن يصل إلى التعادل مقابل الدولار الأميركي العام المقبل.

وعلى النقيض من المصرف المركزي الأوروبي، يتخذ بنك إنجلترا تخفيضات أسعار الفائدة بشكل تدريجي للغاية. ومن المتوقع أن تعمل الموازنة الأخيرة وكل الإنفاق الحكومي الإضافي الذي جاء معها، على تعزيز النمو في عام 2025. وهناك توقعات بأن يقفل العام المقبل عند سعر فائدة بواقع 3.75 في المائة، قبل أن ينخفض ​​إلى أدنى مستوى دوري عند 3.50 في المائة في أوائل عام 2026.

أما بنك الشعب، فسوف يبني العام المقبل على الأسس التي وضعها هذا العام، حيث تشير التوقعات إلى تخفيضات تتراوح بين 20 و30 نقطة أساس في أسعار الفائدة، مع مزيد من التخفيضات إذا جاءت الرسوم الجمركية الأميركية في وقت مبكر أو أعلى مما هو متوقع حالياً، وفق مذكرة للمصرف الأوروبي «آي إن جي». ومن المتوقع على نطاق واسع خفض آخر لمعدل الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في الأشهر المقبلة، حتى إنه يمكن حصول تخفيضات تراكمية بمقدار 100 نقطة أساس في معدل الفائدة قبل نهاية عام 2025.

حرب تجارية على الأبواب؟

وبين هذا وذاك، هناك ترقب كبير للتعريفات الجمركية التي تعهد ترمب بفرضها، والتي يرجح على نطاق واسع أن تلعب مرة أخرى دوراً رئيساً في أجندته السياسية، وهو ما ستكون له انعكاساته بالتأكيد على الاقتصاد العالمي.

سفن حاويات راسية في ميناء أوكلاند (أ.ف.ب)

فترمب هدّد في البداية مثلاً بفرض رسوم جمركية بنسبة 60 في المائة على جميع الواردات الصينية، ورسوم جمركية تتراوح بين 10 في المائة و20 في المائة على الواردات من جميع البلدان الأخرى. ثم توعّد المكسيك وكندا بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25 في المائة على جميع الواردات منهما، إذا لم تحلّا مشكلة المخدرات والمهاجرين على الحدود مع الولايات المتحدة، و10 في المائة رسوماً جمركية على الواردات من الصين (تضاف إلى الرسوم الحالية) بمجرد تنصيبه في 20 يناير. ولاحقاً، توعد مجموعة «بريكس» بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 100 في المائة، إذا أقدمت على إنشاء عملة جديدة من شأنها إضعاف الدولار.

ويبدو أن ترمب جاد هذه المرة في فرض التعريفات الجمركية التي يصفها بأنها أجمل كلمة في القاموس، بدليل ترشيحه الرئيس التنفيذي لشركة «كانتور فيتزجيرالد» في وول ستريت، هوارد لوتنيك، لتولي منصب وزير التجارة، والذي قال عنه إنه «سيتولى ملف التجارة والتعريفات».

وينص قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية على قدرة الرئيس على إصدار إجراءات اقتصادية طارئة للتعامل مع «أي تهديد غير عادي واستثنائي، يكون مصدره بالكامل أو جزئياً خارج الولايات المتحدة، للأمن القومي أو السياسة الخارجية أو اقتصاد الولايات المتحدة». وهو ما يطلق يد ترمب في إقرار رسوم جمركية جديدة.

من هنا، قد تشكل الحرب التجارية أكبر خطر يهدد النمو العالمي في عام 2025. ورسم المحللون أوجه تشابه مع ثلاثينات القرن العشرين، عندما أدى فرض التعريفات الجمركية الأميركية إلى رد فعل انتقامي من قبل حكومات أخرى، وأدى إلى انهيار التجارة العالمية الذي أدى بدوره إلى تعميق الكساد الأعظم.

وفي أواخر أكتوبر، تناول صندوق النقد الدولي في تقرير له، التأثيرات المترتبة على النمو والتضخم في حرب تجارية محتملة عام 2025. فوضع التقرير سيناريو حرب تجارية مع افتراض فرض تعريفات جمركية أميركية بنسبة 10 في المائة على جميع الواردات، تقابلها إجراءات انتقامية واسعة النطاق من جانب أوروبا والصين تعادل 10 في المائة تعريفات جمركية على الصادرات الأميركية، وعلى جميع التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي، على أن يتم تنفيذها بحلول منتصف عام 2025.

في هذا السيناريو، يتوقع صندوق النقد الدولي أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة -0.1 في المائة في عام 2025، مما يخفض توقعاته الأساسية من 3.2 في المائة إلى 3.1 في المائة.

مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) من جهته يحذر من آفاق غير مؤكدة تواجه التجارة العالمية عام 2025، بسبب تهديد الحروب التجارية. ويعدّ أن «آفاق التجارة في عام 2025 مشوبة بتحولات محتملة في السياسة الأميركية، بما في ذلك التعريفات الجمركية الأوسع نطاقاً التي قد تعطل سلاسل القيمة العالمية وتؤثر على الشركاء التجاريين الرئيسين».

وفي استطلاع أجرته «رويترز» مؤخراً مع 50 اقتصادياً، قدّر هؤلاء أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي في الصين ​​بمقدار من 0.5 إلى 1.0 نقطة مئوية في عام 2025، حال تم فرض التعريفات الجمركية.

الدين العالمي إلى مستويات قياسية

ولا تقتصر التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي على ما سبق تعداده، فالعالم يواجه اليوم تحدياً غير مسبوق مع تصاعد الديون العالمية إلى 323 تريليون دولار، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي، وهو رقم يصعب تخيله أو استيعابه، والمتوقع ارتفاعه أكثر في 2025 إذا نفذ ترمب تعهداته.

لافتة إلكترونية في محطة انتظار الحافلات حول حجم الدين الوطني الحالي للولايات المتحدة (رويترز)

فالتقلبات المتوقعة لسياسات ترمب دفعت بعض الدول إلى إصدار ديون قبل توليه منصبه، عندما قد تصبح الأسواق أقل قابلية للتنبؤ.

وحذر معهد التمويل الدولي من أن التوترات التجارية المزدادة وانقطاعات سلسلة التوريد تهدد النمو الاقتصادي العالمي، مما يزيد من احتمالات حدوث دورات ازدهار وكساد صغيرة في أسواق الديون السيادية مع عودة الضغوط التضخمية وتشديد المالية العامة. وسوف تفاقم زيادة تكلفة الفائدة نتيجة لذلك الضغوط المالية وتجعل إدارة الديون صعبة بشكل مزداد.

وأخيراً لا شك أن التحولات الجيوسياسية تلعب دوراً مهماً في تشكيل الاقتصاد العالمي عام 2025. وهي تفترض مراقبة خاصة ودقيقة ومعمقة لتداعيات التنافس بين الولايات المتحدة والصين، التي قد تزداد وتيرتها حدة لتكون عواقبها الاقتصادية محسوسة على مدى سنوات، وليس أشهراً، بحيث يتردد صداها طوال العام المقبل وما بعده.