نحو معجم لسيَر الخالدين... السعودية مثالاً

نحو معجم لسيَر الخالدين... السعودية مثالاً
TT

نحو معجم لسيَر الخالدين... السعودية مثالاً

نحو معجم لسيَر الخالدين... السعودية مثالاً

في تاريخ الأمتين العربية والإسلامية، صدرت وتصدر من وقت لآخر عبر العصور، سجلات للخالدين والرواد من رجال ونساء قدامى ومعاصرين، أسهموا في بناء حضارة، أو في إقامة دولة، أو خدموا تراثاً، أو صنعوا مجد أمة، وقد عمل بعض المؤرخين والمؤلفين على تدوين أسماء البارزين منهم في معاجم السير والتراجم، كابن خلكان والذهبي والزركلي وغيرهم.
وفي المملكة العربية السعودية، تمر في الأول من برج الميزان من كل عام (الثالث والعشرين من سبتمبر/ أيلول) منذ عام 1932 ذكرى عزيزة على قلوب أهلها، لمناسبة لم تأتِ على أوانٍ من ذهب، ولم تتحقق بالمصادفة، ولا بالانتهازية الحزبية، وإنما تطلب الوصول إليها عقوداً ثلاثة من الكفاح المتصل، وأُزهقت من أجلها أرواح، وبُذلت في سبيلها أثمان، حتى تكونت نتيجتها وحدة لم تشهد لها شبه الجزيرة العربية مثيلاً منذ العصور الإسلامية الأولى، وتوافق مجتمعها المتنوع على نظام واحد، وعلى عَلَم عريق يزهو بمعانيه، وعلى عاصمة موحدة، في دولة جامعة تعايشت مع ظروف الشدة والرخاء، وأدارت خدمة الحرمين الشريفين بكفاية واقتدار، واستمرت أفئدة المؤمنين من كل أنحاء المعمورة تهوي إليها في كل عام، ووظفت موارد الأرض فوق الأرض، فِي بناء الإنسان وصحته وتعليمه، وتجنبت الهزات والزوابع والنوازل المحيطة، وعصمت حدودها بسياج الأمن، وما زالت تسعى بتدرج للإصلاح والتطوير والعصرية، آخذةً بأسبابها، مع الحفاظ على أصالة مجتمعها وخصوصياته الثقافية، وقد أسهم في تسطير هذا التاريخ على مر العصور قادة نبلاء، ورجال فكر وإدارة، وأُسر كريمة من كل أرجاء الوطن السعودي بكل أطيافه، بلا تمييز ولا استثناء.
ومن يتعمق في الأوساط الاجتماعية يجد أن كثيراً من البيوت مستمرة في استذكار قصص البطولة التي قام بها جيل التأسيس وبناء الكيان، تستعيد علاقتها بالحوادث التي مرت ببلدانها، وتفاخر بصلتها بقصة من القصص، أو بإسهاماتها بواقعة من الوقائع، أو برواية تاريخية متصلة بواحد من آبائها وأجدادها، وتزخر الوثائق بالأسماء التي كانت لها إسهامات بها، وكل ما تحتاج إليه هو أن «تُفهرس» تلك الأسماء في قوائم حسب المناطق، ووفق الجهود التي بُذلت، والمراحل التي تمت فيها مشاركاتها.
وبمرور الأعوام، بدأ العهد الذهني بهذه الشخصيات يتقادم، وصارت الذكريات تنحسر شيئاً فشيئاً، إلا ما قدر لها أن تُحفظ في تسجيلات التاريخ الشفوي، أو أن تقام لها معالم تذكارية، وبدأ وهج بعض الرموز التاريخية يختفي ويتضاءل بالتدريج، وما لم تنشط مراكز التوثيق في مواصلة التدوين، فإن كثيراً من المعلومات قد يختفي عن الأجيال القادمة، ولن يكون بمقدورها معرفة إسهاماتها.
إن مصطلح «الخالدين» في هذا المقال، لا يقتصر على من استشهد أو شارك في الجهود الحربية التي تكللت بالانتصارات والتوفيق، وأدت إلى توحيد الكيان، وإن كانوا الأهم والأولى بالتقدير، لكنه بالتأكيد يشمل كل من أسهم بقسط من نصيب تموين أو تعبئة أو نجابة أو مفاوضات أو تمثيل أو إدارة.
ومع تقدير بعض المحاولات التي قامت بها من قبل دور التوثيق الوطني في هذا الاتجاه، فإن هذا المقال، يدعو للقيام بجهد علمي أوسع، لحفظ هذه السير في السعودية، وأمثالها من البلدان حديثة الاهتمام بالتوثيق، والخطوة الأهم التي ينبغي البدء بها أن تحدد مواصفاتها، وحجمها، وإطارها الزمني، ونوع المعلومات المطلوب توثيقها، بحيث تضم «برنامجاً معرفياً» على مستوى كل منطقة، يختص بالرواد الخالد تاريخهم، مع إعطاء الأولوية لأولئك الذين ضحوا بدمائهم في سبيل وحدة الوطن واستقلاله، وصون حريته، تكريماً لما قاموا به، واحتراماً لتاريخهم الوطني والتذكير به.
*إعلامي وباحث سعودي



كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود
TT

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة التي كان قد اقترب منها بشكل كبير بعد صدور روايته «مرسو التحقيق المضاد»، العمل الذي وضعه في دائرة الضوء في 2014 بعد أن نال استحسان النخب المثقفة حتى وُصف أسلوبه بـ«البارع والمميز» من قِبل منابر إعلامية مرموقة مثل «النيويورك تايمز».

في روايته الجديدة يُطلّ علينا الكاتب الجزائري بأسلوب أدبي مختلف بعيداً عن السرد الخيالي والأحاديث العفوية التي لمسناها في «مرسو»، فنصّ «الحوريات» مستوحى من الواقع وهو واقع مرّ كئيب، حيث اختار كمال داود تقليب المواجع والنبش في تاريخ الذكريات الدامية التي عاشها وطنه في حقبة التسعينات إبان ما سُمي بـ«العشرية السوداء»، فجاءت اللوحة سوداوية وكأن الجزائر أغنية حزينة وألم مزمن يسكن أعماق الكاتب.

كمال داود

الرواية تبدأ بمونولوج مطوّل لـ«فجر»، وهي فتاة في عقدها العشرين بقيت حبيسة ماضيها وحبالها الصوتية التي فقدتها بعد تعرضها لمحاولة ذبح. المونولوج يمر عبر مناجاة داخلية للجنين الذي تحمله، تخبره فيه عن معاناتها وذكرياتها وعن كفاحها من أجل التحرّر من سلطة الرجال. في الفقرة الثانية تقرر «فجر» العودة إلى مسقط رأسها بحثاً عن أشباحها وعن مبرر تنهي به حياة طفلتها حتى لا تولد في مجتمع ظالم، لتلتقي بعيسى بائع الكتب المتجوّل الذي يحمل جسده آثار الإرهاب وهوساً جنونياً بتوثيق مجازر العشرية السوداء بتواريخها وأماكن وقوعها وعدد ضحاياها. في رحلة العودة تغوص الرواية في جحيم الحرب الأهلية وذكريات الجرائم المروّعة، واضعة تحت أنظارنا مشاهد قاسية صعبة الاحتمال، كالمقطع الذي تستحضر فيه «فجر» ليلة الذبح الذي تعرضت له عائلتها، أو الفقرات التي تروي فيها شخصية «حمراء» ليلة اختطافها لتزوج قسراً وهي لا تزال طفلة. وهي نصوص لها وقعها النفسي إذا ما علمنا بأن الكاتب استوحى كتاباته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته مجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر، بينما كان يعمل صحافياً في يومية «لوكوتديان دو أورون» أو أسبوعية وهران.

وأشاد كثير من الأوساط بالقيمة الأدبية للرواية. صحيفة لوموند وصفتها بـ«القوة المذهلة» و«الشاعرية الغامضة». وأشادت صحيفة «لوفيغارو» بالسرد القوي المشحون بالصور الشعرية الصادمة والعواطف الجيّاشة التي تعبّر عن حجم المعاناة. صحيفة «ليبيراسيون» كتبت أنها رواية «أساسية، ومفيدة وشجاعة، وإذا وضعنا جانباً كونها مثقلة بالرموز فإن طاقتها المذهلة تُغلف القراءة». وبالنسبة لصحيفة «سود ويست»، تصرّح بأن «الحوريات» «كتاب رائع وجميل وطموح وإنساني وسياسي للغاية» قبل أن تضيف أن «نفوذ (غاليمار) - دار النشر التي ينتمي إليها كمال داود - ودورها في وصول الرواية إلى التتويج ليس بالهيّن. على أن النقد لم يكن دائماً إيجابياً؛ حيث جاءت وجهات النظر متباينةً بخصوص القيمة الأدبية لرواية كمال داود، ففي قراءات نقدية سابقة لم تلقَ الدرجة نفسها من الاستحسان، فمنهم من عاب على الرواية اللجوء المفرط للرموز بدءاً بالأسماء: «حورية»، «فجر»، «شهرزاد»؛ إلى رمزية الأماكن كالقرية التي شهدت ذبح عائلتها والتي وصلت إليها «فجر» صبيحة عيد الأضحى بينما كان الأهالي يذبحون الأضاحي، حتى كتب أحد النقّاد أن ثقل الرموز سحق القصّة، كما أن تشبث الكاتب بسرد الأحداث الواقعية بتواريخها وأماكنها وعدد ضحاياها جعل القارئ يفقد الصلة بالأسلوب الروائي.

الكاتب استوحى روايته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته الصحافية لمجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر

الصحافية والناقدة الأدبية نيلي كابريان من مجلة «لي زان كوريبتبل» وإن كانت قد رحّبت بوجود هذه الرواية وأهميتها، واجهت، كما تقول، مشكلة في «طريقة كتابتها غير المثيرة للاهتمام»: «لقد شعرت بالملل قليلاً بعد فترة من القراءة بسبب الكتابة التي طغى عليها الأسلوب الأكاديمي الفضفاض، فالروايات التي تبدأ بعنوان لا تنجح دائماً، وهو كتاب يهتم فعلاً بمعاناة النساء اللائي ليس لهن صوت، لكن من منظور أدبي، يبقى الأسلوب أكاديمياً منمّقاً، وهو ما جعلني لا أتحمس للاستمرار في القراءة». وبالنسبة للوران شالومو الكاتب والناقد الأدبي المستقل فإن رواية «الحوريات» نصّ شجاع ومُحرج في الوقت نفسه، شجاع لأنه يتعرض لموضوع سياسي حسّاس قد يعرّض صاحبه لمضايقات كبيرة، ولكن وبالرغم من نواياه الحسنة، فإن الكتاب يفتقر للدقة. ويضيف الكاتب: «لم أتعرف على كمال داود في هذا العمل، هو يدّعي أنه شخص آخر وهو ما أصابني بالحساسية، حتى نكاد نراه وهو يحاول تمرير قباقيبه الكبيرة لتبدو كنعال حمراء اللون. الكاتب ركّز في نقده على «السرد المظلم بشكل متصنّع وإرادي لإنتاج إحساس بالعمق، إضافة للجُمل الملتوية المُثقلة بلا داعٍ».

وفي موضوع نقدي آخر مخصّص لرواية «الحوريات» أشاد أرنو فيفيانت الإعلامي والناقد الأدبي بصحيفة «ليبيراسيون» بها واصفاً الرواية بأنها «كتاب (عظيم جداً). على الرغم من طوله (400 صفحة) وكثرة الرموز، فإن الأسلوب الاستعاري يجعل القراءة مذهلة، وهو وإن اقترب من (الغونكور) عام 2014 حين تصور كتابة أخرى لرواية ألبير كامو (الغريب)، فهو، وبعد عشر سنوات، يعود بهذه الرواية الجديدة محاولاً هذه المرة إعادة كتابة (الطاعون) الرواية الأخرى لكامو. ليس فقط لأن الأحداث تدور في مدينة وهران في كلتا الروايتين، ولكن أيضاً بسبب التغيير الذي حدث في أسلوب الكتابة والذي كان قد ميّز رواية (الطاعون) أيضاً».

إليزابيث فيليب الكاتبة الصحافية من مجلة «نوفيل أبسورفاتور» وصفت الرواية بالأساسية والشجاعة لأنها «تتعرض للظلم الذي تواجهه بعض النساء في المجتمعات المحافظة، وهي أساسية من حيث إنها تعطي صوتاً لمن حرم منه». لكنها تصف الرواية في الوقت نفسه بـ«المملّة». وهي تقول بأن تحفُّظها لا يخصّ الأسلوب المنمّق الذي تميزت به الرواية، بل البناء السردي، فـ«الكاتب يدرج القصص الواحدة تلو الأخرى في نوع من التشويش الزمني، محاولاً تبرير ذلك بالسرد الشعري، لكن النتيجة لا تسهّل عملية القراءة التي تصبح أشبه بالتمرين الشاق».