الإعلام الإسرائيلي... قوة التأثير وأنماط الاستقطاب

بدأ قبل الصهيونية والدولة وظل محل اهتمام محلي وعربي... إعلام ديمقراطي داخلياً وموجه ومجند خارجياً

صحافيان فلسطينيان يتصفحان  صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
صحافيان فلسطينيان يتصفحان صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
TT

الإعلام الإسرائيلي... قوة التأثير وأنماط الاستقطاب

صحافيان فلسطينيان يتصفحان  صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)
صحافيان فلسطينيان يتصفحان صحف إسرائيلية («الشرق الأوسط»)

إذا كان ثيودور هرتزل هو المؤسس الحقيقي للصهيونية الحديثة، وهو صحافي نمساوي يهودي، فهذا يفسر التأثير غير المفهوم بالنسبة للكثيرين، للإعلام الإسرائيلي اليوم، وهو إعلام لا يبدو أنه يؤثر في بيئته فقط ولكن يعد مصدرا ملهما للمعلومات، بالنسبة لكثير من الفلسطينيين وحتى العرب الذين يتلقفون ما يكتب ويقول، بكثير من المبالغة أحيانا.
وهرتزل هو منظم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897. ورأس المنظمة الصهيونية العالمية التي انبثقت عنه، وأطلق فكرته «الخلاقة» بالنسبة لليهود، فيما يخص إقامة دولة لهم في أي مكان في العالم، في فلسطين مثلا، ومن ثم تفرغ تماما للكتابة حول هذا الأمر، وهو الوقت الذي أصدر فيه كتابه «دولة اليهود... محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية».
لقد كان الصحافي اليهودي هو الذي بدأ بفكرة دولة يهودية في فلسطين ومن ثم راح يروج لها عبر وسائل الإعلام، ويجلب موافقات دولية من أجل هجرة اليهود الموعودة إلى هنا. كانت ثقته كبيرة بأهمية ودور الإعلام منذ الألف وحتى الياء.
ويلخص ما كتبه هرتزل في افتتاحية العدد الأول من أسبوعية الحركة الصهيونية «دي وولت»، في الثالث من يونيو (حزيران) عام 1897 بأنه يجب على هذه الصحيفة أن تكون وتتحول إلى درع حامية للشعب اليهودي، وتكون سلاحاً ضد أعدائه» الطريقة التي كان يفكر فيها هرتزل وما زالت طريقة تفكير كل الصحافيين الإسرائيليين تقريباً.

الإعلام قبل الدولة

انتبه مؤسسو إسرائيل لدور الإعلام منذ هرتزل لكنهم تعاملوا معه قبل تأسيس إسرائيل كإحدى أهم أدوات بناء الدولة. وليس سرا أنه قبل عام 1948 أنشأت الحركة الصهيونية إذاعة موجهة للشعب اليهودي وأخذت تطبع 14 صحيفة بينها 4 ناطقة بالعربية، ومن بين هذه الصحف اثنتان على الأقل تعد اليوم مرجعاً للأخبار التي تخص إسرائيل في العالم، وهما صحيفتا هآرتس ويديعوت أحرونوت.
وقد صدرت صحيفة هآرتس عام 1919، فيما صدرت صحيفة يديعوت أحرونوت عام 1939، وصحيفة معاريف عام 1948، ومع ذلك لا يمكن حصر الصحف التي صدرت وتوقف منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن.
ومثل هرتزل ظل ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل مؤمناً بشدة بأن للإعلام دوراً ووظيفة، فأعلن بعد توليه منصبه تأسيس «هيئة رؤساء تحرير الصحف»، وهي الهيئة التي تشير كثير من الدراسات إلى أنها كانت تتبع بشكل أو بآخر جهاز الموساد الإسرائيلي، الذي تحكم بشكل كبير في المعلومات التي يجب أن تنشر أولا.
هذه الرقابة العسكرية وإن تراجعت بشكل كبير أمام التقدم الكبير لوسائل الإعلام في إسرائيل ما زالت قائمة بعد 60 عاما، ومقصها يراقب كل معلومة أمنية حساسة. أما في الحروب فإن هذه الرقابة هي التي توجه وتحشد. وعلى الرغم من أن الإعلام الإسرائيلي كما هو معروف للكثيرين إعلام حربي أو إعلام جيش، لكنه أيضا محط اهتمام ومؤثر.

الإعلام الإسرائيلي مستفيد
من تراجع الإعلام العربي

ربما يكون تأثير الإعلام الإسرائيلي قديما إلى حد ما لكنه في العقدين الأخيرين أصبح مثل «كي الوعي». ليس سرا أن كثيرا من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية تفرد مساحات واسعة لما تتضمنه وسائل الإعلام العبرية، التي تبدو مصدقة أكثر من غيرها، إذا ما تعلق الأمر بشأن إسرائيلي أو حتى فلسطيني.
ومن باب الإنصاف القول إن الصحف الإسرائيلية تنجح في كثير من الأحيان في كشف ما يدور في كواليس السياسة في رام الله، فيما لا ينجح الفلسطينيون في ذلك. ومع كل صباح يذهب كثير من الفلسطينيين إلى الصحف الإسرائيلية ليعرفوا ما يدور عندهم.
ويرى المختص في الشؤون العبرية أكرم عطا الله، أن الإعلام الإسرائيلي أصبح له كل هذا الحضور والمساحة في الصحف الفلسطينية، والعربية كذلك بسبب تراجع الإعلام المحلي والعربي.
وقال عطا الله لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإعلام الإسرائيلي لا يعد قويا بالنسبة للإعلام الغربي، ولكنه أمام تراجع مستوى الإعلام العربي يعتبر مصدرا قويا خصوصا أنه نتاج مجتمع مختلف ومتقدم ما جعل له مساحات واسعة في وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية المتراجعة مقارنة مع الإعلام العبري».
ويعتقد عطا الله أن الديمقراطية التي يمارسها الإعلام الإسرائيلي داخليا وعمله على كشف أوجه فساد كثيرة، ومواجهته في كثير من الوقت للسياسيين، جعله محط إعجاب لدى كثيرين. لكنه يضيف أن «هذا ليس عمله على صعيد السياسات الخارجية فهو مجند ضد الفلسطينيين والعرب ويعمل ضمن سياسات واضحة».
ويتابع عطا الله أنه «للوهلة الأولى يعتقد كثيرون أن الإعلام في إسرائيل هو إعلام حرب وليس إعلام دولة ضمن سياسات محددة. صحيح أن الصحف الإسرائيلية لديها قدر من المساحة يمكن أن تتحرك فيها خارج السياسة العامة للدولة الإسرائيلية، وصحيح أن الإعلام الإسرائيلي يوجه كثيرا انتقادات دائمة لجهات حكومية رسمية، لأن إسرائيل تسمح بالمنافسة بين وسائل الإعلام المختلفة فيها ما جعلها مصدرا للخبر بالنسبة لكثير وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، لكن يجب أن ندرك أن الإعلام الإسرائيلي جزء من الدولة الأم اليهودية».
ويمكن ملاحظة ما يقوله عطا الله أثناء الحروب أكثر. وعادة ما يتجند الإعلام الإسرائيلي أثناء الحروب لدعم جيشه في الوقت الذي لا يرحم فيه صناع السياسة إذا كان هناك أي إخفاق. ويحاول الإعلام الإسرائيلي تحويل كل معركة إلى رابحة، من خلال التأثير المباشر في المتلقيين، إذ يطلق روايته ومصطلحاته ببراعة كبيرة لطالما رددها المتلقون.

المصطلحات الموجهة والاستقطاب

ويستخدم الإعلام الإسرائيلي، مصطلحات محددة، مثل رئيس السلطة الفلسطينية، بدل الرئيس الفلسطيني، وجيش الدفاع بدل الجيش الإسرائيلي، ومناطق الحكم الذاتي بل الضفة الغربية ويهودا والسامرة مقابل الضفة وأورشليم القدس على القدس، وحائط المبكى بدل حائط البراق، وجبل الهيكل في إشارة إلى الأقصى، وإضافة إلى قنابل موقوتة ومطاردين ومخربين في وصف المقاتلين ومواطنين في وصف المستوطنين، كما يستخدمون تعبيرات جدار أمني في تبرير جدار الضم والتوسع، وأحياء وبلدات لتبرير المستوطنات، والإدارة المدنية، بدلا من سلطات الاحتلال، والإحباط بدلا من القتل، والإغلاق بدلا من منع حرية الحركة، وهذا كله من ضمن مئات المصطلحات المختارة بعناية.
ويتضح الاهتمام الكبير بالتأثير على المتلقي الفلسطيني والعربي من عدد القنوات العربية التي تديرها إسرائيل على الرغم من معرفتها بقيام العشرات من الصحافيين والمترجمين بمتابعة كل ما يصدر في الصحف وما يقوله التلفزيون وترجمته للعربية.
ويوجد في إسرائيل إذاعة باللغة العربية، والفضائية الإسرائيلية الرسمية التي تخصص ساعات بالعربية، وقناة فضائية ثانية أنشئت قبل أعوام وهي «آي 24»، إلى جانب موقع المصدر المتخصص في طرح قضايا إسرائيلية لا يتناولها الإعلام الآخر، وموقع «عرب تايمز أوف إسرائيل» الذي يبث تقارير معمقة كما أنها متحيزة للرواية الإسرائيلية بشكل كبير.
ناهيك عن هذا كله، راح المتحدثون الرسميون والعسكريون كذلك في استقطاب عدد أكبر من المتابعين من خلال إتقان اللغة العربية واستغلال ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وعمليا لا يوجد ناطق فلسطيني مثلا أو عربي يستطيع مجاراة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الذي ينشط على مدار الساعة في تقديم معلومات وفيديوهات ووجهات نظر بالعربية، ومثله الناطق باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ورئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية بولي مردخاي المعروف باسم «المنسق». إنهم لا يكتفون بالإعلام التقليدي.

«المنسق» نموذجاً للإعلام المجتمعي

مثل حاكم فعلي للشعب الفلسطيني افتتح مسؤول الإدارة المدنية الإسرائيلية، أو ما يعرف في إسرائيل بمنسق أعمال الحكومة، الميجر جنرال يؤاف مردخاي قبل نحو عام صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مباشرة مع الشعب الفلسطيني ملقياً عليهم محاضرات أمنية، وباثا بيانات مختلفة، ومناديا إياهم بزيارة مباشرة لمكاتب الإدارة المدنية من أجل الحصول على تصاريح جديدة، وإلغاء المنع الأمني، والتنقل بين الضفة وغزة وإلى إسرائيل، في تجاوز واضح ومباشر لدور السلطة الفلسطينية.
ومراجعة قصيرة لصفحة «المنسق» تظهر إلى أي حد تتدخل الإدارة المدنية في حياة الفلسطينيين الذين يفترض أن السلطة تحكمهم.
وفي إحدى التغريدات يكتب مردخاي الذي يصفه البعض بأنه الحاكم الفعلي للفلسطينيين حول الاستعدادات لرمضان، واعتماد إجراءات استثنائية من أجل المسلمين وزيارتهم للأقصى وأقربائهم في إسرائيل، كما يعلن اتفاقات متعلقة بتطوير خدمات البريد الفلسطيني وتنظيم قطاع الكهرباء، والمياه ناهيك عن إغلاق وفتح طرق رئيسية وفرعية في الضفة الغربية، وفتح معابر وإغلاق أخرى وإدخال تسهيلات على حركة البضائع والأفراد وإعطاء تصاريح وسحب أخرى وتحديد شروط التنقل إلى إسرائيل أو غزة ومن غزة كذلك، إضافة إلى شروط تجديد البطاقات الممغنطة لتسهيل آلية العبور باعتماد البصمة.
ويعتقد كثير من المراقبين أن إسرائيل تجهز لمرحلة ما بعد السلطة الفلسطينية، عبر اختبار التعامل مباشرة مع الفلسطينيين، ودعا كتاب إسرائيليون إلى ذلك، وحذر منه فلسطينيون وعزز من ذلك اعتراف المسؤولين الفلسطينيين وبينهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن إسرائيل تحول السلطة إلى سلطة بلا سلطة وأن هذا الوضع لا يمكن له أن يستمر.
ولا يستغرب القيادي واصل أبو يوسف، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، هذا التدخل الإسرائيلي في كل التفاصيل اليومية للفلسطينيين واصفا الاحتلال بلاعب رئيسي، لكنه يرى أن ذلك سيفشل. ويتابع قائلا: «لقد جربوا ذلك أيام روابط القرى وحاولوا مرارا خلق عناوين على غرار أنطوان لحد، لكن 50 عاما من محاولة تطويع الشعب الفلسطيني فشلت وستفشل هذه المرة حتى وإن حاولوا إغراء الناس بالجزرة وتهديدهم بالعصا» في إشارة إلى خطة وزير الجيش الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان الذي عرض الشهر الماضي خطته المثيرة للجدل «العصا والجزرة» التي تقوم على التعامل المباشر على الفلسطينيين متجاوزاً السلطة الفلسطينية. ومحاولات التأثير هذه على الفلسطينيين لا تتوقف عند ذلك. بل أنشأ الجيش الإسرائيلي العام الماضي، وحدة تابعة لقسم «الإعلام الجديد» في الجيش، تعمل على كتابة ونشر مضامين باللغة العربية تستهدف الفلسطينيين.
وقال مردخاي نفسه إن ملايين الشواقل استثمرت في هذه الوحدة.
ويؤكد المتابع للشأن الإسرائيلي مصطفى إبراهيم، أن النافذة الإعلامية المختلفة التي تقدمها إسرائيل جعلت منها مصدرا للأخبار.
ويرى إبراهيم في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن الاهتمام بما يقدمه الإعلام الإسرائيلي يشير إلى مدى تراجع الإعلام الفلسطيني والعربي في تقديم محتوى جيد للقارئ يشمل معلومات جديدة وذات مصداقية حول كثير من القضايا.
وبالإضافة إلى قدرتهم على الاختراق في الشأن الفلسطيني لأسباب لا يسع المكان لسردها، وتقديمهم رواية مختلفة عبر نوافذ جذابة، لكن أيضا يبدو الأمر وكأنه متعلق بقوة وسطوة «الاحتلال».



كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام