الأديان السماوية... دور فاعل في نشر السلام ومواجهة التطرف

في ضوء زيارة الرئيس ترمب للمنطقة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام حائط المبكى في القدس الشرقية خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام حائط المبكى في القدس الشرقية خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط (أ.ب)
TT

الأديان السماوية... دور فاعل في نشر السلام ومواجهة التطرف

الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام حائط المبكى في القدس الشرقية خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام حائط المبكى في القدس الشرقية خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط (أ.ب)

شهد القرن العشرون حربين عالميتين ذهبتا بملايين البشر، ومع أوائل القرن الحادي والعشرين بدا كأن البشرية في مواجهة حرب عالمية أخرى وقودها التطرف والتعصب، وزادها مزيج من الأصوليات، وأدواتها سيئة إلى أقصى حد وحد، وتتنوع أشكال موتها بين الحريق والغريق، ومنها ما هو مادي وفيها ما هو معنوي، ووسط هذه المأساة الإنسانية، ضاع ويضيع السلام، وفقدت البشرية أمنها وأمانها، من مشارق الشمس إلى مغاربها.

لعل السؤال الواجب البحث عن جواب له: «هل السلام العالمي أمر ممكن بالفعل في مجتمعات بشرية عهدت الصراعات الإنسانية منذ بداياتها؟».
يبقى الجواب دون تطويل ممل أو اختصار مخل يدور حول الأديان وكيفية بسطها لقيم السلام حول الكرة الأرضية، وهل هي أدوات تدفع البشر في طريق التلاقي والألفة أم آليات لتعميق التطرف والبغضة؟
لا يمكن لمتابع جيد للأحداث أن يغفل تغيير الماء الراكد على صعيد العالم كافة، والشرق الأوسط خاصة خلال الأيام القليلة الماضية، التي شهدت فيها الرياض 3 قمم من أجل محاربة الإرهاب والأصولية، وقد كانت الأديان في القلب منها.
الزيارة الناجحة وغير المسبوقة للرئيس الأميركي دونالد ترمب للشرق الأوسط، جاءت في واقع الحال خطوة مغايرة لأدوات محاربة العنف والأصولية التقليدية، أي استخدام القوة العسكرية أولاً وآخراً في مجابهة الأفكار، ولهذا كانت فكرة استيلاد ما في باطن الأديان، لا سيما الإبراهيمية الثلاث؛ المسيحية والإسلام واليهودية، من سلام وتعايش للوقوف في وجه دعاة الكراهية وحاملي رايات الصدام.
قبل أن يبدأ الرئيس الأميركي رحلته إلى الشرق الأوسط، تحدث مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال هربرت ريموند ماكماستر بالقول: «هذه الرحلة تاريخية، فلم يسبق لأي رئيس زيارة الأماكن المقدسة للديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية في رحلة واحدة، وما يسعى إليه الرئيس ترمب هو توحيد الناس من كل الأديان حول رؤية مشتركة للسلام والتقدم والرخاء».
في كلمته أمام رؤساء وزعماء دول العالم الإسلامي، أشار الرئيس ترمب إلى أنه: «بعون الله ستشكل هذه القمة بداية النهاية لأولئك الذين يمارسون الإرهاب وينشرون عقيدته الخبيثة».
وفي الوقت نفسه، ذكّر الجميع بأن هذا اليوم هو بداية سلام في الشرق الأوسط، تكون فيه الأديان الرافعة الحقيقية التي تنتشل العالم من وهدة الأصولية والتطرف.
من قلب المملكة العربية السعودية التي وصفها ترمب في حديثه بأنها موطن أقدس المواقع لإحدى أكبر الديانات في العالم، أشار إلى أنه في كل مرة يقتل فيها إرهابي شخصاً بريئاً ويستخدم اسم الله على نحو كاذب، ينبغي أن يمثل ذلك إهانة لكل شخص مؤمن، فالإرهابيون لا يعبدون الله، بل إنهم يعبدون الموت. كان الرئيس ترمب موفقاً جداً في خطابه، بل متحدثاً بليغاً عن روح الأديان، وكيف أنها بعيدة كل البعد عن التناحر والتشاجر، عن الصراع والحروب، تلك المفاهيم المكذوبة التي يروجها «تجار الأديان»، أو «موظفو الله»... قال ترمب: «هذه ليست معركة بين مختلف الديانات أو الطوائف المختلفة أو الحضارات المتعددة المتباينة».
هذه معركة بين المجرمين الهمجيين الذين يسعون إلى طمس حياة الإنسان، والناس الكرماء من جميع الأديان الذين يسعون إلى حمايته، هذه معركة بين الخير والشر. جاء ترمب إلى الشرق الأوسط وهو يدرك أن الأديان السماوية ولدت مشرقية، وعاشت ونشأت، ثم انتشرت حول العالم من الشرق، ولهذا، فإن هذا الشرق الخلاق مصدر للحياة لا للموت، للتعايش لا للتصادم، وفي هذا وحده مدخل جيد لمجابهة أفكار الأصولية والمغالاة.
أكد ترمب أنه لقرون كثيرة كان الشرق الأوسط موطناً للمسيحيين والمسلمين واليهود الذين يعيشون معاً، مضيفاً: «يجب أن نمارس التسامح والاحترام المتبادل مرة أخرى، وأن نجعل هذه المنطقة مكاناً يمكن فيه لكل رجل وامرأة بصرف النظر عن إيمانهم أو عرقهم، أن يتمتعوا بحياة كريمة يملأها الأمل».
خلاصة أقوال ترمب، أنه إذا أمكن لهذه الديانات الثلاث أن تتعاون معاً، فإن السلام في هذا العالم سيكون ممكناً، ونحن بدورنا نتساءل أين يقع السلام في قلب الأديان التوحيدية الثلاث؟... هل له مكان؟... وإذا كان ذلك كذلك فأي طريق يتوجب على أتباع تلك الأديان أن يسلكوا من أجل الوصول في نهاية الأمر للغاية الكبرى أي السلام العالمي، الذي يتوجب أن يبسط مظلته على العالم برمته؟
الجواب عن السؤال المتقدم يحتاج لأعمال بحثية مطولة في واقع الأمر تتصل بالبحث في علاقة السلام بكل دين من الأديان الإبراهيمية، غير أنه في رؤية ملخصة وغير مخلة يمكننا أن نشير لما يلي:
بداية إذا طرحنا سؤالاً لاهوتياً عميقاً يتصل باليهودية: «ما إرادة يهوه إله إسرائيل النهائية تجاه الخليقة؟... هل هي السلام أم الخصام؟«.
الجواب نجده عند أحد كبار أنبياء بني إسرائيل «أشعياء» المعروف بالنبي الباكي، ففي سفره في التوراة، الإصحاح السابع عشر نقرأ ما نصه: «فيطبعون سيوفهم محاريث، ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتدربون على الحرب فيما بعد».
هذه العبارة محفورة في حاضرات أيامنا على الحائط المعروف بـ«حائط أشعياء»، في جزيرة مانهاتن بمدينة نيويورك الأميركية عند الجادة الأولى وتقاطعها مع شارع 43، وذلك في مواجهة مبنى الأمم المتحدة، للتذكير بأن الهدف الرئيسي للمؤسسة الأممية والفكرة التي نشأت من أجلها كانت الحفاظ على السلام العالمي، ودلالة الكلمات لا تحتاج إلى شرح، فالسيوف الموجهة إلى الصدور تضحى محاريث للأرض تبحث عن الزرع والماء وشبع الإنسان، والرماح تتحول إلى مناجل تحصد خير ما زرع الإنسان، ولا تعود بذلك الأمم تتطاحن ولا يبقى مجال للحرب، بل يسعى الذئب والحمل معاً دون تفكير أحدهما في الفتك بالآخر.
هذا هو المنوط بالهيئة الأممية في الفكر التوراتي الباحث عن السلام قبل عدة آلاف من السنين، وقد شخصت اليهودية عبر كتب العهد القديم حال البشرية اليوم، تلك الشاكية الباكية من العنف والأصولية، فوصفت المشهد بالقول: «أرجلهم تسعى إلى الشر، وتسارع إلى سفك الدم البريء، أفكارهم أفكار الإثم، وفي مسالكهم دمار وتحطيم، لم يعرفوا طريق السلام، ولا حق في سبلهم، قد جعلوا دروبهم معوجة، كل من سلكها لا يعرف السلام».
هل حادت المسيحية لاحقاً عن طريق البحث عن السلام؟
ليلة مولده المعجز رتلت الملائكة: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة».
كانت حياة ورسالة السيد المسيح سلاماً متصلاً، ومقيماً، وعندما أرسل تلاميذه وحوارييه في مهمة التبشير الأولى، قال لهم: «أي بيت دخلتموه فقولوا أولاً السلام لأهل هذا البيت، فإن كان هناك ابن سلام فسلامكم يحل عليه، وإلا فيرتد إليكم»، في إشارة لا تخطئها العين إلى أن هناك من البشر من يرفضون السلام جوهراً لحياتهم، وأسلوباً لمعيشتهم مع غيرهم من الناس. أما عن تحية السيد المسيح الرسمية التي كان يستخدمها على الدوام فلم تخرج أبداً عن سياق «السلام لكم».
كان السائد في زمن السيد المسيح شريعة موسى؛ عين بعين، وسن بسن، لكن شريعة عيسى ابن مريم رأت أن «من طلب ثوبك فأعطه رداءك أيضاً، ومن سخرك ميلاً فامشِ معه ميلين».
كان السلام الذي يسعى إليه هو تلك الحرية العذبة التي تضع كل شيء في وقته بنظام وترتيب وحكمة، وتتجه إلى موضوعها وتهتم به بمحبة قلبية، ولهذا قال: «طوبى لصانعي السلام، فإنهم أبناء الله يدعون».
هل كان الإسلام ليفارق أو يغاير في مفهومه عن السلام؟
يبقى السلام في الإسلام بداية اسماً من أسماء الله الحسنى، «هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم»، وقد وصف البارئ عز وجل ذاته في القرآن الكريم بأنه «السلام»، الحشر (23)، والمصطلح العربي للسلام مشتق من الأصل ذاته الذي اشتق منه لفظ الإسلام، فهناك تطابق بين الإسلام والسلام.
على أن علامة الاستفهام: هل يقدر الإنسان على خوض معركة السلام دون سند أو عون إلهي؟
يوضح الإسلام أنه لا يمكن للمرء أن يفعل ذلك من دون هداية الله سبحانه وتعالى الذي يريد الخير لكل الناس، وهذه الهداية تبدأ بالدعوة إلى السلام، أو إلى دار السلام، وهي دعوة صادرة من الله إلى الإنسان «والله يدعو إلى دار السلام»، يونس (25).
والثابت كذلك أن الشريعة الإسلامية حافلة بالإشارات التي يمكن للمرء أن يرتكز عليها في تبيان عضوية العلاقة بين السلام والإسلام، وكيف أن تلك الشريعة تريد أن تجعل من السلام حاضراً وقاسماً أعظم في فكر وسلوك أمة المسلمين، فعلى سبيل المثال يتفكر المسلم في ليلة القدر، أهم ليلة من ليالي السنة؛ إذ إن الله زينها وجعلها سلاماً حتى مطلع الفجر «سلام هي حتى مطلع الفجر» سورة القدر (5).
هل وضع الإسلام دستوراً بدوره لنشر السلم العالمي منذ بداية التنزيل؟
الحادث أن ذلك كذلك، وهو الدستور الذي يكفل حتى اليوم للعالم المتنازع أن يجد حالة من السلم والتعايش الآمن، وهذا ما ورد في سورة الممتحنة: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» الممتحنة (8).
تعني الآية الكريمة السابقة أن الإسلام وضع للمسلمين مبدأ عاماً للتعايش السلمي بينهم وبين غيرهم من الشعوب يتلخص في ضرورة التعايش مع الآخرين أياً كانوا، ومعاملتهم بالعدل والإنصاف والتسامح ما دام أن هؤلاء لم يصدر عنهم أي عدوان على المسلمين، ولم يتعاونوا مع أعداء المسلمين ضد المسلمين.
يتضح مما سبق أن هناك قاسماً أعظم مشتركاً كبيراً عند أتباع الأديان التوحيدية الثلاث، قاسماً يمكنه أن يقف صداً وسداً في مواجهة الأفكار المغلوطة والشعارات الزائفة، وهو أمر تنبه إليه كبار المفكرين في العالمين العربي والغربي على حد سواء.
خذ إليك على سبيل المثال ما يقوله الشيخ الإمام محمد الغزالي الداعية والمفكر الإسلامي الشهير، عن طريق رسمه للتعايش بين الأديان والمذاهب، عبر وضعه 3 مبادئ: -
أولاً: نتفق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة الله وجلاله.
ثانياً: نتفق على أن الله يختار رسله من أهل الصدق والأمانة والكياسة.
ثالثاً: ما وجدناه متوافقاً في تراثنا، نرد إليه ما اختلف عليه، وبذلك يمكن وضع قاعدة مشتركة بين أتباع الأديان.
على الجانب الغربي، نجد البروفسور هانز كونغ اللاهوتي الكاثوليكي السويسري الكبير، صاحب الصيحة الشهيرة في عالمنا المعاصر: «لا سلام بين الأمم من دون سلام بين الأديان»، والواردة في كتابه المعنون «الإسلام رمز الأمل... القيم الأخلاقية المشتركة للأديان».
سطور الكتاب المشار إليه تؤكد أن الأديان رسائل للسلام لا أدوات للخصام، وأنه في زمن يمتلك فيه الإنسان من الوسائل التقنية الحديثة، ينبغي أن تتواصل الديانات لا سيما النبوية الثلاث، من أجل تجنب الحروب ونشر السلام.
لكن لكي يحدث هذا لا غنى عنده عن إعادة القراءة والتفسير لكل رواية من الروايات التي تشكل تقاليدها الدينية، ولتحقيق تفسير ديني يحمل في طياته روح السلام.
يشير كونغ إلى ضرورة اتباع النهج الثنائي التالي؛ وهو تفسير الأقوال والأحداث النضالية في كل رواية من الروايات في التقاليد الدينية في السياق التاريخي للزمن الخاص بها ودون التغاضي عن شيء من تلك التفاصيل التي تقدم لنا المفهوم والأبعاد الإنسانية في تلك الأزمنة الغابرة وعدم قياسها بمعطيات عصرنا الحاضر، ومن جهة ثانية، ينبغي اتخاذ الكلمات والأفعال التي تشجع على السلام في التقاليد التي يتبعها المرء على محمل الجد كإلهام للعصر الحديث. جاءت زيارة الرئيس ترمب وقمم المملكة الثلاث لتحثنا على التفكير ملياً في الدور العميق الذي يمكن للأديان أن تلعبه في طريقها لمجابهة القتلى الذين يسقطون، والأحياء الذين يتصارعون، والجميع يقف مكتوف الأيدي أمام دعوات نفي الآخر وإبعاده، بل وإقصائه من المشهد الأدبي عبر التذرع بامتلاك الحقيقة المطلقة من جهة، أو الخلاص منه نفساً وجسماً باعتباره عدو الله.
هل من خلاصة؟
الأديان لديها قوة كافية مؤثرة من أجل المستقبل على أساس الثراء الروحاني والأخلاقي، والأديان التوحيدية الثلاث يمكن أن تسهم بشكل أكبر من خلال التفاهم والتعاون، وجميعها لديها الفرصة سانحة في تقديم إسهام لا يمكن الاستغناء عنه لعالم أكثر سلاماً وعدلاً، ولهذا وبالفعل، لا يمكن أن يكون هناك سلام مستقبلي في وجه الأصوليات الظلامية دون سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان دونما حوار جدي بين أتباعها.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».