الإعلام الإسرائيلي... قوة التأثير وأنماط الاستقطاب

بدأ قبل الصهيونية والدولة وظل محل اهتمام محلي وعربي... إعلام ديمقراطي داخلياً وموجه ومجند خارجياً

صحافيان فلسطينيان يتصفحان  صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
صحافيان فلسطينيان يتصفحان صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
TT

الإعلام الإسرائيلي... قوة التأثير وأنماط الاستقطاب

صحافيان فلسطينيان يتصفحان  صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
صحافيان فلسطينيان يتصفحان صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)

إذا كان ثيودور هرتزل هو المؤسس الحقيقي للصهيونية الحديثة، وهو صحافي نمساوي يهودي، فهذا يفسر التأثير غير المفهوم بالنسبة للكثيرين، للإعلام الإسرائيلي اليوم، وهو إعلام لا يبدو أنه يؤثر في بيئته فقط ولكن يعد مصدرا ملهما للمعلومات، بالنسبة لكثير من الفلسطينيين وحتى العرب الذين يتلقفون ما يكتب ويقول، بكثير من المبالغة أحيانا.
وهرتزل هو منظم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897. ورأس المنظمة الصهيونية العالمية التي انبثقت عنه، وأطلق فكرته «الخلاقة» بالنسبة لليهود، فيما يخص إقامة دولة لهم في أي مكان في العالم، في فلسطين مثلا، ومن ثم تفرغ تماما للكتابة حول هذا الأمر، وهو الوقت الذي أصدر فيه كتابه «دولة اليهود... محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية».
لقد كان الصحافي اليهودي هو الذي بدأ بفكرة دولة يهودية في فلسطين ومن ثم راح يروج لها عبر وسائل الإعلام، ويجلب موافقات دولية من أجل هجرة اليهود الموعودة إلى هنا. كانت ثقته كبيرة بأهمية ودور الإعلام منذ الألف وحتى الياء.
ويلخص ما كتبه هرتزل في افتتاحية العدد الأول من أسبوعية الحركة الصهيونية «دي وولت»، في الثالث من يونيو (حزيران) عام 1897 بأنه يجب على هذه الصحيفة أن تكون وتتحول إلى درع حامية للشعب اليهودي، وتكون سلاحاً ضد أعدائه» الطريقة التي كان يفكر فيها هرتزل وما زالت طريقة تفكير كل الصحافيين الإسرائيليين تقريباً.

الإعلام قبل الدولة

انتبه مؤسسو إسرائيل لدور الإعلام منذ هرتزل لكنهم تعاملوا معه قبل تأسيس إسرائيل كإحدى أهم أدوات بناء الدولة. وليس سرا أنه قبل عام 1948 أنشأت الحركة الصهيونية إذاعة موجهة للشعب اليهودي وأخذت تطبع 14 صحيفة بينها 4 ناطقة بالعربية، ومن بين هذه الصحف اثنتان على الأقل تعد اليوم مرجعاً للأخبار التي تخص إسرائيل في العالم، وهما صحيفتا هآرتس ويديعوت أحرونوت.
وقد صدرت صحيفة هآرتس عام 1919، فيما صدرت صحيفة يديعوت أحرونوت عام 1939، وصحيفة معاريف عام 1948، ومع ذلك لا يمكن حصر الصحف التي صدرت وتوقف منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن.
ومثل هرتزل ظل ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل مؤمناً بشدة بأن للإعلام دوراً ووظيفة، فأعلن بعد توليه منصبه تأسيس «هيئة رؤساء تحرير الصحف»، وهي الهيئة التي تشير كثير من الدراسات إلى أنها كانت تتبع بشكل أو بآخر جهاز الموساد الإسرائيلي، الذي تحكم بشكل كبير في المعلومات التي يجب أن تنشر أولا.
هذه الرقابة العسكرية وإن تراجعت بشكل كبير أمام التقدم الكبير لوسائل الإعلام في إسرائيل ما زالت قائمة بعد 60 عاما، ومقصها يراقب كل معلومة أمنية حساسة. أما في الحروب فإن هذه الرقابة هي التي توجه وتحشد. وعلى الرغم من أن الإعلام الإسرائيلي كما هو معروف للكثيرين إعلام حربي أو إعلام جيش، لكنه أيضا محط اهتمام ومؤثر.

الإعلام الإسرائيلي مستفيد
من تراجع الإعلام العربي

ربما يكون تأثير الإعلام الإسرائيلي قديما إلى حد ما لكنه في العقدين الأخيرين أصبح مثل «كي الوعي». ليس سرا أن كثيرا من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية تفرد مساحات واسعة لما تتضمنه وسائل الإعلام العبرية، التي تبدو مصدقة أكثر من غيرها، إذا ما تعلق الأمر بشأن إسرائيلي أو حتى فلسطيني.
ومن باب الإنصاف القول إن الصحف الإسرائيلية تنجح في كثير من الأحيان في كشف ما يدور في كواليس السياسة في رام الله، فيما لا ينجح الفلسطينيون في ذلك. ومع كل صباح يذهب كثير من الفلسطينيين إلى الصحف الإسرائيلية ليعرفوا ما يدور عندهم.
ويرى المختص في الشؤون العبرية أكرم عطا الله، أن الإعلام الإسرائيلي أصبح له كل هذا الحضور والمساحة في الصحف الفلسطينية، والعربية كذلك بسبب تراجع الإعلام المحلي والعربي.
وقال عطا الله لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإعلام الإسرائيلي لا يعد قويا بالنسبة للإعلام الغربي، ولكنه أمام تراجع مستوى الإعلام العربي يعتبر مصدرا قويا خصوصا أنه نتاج مجتمع مختلف ومتقدم ما جعل له مساحات واسعة في وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية المتراجعة مقارنة مع الإعلام العبري».
ويعتقد عطا الله أن الديمقراطية التي يمارسها الإعلام الإسرائيلي داخليا وعمله على كشف أوجه فساد كثيرة، ومواجهته في كثير من الوقت للسياسيين، جعله محط إعجاب لدى كثيرين. لكنه يضيف أن «هذا ليس عمله على صعيد السياسات الخارجية فهو مجند ضد الفلسطينيين والعرب ويعمل ضمن سياسات واضحة».
ويتابع عطا الله أنه «للوهلة الأولى يعتقد كثيرون أن الإعلام في إسرائيل هو إعلام حرب وليس إعلام دولة ضمن سياسات محددة. صحيح أن الصحف الإسرائيلية لديها قدر من المساحة يمكن أن تتحرك فيها خارج السياسة العامة للدولة الإسرائيلية، وصحيح أن الإعلام الإسرائيلي يوجه كثيرا انتقادات دائمة لجهات حكومية رسمية، لأن إسرائيل تسمح بالمنافسة بين وسائل الإعلام المختلفة فيها ما جعلها مصدرا للخبر بالنسبة لكثير وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، لكن يجب أن ندرك أن الإعلام الإسرائيلي جزء من الدولة الأم اليهودية».
ويمكن ملاحظة ما يقوله عطا الله أثناء الحروب أكثر. وعادة ما يتجند الإعلام الإسرائيلي أثناء الحروب لدعم جيشه في الوقت الذي لا يرحم فيه صناع السياسة إذا كان هناك أي إخفاق. ويحاول الإعلام الإسرائيلي تحويل كل معركة إلى رابحة، من خلال التأثير المباشر في المتلقيين، إذ يطلق روايته ومصطلحاته ببراعة كبيرة لطالما رددها المتلقون.

المصطلحات الموجهة والاستقطاب

ويستخدم الإعلام الإسرائيلي، مصطلحات محددة، مثل رئيس السلطة الفلسطينية، بدل الرئيس الفلسطيني، وجيش الدفاع بدل الجيش الإسرائيلي، ومناطق الحكم الذاتي بل الضفة الغربية ويهودا والسامرة مقابل الضفة وأورشليم القدس على القدس، وحائط المبكى بدل حائط البراق، وجبل الهيكل في إشارة إلى الأقصى، وإضافة إلى قنابل موقوتة ومطاردين ومخربين في وصف المقاتلين ومواطنين في وصف المستوطنين، كما يستخدمون تعبيرات جدار أمني في تبرير جدار الضم والتوسع، وأحياء وبلدات لتبرير المستوطنات، والإدارة المدنية، بدلا من سلطات الاحتلال، والإحباط بدلا من القتل، والإغلاق بدلا من منع حرية الحركة، وهذا كله من ضمن مئات المصطلحات المختارة بعناية.
ويتضح الاهتمام الكبير بالتأثير على المتلقي الفلسطيني والعربي من عدد القنوات العربية التي تديرها إسرائيل على الرغم من معرفتها بقيام العشرات من الصحافيين والمترجمين بمتابعة كل ما يصدر في الصحف وما يقوله التلفزيون وترجمته للعربية.
ويوجد في إسرائيل إذاعة باللغة العربية، والفضائية الإسرائيلية الرسمية التي تخصص ساعات بالعربية، وقناة فضائية ثانية أنشئت قبل أعوام وهي «آي 24»، إلى جانب موقع المصدر المتخصص في طرح قضايا إسرائيلية لا يتناولها الإعلام الآخر، وموقع «عرب تايمز أوف إسرائيل» الذي يبث تقارير معمقة كما أنها متحيزة للرواية الإسرائيلية بشكل كبير.
ناهيك عن هذا كله، راح المتحدثون الرسميون والعسكريون كذلك في استقطاب عدد أكبر من المتابعين من خلال إتقان اللغة العربية واستغلال ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وعمليا لا يوجد ناطق فلسطيني مثلا أو عربي يستطيع مجاراة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الذي ينشط على مدار الساعة في تقديم معلومات وفيديوهات ووجهات نظر بالعربية، ومثله الناطق باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ورئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية بولي مردخاي المعروف باسم «المنسق». إنهم لا يكتفون بالإعلام التقليدي.

«المنسق» نموذجاً للإعلام المجتمعي

مثل حاكم فعلي للشعب الفلسطيني افتتح مسؤول الإدارة المدنية الإسرائيلية، أو ما يعرف في إسرائيل بمنسق أعمال الحكومة، الميجر جنرال يؤاف مردخاي قبل نحو عام صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مباشرة مع الشعب الفلسطيني ملقياً عليهم محاضرات أمنية، وباثا بيانات مختلفة، ومناديا إياهم بزيارة مباشرة لمكاتب الإدارة المدنية من أجل الحصول على تصاريح جديدة، وإلغاء المنع الأمني، والتنقل بين الضفة وغزة وإلى إسرائيل، في تجاوز واضح ومباشر لدور السلطة الفلسطينية.
ومراجعة قصيرة لصفحة «المنسق» تظهر إلى أي حد تتدخل الإدارة المدنية في حياة الفلسطينيين الذين يفترض أن السلطة تحكمهم.
وفي إحدى التغريدات يكتب مردخاي الذي يصفه البعض بأنه الحاكم الفعلي للفلسطينيين حول الاستعدادات لرمضان، واعتماد إجراءات استثنائية من أجل المسلمين وزيارتهم للأقصى وأقربائهم في إسرائيل، كما يعلن اتفاقات متعلقة بتطوير خدمات البريد الفلسطيني وتنظيم قطاع الكهرباء، والمياه ناهيك عن إغلاق وفتح طرق رئيسية وفرعية في الضفة الغربية، وفتح معابر وإغلاق أخرى وإدخال تسهيلات على حركة البضائع والأفراد وإعطاء تصاريح وسحب أخرى وتحديد شروط التنقل إلى إسرائيل أو غزة ومن غزة كذلك، إضافة إلى شروط تجديد البطاقات الممغنطة لتسهيل آلية العبور باعتماد البصمة.
ويعتقد كثير من المراقبين أن إسرائيل تجهز لمرحلة ما بعد السلطة الفلسطينية، عبر اختبار التعامل مباشرة مع الفلسطينيين، ودعا كتاب إسرائيليون إلى ذلك، وحذر منه فلسطينيون وعزز من ذلك اعتراف المسؤولين الفلسطينيين وبينهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن إسرائيل تحول السلطة إلى سلطة بلا سلطة وأن هذا الوضع لا يمكن له أن يستمر.
ولا يستغرب القيادي واصل أبو يوسف، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، هذا التدخل الإسرائيلي في كل التفاصيل اليومية للفلسطينيين واصفا الاحتلال بلاعب رئيسي، لكنه يرى أن ذلك سيفشل. ويتابع قائلا: «لقد جربوا ذلك أيام روابط القرى وحاولوا مرارا خلق عناوين على غرار أنطوان لحد، لكن 50 عاما من محاولة تطويع الشعب الفلسطيني فشلت وستفشل هذه المرة حتى وإن حاولوا إغراء الناس بالجزرة وتهديدهم بالعصا» في إشارة إلى خطة وزير الجيش الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان الذي عرض الشهر الماضي خطته المثيرة للجدل «العصا والجزرة» التي تقوم على التعامل المباشر على الفلسطينيين متجاوزاً السلطة الفلسطينية. ومحاولات التأثير هذه على الفلسطينيين لا تتوقف عند ذلك. بل أنشأ الجيش الإسرائيلي العام الماضي، وحدة تابعة لقسم «الإعلام الجديد» في الجيش، تعمل على كتابة ونشر مضامين باللغة العربية تستهدف الفلسطينيين.
وقال مردخاي نفسه إن ملايين الشواقل استثمرت في هذه الوحدة.
ويؤكد المتابع للشأن الإسرائيلي مصطفى إبراهيم، أن النافذة الإعلامية المختلفة التي تقدمها إسرائيل جعلت منها مصدرا للأخبار.
ويرى إبراهيم في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن الاهتمام بما يقدمه الإعلام الإسرائيلي يشير إلى مدى تراجع الإعلام الفلسطيني والعربي في تقديم محتوى جيد للقارئ يشمل معلومات جديدة وذات مصداقية حول كثير من القضايا.
وبالإضافة إلى قدرتهم على الاختراق في الشأن الفلسطيني لأسباب لا يسع المكان لسردها، وتقديمهم رواية مختلفة عبر نوافذ جذابة، لكن أيضا يبدو الأمر وكأنه متعلق بقوة وسطوة «الاحتلال».



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».