الإعلام الإسرائيلي... قوة التأثير وأنماط الاستقطاب

بدأ قبل الصهيونية والدولة وظل محل اهتمام محلي وعربي... إعلام ديمقراطي داخلياً وموجه ومجند خارجياً

صحافيان فلسطينيان يتصفحان  صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
صحافيان فلسطينيان يتصفحان صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
TT

الإعلام الإسرائيلي... قوة التأثير وأنماط الاستقطاب

صحافيان فلسطينيان يتصفحان  صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
صحافيان فلسطينيان يتصفحان صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)

إذا كان ثيودور هرتزل هو المؤسس الحقيقي للصهيونية الحديثة، وهو صحافي نمساوي يهودي، فهذا يفسر التأثير غير المفهوم بالنسبة للكثيرين، للإعلام الإسرائيلي اليوم، وهو إعلام لا يبدو أنه يؤثر في بيئته فقط ولكن يعد مصدرا ملهما للمعلومات، بالنسبة لكثير من الفلسطينيين وحتى العرب الذين يتلقفون ما يكتب ويقول، بكثير من المبالغة أحيانا.
وهرتزل هو منظم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897. ورأس المنظمة الصهيونية العالمية التي انبثقت عنه، وأطلق فكرته «الخلاقة» بالنسبة لليهود، فيما يخص إقامة دولة لهم في أي مكان في العالم، في فلسطين مثلا، ومن ثم تفرغ تماما للكتابة حول هذا الأمر، وهو الوقت الذي أصدر فيه كتابه «دولة اليهود... محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية».
لقد كان الصحافي اليهودي هو الذي بدأ بفكرة دولة يهودية في فلسطين ومن ثم راح يروج لها عبر وسائل الإعلام، ويجلب موافقات دولية من أجل هجرة اليهود الموعودة إلى هنا. كانت ثقته كبيرة بأهمية ودور الإعلام منذ الألف وحتى الياء.
ويلخص ما كتبه هرتزل في افتتاحية العدد الأول من أسبوعية الحركة الصهيونية «دي وولت»، في الثالث من يونيو (حزيران) عام 1897 بأنه يجب على هذه الصحيفة أن تكون وتتحول إلى درع حامية للشعب اليهودي، وتكون سلاحاً ضد أعدائه» الطريقة التي كان يفكر فيها هرتزل وما زالت طريقة تفكير كل الصحافيين الإسرائيليين تقريباً.

الإعلام قبل الدولة

انتبه مؤسسو إسرائيل لدور الإعلام منذ هرتزل لكنهم تعاملوا معه قبل تأسيس إسرائيل كإحدى أهم أدوات بناء الدولة. وليس سرا أنه قبل عام 1948 أنشأت الحركة الصهيونية إذاعة موجهة للشعب اليهودي وأخذت تطبع 14 صحيفة بينها 4 ناطقة بالعربية، ومن بين هذه الصحف اثنتان على الأقل تعد اليوم مرجعاً للأخبار التي تخص إسرائيل في العالم، وهما صحيفتا هآرتس ويديعوت أحرونوت.
وقد صدرت صحيفة هآرتس عام 1919، فيما صدرت صحيفة يديعوت أحرونوت عام 1939، وصحيفة معاريف عام 1948، ومع ذلك لا يمكن حصر الصحف التي صدرت وتوقف منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن.
ومثل هرتزل ظل ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل مؤمناً بشدة بأن للإعلام دوراً ووظيفة، فأعلن بعد توليه منصبه تأسيس «هيئة رؤساء تحرير الصحف»، وهي الهيئة التي تشير كثير من الدراسات إلى أنها كانت تتبع بشكل أو بآخر جهاز الموساد الإسرائيلي، الذي تحكم بشكل كبير في المعلومات التي يجب أن تنشر أولا.
هذه الرقابة العسكرية وإن تراجعت بشكل كبير أمام التقدم الكبير لوسائل الإعلام في إسرائيل ما زالت قائمة بعد 60 عاما، ومقصها يراقب كل معلومة أمنية حساسة. أما في الحروب فإن هذه الرقابة هي التي توجه وتحشد. وعلى الرغم من أن الإعلام الإسرائيلي كما هو معروف للكثيرين إعلام حربي أو إعلام جيش، لكنه أيضا محط اهتمام ومؤثر.

الإعلام الإسرائيلي مستفيد
من تراجع الإعلام العربي

ربما يكون تأثير الإعلام الإسرائيلي قديما إلى حد ما لكنه في العقدين الأخيرين أصبح مثل «كي الوعي». ليس سرا أن كثيرا من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية تفرد مساحات واسعة لما تتضمنه وسائل الإعلام العبرية، التي تبدو مصدقة أكثر من غيرها، إذا ما تعلق الأمر بشأن إسرائيلي أو حتى فلسطيني.
ومن باب الإنصاف القول إن الصحف الإسرائيلية تنجح في كثير من الأحيان في كشف ما يدور في كواليس السياسة في رام الله، فيما لا ينجح الفلسطينيون في ذلك. ومع كل صباح يذهب كثير من الفلسطينيين إلى الصحف الإسرائيلية ليعرفوا ما يدور عندهم.
ويرى المختص في الشؤون العبرية أكرم عطا الله، أن الإعلام الإسرائيلي أصبح له كل هذا الحضور والمساحة في الصحف الفلسطينية، والعربية كذلك بسبب تراجع الإعلام المحلي والعربي.
وقال عطا الله لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإعلام الإسرائيلي لا يعد قويا بالنسبة للإعلام الغربي، ولكنه أمام تراجع مستوى الإعلام العربي يعتبر مصدرا قويا خصوصا أنه نتاج مجتمع مختلف ومتقدم ما جعل له مساحات واسعة في وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية المتراجعة مقارنة مع الإعلام العبري».
ويعتقد عطا الله أن الديمقراطية التي يمارسها الإعلام الإسرائيلي داخليا وعمله على كشف أوجه فساد كثيرة، ومواجهته في كثير من الوقت للسياسيين، جعله محط إعجاب لدى كثيرين. لكنه يضيف أن «هذا ليس عمله على صعيد السياسات الخارجية فهو مجند ضد الفلسطينيين والعرب ويعمل ضمن سياسات واضحة».
ويتابع عطا الله أنه «للوهلة الأولى يعتقد كثيرون أن الإعلام في إسرائيل هو إعلام حرب وليس إعلام دولة ضمن سياسات محددة. صحيح أن الصحف الإسرائيلية لديها قدر من المساحة يمكن أن تتحرك فيها خارج السياسة العامة للدولة الإسرائيلية، وصحيح أن الإعلام الإسرائيلي يوجه كثيرا انتقادات دائمة لجهات حكومية رسمية، لأن إسرائيل تسمح بالمنافسة بين وسائل الإعلام المختلفة فيها ما جعلها مصدرا للخبر بالنسبة لكثير وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، لكن يجب أن ندرك أن الإعلام الإسرائيلي جزء من الدولة الأم اليهودية».
ويمكن ملاحظة ما يقوله عطا الله أثناء الحروب أكثر. وعادة ما يتجند الإعلام الإسرائيلي أثناء الحروب لدعم جيشه في الوقت الذي لا يرحم فيه صناع السياسة إذا كان هناك أي إخفاق. ويحاول الإعلام الإسرائيلي تحويل كل معركة إلى رابحة، من خلال التأثير المباشر في المتلقيين، إذ يطلق روايته ومصطلحاته ببراعة كبيرة لطالما رددها المتلقون.

المصطلحات الموجهة والاستقطاب

ويستخدم الإعلام الإسرائيلي، مصطلحات محددة، مثل رئيس السلطة الفلسطينية، بدل الرئيس الفلسطيني، وجيش الدفاع بدل الجيش الإسرائيلي، ومناطق الحكم الذاتي بل الضفة الغربية ويهودا والسامرة مقابل الضفة وأورشليم القدس على القدس، وحائط المبكى بدل حائط البراق، وجبل الهيكل في إشارة إلى الأقصى، وإضافة إلى قنابل موقوتة ومطاردين ومخربين في وصف المقاتلين ومواطنين في وصف المستوطنين، كما يستخدمون تعبيرات جدار أمني في تبرير جدار الضم والتوسع، وأحياء وبلدات لتبرير المستوطنات، والإدارة المدنية، بدلا من سلطات الاحتلال، والإحباط بدلا من القتل، والإغلاق بدلا من منع حرية الحركة، وهذا كله من ضمن مئات المصطلحات المختارة بعناية.
ويتضح الاهتمام الكبير بالتأثير على المتلقي الفلسطيني والعربي من عدد القنوات العربية التي تديرها إسرائيل على الرغم من معرفتها بقيام العشرات من الصحافيين والمترجمين بمتابعة كل ما يصدر في الصحف وما يقوله التلفزيون وترجمته للعربية.
ويوجد في إسرائيل إذاعة باللغة العربية، والفضائية الإسرائيلية الرسمية التي تخصص ساعات بالعربية، وقناة فضائية ثانية أنشئت قبل أعوام وهي «آي 24»، إلى جانب موقع المصدر المتخصص في طرح قضايا إسرائيلية لا يتناولها الإعلام الآخر، وموقع «عرب تايمز أوف إسرائيل» الذي يبث تقارير معمقة كما أنها متحيزة للرواية الإسرائيلية بشكل كبير.
ناهيك عن هذا كله، راح المتحدثون الرسميون والعسكريون كذلك في استقطاب عدد أكبر من المتابعين من خلال إتقان اللغة العربية واستغلال ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وعمليا لا يوجد ناطق فلسطيني مثلا أو عربي يستطيع مجاراة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الذي ينشط على مدار الساعة في تقديم معلومات وفيديوهات ووجهات نظر بالعربية، ومثله الناطق باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ورئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية بولي مردخاي المعروف باسم «المنسق». إنهم لا يكتفون بالإعلام التقليدي.

«المنسق» نموذجاً للإعلام المجتمعي

مثل حاكم فعلي للشعب الفلسطيني افتتح مسؤول الإدارة المدنية الإسرائيلية، أو ما يعرف في إسرائيل بمنسق أعمال الحكومة، الميجر جنرال يؤاف مردخاي قبل نحو عام صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مباشرة مع الشعب الفلسطيني ملقياً عليهم محاضرات أمنية، وباثا بيانات مختلفة، ومناديا إياهم بزيارة مباشرة لمكاتب الإدارة المدنية من أجل الحصول على تصاريح جديدة، وإلغاء المنع الأمني، والتنقل بين الضفة وغزة وإلى إسرائيل، في تجاوز واضح ومباشر لدور السلطة الفلسطينية.
ومراجعة قصيرة لصفحة «المنسق» تظهر إلى أي حد تتدخل الإدارة المدنية في حياة الفلسطينيين الذين يفترض أن السلطة تحكمهم.
وفي إحدى التغريدات يكتب مردخاي الذي يصفه البعض بأنه الحاكم الفعلي للفلسطينيين حول الاستعدادات لرمضان، واعتماد إجراءات استثنائية من أجل المسلمين وزيارتهم للأقصى وأقربائهم في إسرائيل، كما يعلن اتفاقات متعلقة بتطوير خدمات البريد الفلسطيني وتنظيم قطاع الكهرباء، والمياه ناهيك عن إغلاق وفتح طرق رئيسية وفرعية في الضفة الغربية، وفتح معابر وإغلاق أخرى وإدخال تسهيلات على حركة البضائع والأفراد وإعطاء تصاريح وسحب أخرى وتحديد شروط التنقل إلى إسرائيل أو غزة ومن غزة كذلك، إضافة إلى شروط تجديد البطاقات الممغنطة لتسهيل آلية العبور باعتماد البصمة.
ويعتقد كثير من المراقبين أن إسرائيل تجهز لمرحلة ما بعد السلطة الفلسطينية، عبر اختبار التعامل مباشرة مع الفلسطينيين، ودعا كتاب إسرائيليون إلى ذلك، وحذر منه فلسطينيون وعزز من ذلك اعتراف المسؤولين الفلسطينيين وبينهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن إسرائيل تحول السلطة إلى سلطة بلا سلطة وأن هذا الوضع لا يمكن له أن يستمر.
ولا يستغرب القيادي واصل أبو يوسف، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، هذا التدخل الإسرائيلي في كل التفاصيل اليومية للفلسطينيين واصفا الاحتلال بلاعب رئيسي، لكنه يرى أن ذلك سيفشل. ويتابع قائلا: «لقد جربوا ذلك أيام روابط القرى وحاولوا مرارا خلق عناوين على غرار أنطوان لحد، لكن 50 عاما من محاولة تطويع الشعب الفلسطيني فشلت وستفشل هذه المرة حتى وإن حاولوا إغراء الناس بالجزرة وتهديدهم بالعصا» في إشارة إلى خطة وزير الجيش الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان الذي عرض الشهر الماضي خطته المثيرة للجدل «العصا والجزرة» التي تقوم على التعامل المباشر على الفلسطينيين متجاوزاً السلطة الفلسطينية. ومحاولات التأثير هذه على الفلسطينيين لا تتوقف عند ذلك. بل أنشأ الجيش الإسرائيلي العام الماضي، وحدة تابعة لقسم «الإعلام الجديد» في الجيش، تعمل على كتابة ونشر مضامين باللغة العربية تستهدف الفلسطينيين.
وقال مردخاي نفسه إن ملايين الشواقل استثمرت في هذه الوحدة.
ويؤكد المتابع للشأن الإسرائيلي مصطفى إبراهيم، أن النافذة الإعلامية المختلفة التي تقدمها إسرائيل جعلت منها مصدرا للأخبار.
ويرى إبراهيم في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن الاهتمام بما يقدمه الإعلام الإسرائيلي يشير إلى مدى تراجع الإعلام الفلسطيني والعربي في تقديم محتوى جيد للقارئ يشمل معلومات جديدة وذات مصداقية حول كثير من القضايا.
وبالإضافة إلى قدرتهم على الاختراق في الشأن الفلسطيني لأسباب لا يسع المكان لسردها، وتقديمهم رواية مختلفة عبر نوافذ جذابة، لكن أيضا يبدو الأمر وكأنه متعلق بقوة وسطوة «الاحتلال».



التضليل المعلوماتي يجدد الدعوات لتدريس الأطفال «التربية الإعلامية»

Social media icons logo displayed on a smartphone . Shutterstock
Social media icons logo displayed on a smartphone . Shutterstock
TT

التضليل المعلوماتي يجدد الدعوات لتدريس الأطفال «التربية الإعلامية»

Social media icons logo displayed on a smartphone . Shutterstock
Social media icons logo displayed on a smartphone . Shutterstock

مع ازدياد التحذيرات الدولية والمحلية من مخاطر ما بات يُعرف بـ«التضليل المعلوماتي»، أو انتشار المعلومات والأخبار الزائفة؛ لا سيما مع هيمنة منصات التواصل الاجتماعي، ازدادت الدعوات والمطالبات الدولية بتدريس «التربية الإعلامية» في المدارس، بهدف «حماية الأطفال من مخاطر الإنترنت، ومنحهم الأدوات اللازمة للتفريق بين الحقيقي والزائف».

صحيفة «الغارديان» البريطانية تساءلت في تقرير نشرته أخيراً، عما إذا كان من الضروري تدريس التربية الإعلامية في المدارس، لتكون مادة أساسية، على غرار الرياضيات مثلاً. وقالت إن «تأثير ضعف الوعي الإعلامي على المجتمع لا يقتصر على الإضرار بالعملية الانتخابية؛ بل يمتد إلى تأجيج الصراعات والانقسامات داخل الدول، ويهدد بانتشار نظريات المؤامرة، وتآكل الثقة في العلم والخبرة والمؤسسات». ثم تابعت بأنه «على النقيض من ذلك، يُعد الإنسان الواعي إعلامياً عنصراً أساسياً في المواطنة النشطة والمستنيرة».

«الغارديان» نقلت عن تانيا نوتلي، الأستاذة المساعدة في مجال الوسائط الرقمية بجامعة ويسترن، في مدينة سيدني الأسترالية، قولها إن «الأبحاث التي أجروها تشير إلى أن معظم الأطفال في أستراليا لا يحصلون على تعليم منتظم للثقافة الإعلامية، من شأنه أن يساعدهم على التحقق من المعلومات المضللة»، مطالبة بـ«مزيد من الجهود في هذا الصدد».

وكشفت نوتلي التي أجرت منذ عام 2017، ثلاثة استطلاعات وطنية حول عادات وسائل الإعلام بين الشباب الأستراليين، عن «تقدير الأطفال والشباب للأخبار». وأفادت بأن الدراسة التي أجرتها عام 2023، كشفت عن أن «41 في المائة فقط من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و16 سنة، واثقون بقدرتهم على التمييز بين الأخبار الكاذبة والقصص الإخبارية الحقيقية».

أيضاً أوضحت «الغارديان» أن «البيئة الإعلامية التي يكبر فيها الأطفال والشباب اليوم، باتت أكثر تعقيداً من البيئة التي دخلها آباؤهم في السن نفسه، مع مصادر إخبارية مستقطبة، ونشطاء على منصات التواصل الاجتماعي، ومخاطر الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق». ومن ثم ذكرت أن هذا الأمر دفع خبراء وأكاديميين في دول عدة للمطالبة بتدريس التربية أو الثقافة الإعلامية للأطفال.

تجارب أخرى

من جهة ثانية، استعرضت الصحيفة البريطانية تجربة فنلندا التي تدمج محو الأمية الإعلامية في التعليم، من رياض الأطفال، وتأسيس البرازيل مكتباً لمحو الأمية الإعلامية، ووضعها استراتيجية للتعليم الإعلامي.

وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال يوشنا إكو، الباحث الإعلامي الأميركي، ورئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، إن «التربية الإعلامية أو نشر الثقافة الإعلامية، وما يعرف أيضاً بمحو الأمية الإعلامية، هو تعبير يشمل بناء القدرات التقنية والمعرفية والاجتماعية والمدنية والإبداعية، التي تسمح للمواطن بالوصول إلى وسائل الإعلام، والحصول على فهم نقدي لما تنشره، والتفاعل معه».

وأضاف إكو: «إن هذه القدرات تسمح للشخص بالمشاركة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، فضلاً عن لعب دور نشط في العملية الديمقراطية». وأكد أنه يجب فهم وسائل الإعلام على نطاق واسع؛ بما في ذلك التلفزيون والراديو والصحف، ومن خلال جميع أنواع القنوات؛ سواء التقليدية أو عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.

ووفق الباحث الأميركي، ينبغي تعليم الأطفال الثقافة الإعلامية مثلما يتعلمون النظافة الشخصية والفنون وغيرها من المواضيع؛ إذ هناك أهمية لتعليم الأطفال الإعلام في سن مبكّرة، كي يتسنى لهم استيعابه في الوقت المناسب». وذكر أن «نمط استهلاك الأخبار لدى الشباب مختلف، فهُم أكثر دراية بالتكنولوجيا، ولديهم المهارة اللازمة لاستخراج المعلومات، والتحقق من دقتها».

إكو شدد أيضاً على أن «فهم كيفية استهلاك الجيل القادم للأخبار يعطي رؤى حاسمة حول كيفية معالجة احتياجات مستهلكي الأخبار في المستقبل... وأن لدى الشباب علاقة معقدة ومتطورة مع الأخبار، فهم يفهمون القيمة التي يمكن أن تلعبها الأخبار في حياتهم؛ لكنهم غالباً ما يكونون غير مهتمين أو محبَطين من كيفية تقديمها لهم».

وخلص الباحث إلى القول بأن «نشر الثقافة الإعلامية يمكن أن يسهم في إزالة الغموض عن نظرية الصحافة وممارستها، كما يمكن أن يعزز الطلب على معاملة الصحافة، بوصفها منفعة عامة؛ تماماً مثل المستشفيات وخدمات الإطفاء والمؤسسات العامة الأخرى».

ما يستحق الإشارة هنا، أنه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حذرت منظمة «اليونيسكو» من مخاطر «التضليل المعلوماتي»، وأُعلنت نتائج استطلاع أجراه معهد «إبسوس»، بتكليف من المنظمة الأممية، شارك فيه 8 آلاف شخص في 16 بلداً ستشهد انتخابات في عام 2024. وكشف الاستطلاع عن «مخاوف 85 في المائة من تأثير التضليل الإعلامي عبر الإنترنت؛ خصوصاً أنّ مواقع التواصل الاجتماعي أضحت مصدر المعلومات الأول لغالبية كبيرة منهم».

الاستطلاع كشف أيضاً أن «87 في المائة من العينة يعتقدون أنّ التضليل الإعلامي أحدث بالفعل تأثيراً كبيراً في الحياة السياسية في بلادهم، وأنّه قد يؤثر في نتائج الانتخابات». وطالب 88 في المائة من السكان الحكومات والهيئات، بالمسارعة في إيجاد حل لهذه المشكلة، من خلال وضع قواعد تنظيمية لمواقع التواصل الاجتماعي؛ حسب الاستطلاع.

الصادق والمضلل

على صعيد موازٍ، في حوار مع «الشرق الأوسط» لفتت الدكتورة نائلة حمدي، العميدة المشاركة للدراسات العليا والبحوث في كلية الشؤون الدولية والسياسات العامة في الجامعة الأميركية بالقاهرة، إلى «أهمية تدريس التربية الإعلامية للأطفال، بدءاً من سن عشر سنوات، لا سيما في ضوء تعرضهم بشكل كبير لسيل من المعلومات على منصات التواصل... فمن المهم أن يكونوا قادرين على تمييز الصادق من المضلل بينها».

وأردفت الدكتورة نائلة حمدي بأن «هناك دولاً في المنطقة العربية بدأت الاهتمام بمحو الأمية الإعلامية في المدارس، من بينها الأردن... وثمة مناهج عدة في هذا الصدد؛ لكن من المهم اتخاذ قرارات حكومية للبدء في محو الأمية الإعلامية، وحماية الأجيال القادمة من التضليل».

وللعلم، نشرت الأمم المتحدة بنهاية شهر يونيو (حزيران) المنقضي، مجموعة مبادئ لمكافحة المعلومات «المضلّلة» التي تُنشر عبر الإنترنت، ولإصلاح النموذج الإعلاني لشبكات التواصل الاجتماعي، تتضمن التأكيد على «أهمية الثقة المجتمعية، وعلى حرية وتعددية وسائل الإعلام المستقلة، إضافة إلى الشفافية، وتمكين الجمهور». وقال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في بيان صحافي، إن «مليارات الأشخاص معرضون لروايات كاذبة وتحريفات وأكاذيب». ولذا، حثت الأمم المتحدة شركات التكنولوجيا الكبرى على «تحاشي نشر معلومات مغلوطة وخطاب الكراهية، واتّخاذ تدابير أشد لضمان دقة المعلومات خلال الحملات الانتخابية».

يُذكَر أن الأمين العام للأمم المتحدة قد سبق له التحذير، قبل سنة، من أن «المعلومات المضلّلة التي تُنشر عبر الإنترنت تشكّل خطراً وجودياً على البشرية».

تدريسها كمادة أساسية

بدوره، يدعم الصحافي والمدرب الأردني خالد القضاة، نائب رئيس شعبة الاتصال بجامعة الدول العربية، لشؤون الحريات الصحافية والسلامة المهنية «تدريس التربية الإعلامية في المدارس، كمادة أساسية، مثل التربية الفنية والرياضية، وليس أجزاء متناثرة في المناهج». وأوضح القضاة لـ«الشرق الأوسط» أن «الأردن دعمت الفكرة؛ لكنها قدمت الأمر عبر مواضيع متناثرة في مواد عدة؛ لكن هذا غير كافٍ لتحصين الطلاب والشباب والأطفال من سوء استخدام الفضاء الرقمي وتبادل المعلومات... إن تدريس التربية الإعلامية أفضل من سن قوانين للجرائم الإلكترونية؛ لا سيما أنها قد تُسفر عن نتائج قوية وفاعلة لمواجهة الشائعات، والكشف عن المعلومات المضللة، ولذا أقترح تدريس منهج متكامل عن التربية الإعلامية، بدءاً من الصف الرابع الابتدائي، وأن تكون جزءاً من المتطلبات الإجبارية في الجامعات لكل التخصصات، لتحصين المجتمع».