تداعيات أحداث تطاوين

احتجاجات الفقراء في مواجهة «حيتان» التهريب

تداعيات أحداث تطاوين
TT

تداعيات أحداث تطاوين

تداعيات أحداث تطاوين

سمع كثيرون من مثقفي العالم وساسته بمدينة تطاوين التونسية قبل نحو 13 سنة، بعد النجاح الكبير الذي لقيه الشريط السينمائي عن «حرب النجوم»، الذي تحدث عن «كوكب تطاوين». وكانت قد صوّرت 6 من حلقاته في صحراء الجنوب التونسي، معظمها في منطقة الواحات الحدودية التونسية – الجزائرية، في موطن شاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي، بمحافظة توزر. إلا أن محافظة تطاوين التونسية، الواقعة على الحدود التونسية – الليبية، شدت أنظار العالم إليها خلال الأسابيع القليلة الماضية لأسباب مختلفة تماماً، إذ شهدت تحركات احتجاجية شبابية غير مسبوقة تطالب بالحق في التشغيل والتنمية في موقع صحراوي عسكري نفطي يدعى «الكامور»، يبعد عشرات الكيلومترات عن عاصمة المحافظة.
وكان المحتجون ينقلون إليه عبر سيارات وشاحنات تقول مصادر حكومية إنها مؤجرة من قبل مجموعة من كبار المهربين والمورطين في الفساد المالي. ورغم التنازلات الكبيرة التي اتخذتها السلطات لفائدة هذه المحافظة التي تغطي مساحتها ربع مساحة البلاد، ولا تضم أكثر من 150 ألف ساكن، تطورت فيها الاحتجاجات إلى أعمال عنف ومصادمات مع قوات الأمن، ثم إلى حملة اعتقالات غير مسبوقة لمئات من كبار المتهمين بالفساد المالي والسياسي، وبركوب احتجاجات العاطلين عن العمل، من بينهم عدد من أبرز صناع القرار السياسي والاقتصادي في البلاد منذ سنوات.

بدأت تحركات الشباب العاطل عن العمل في محافظة تطاوين الصحراوية الحدودية التونسية مع ليبيا سلمية، وكانت أبرز مطالبها براغماتية، بينها الحق في التشغيل، وفي رصد مبالغ مالية أكبر من قبل الدولة من أجل تنمية مدن المحافظة وقراها وأريافها، حيث استفحل الفقر لأسباب كثيرة، بينها تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في ليبيا. وللعلم، كان جلّ أبناء الجهة يعتمدون طوال عقود على المبادلات التجارية القانونية وغير القانونية مع ليبيا، «الجارة» إلى الشرق.
إلا أن التحركات سرعان ما تطورت إلى اعتصام شبابي في نقطة صحراوية حدودية قاحلة، دعمه آلاف النشطاء في «فيسبوك» وبقية المواقع الاجتماعية. ونجح هؤلاء في إقناع تيار من الإعلاميين وآلاف النشطاء السياسيين والحقوقيين من ميول مختلفة في العاصمة وكامل البلاد بالانحياز إلى مطالبهم التي تصاعدت تدريجياً إلى حد رفع مطالب وصفتها السلطات بالتعجيزية، من بينها تخصيص خمس مداخيل آبار النفط الموجودة في الجهة لمحافظة تطاوين وحدها، وتوظيف 3 آلاف عاطل عن العمل من أبناء الجهة في مؤسسة النفط التي تقول السلطات إن إنتاجها تراجع بنسبة فاقت الـ90 في المائة عما كانت عليه قبل 30 سنة.
وتعقدت أوضاع المحتجين أكثر لما تبنى بعضها قياديون في نقابات العمال وبعض الأحزاب السياسية اليسارية الراديكالية القريبة من «الجبهة الشعبية»، بزعامة حمة الهمامي، ثم حزب الرئيس السابق المنصف المرزوقي، وقياديون في حركة النهضة الإسلامية، بينهم رئيس الحكومة الأسبق علي العريّض ورئيس مجلس الشورى في الحركة الوزير السابق عبد الكريم الهاروني. وأوشكت تحركات تطاوين أن تصبح خارج السيطرة عندما تعاقبت التظاهرات السياسية والاجتماعية والإعلامية المساندة لها في العاصمة تونس وفي محافظات كثيرة، بينها محافظات سيدي بوزيد والقصرين وقفصة ومدنين وقابس، التي كانت وقود الانتفاضة الاجتماعية في 2010 ومطلع 2011.
وعلى غرار ما جرى في تونس في تحركات اجتماعية احتجاجية شبابية شهدتها البلاد عامي 2014 و2015، تجدد الحديث عن «ثورة ثانية»، وعاد بعض المتظاهرين لرفع شعارات ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وبينها: الشعب يريد إسقاط النظام، وخبز وحرية وكرامة وطنية، وثورة مستمرة، إلى غير ذلك من الشعارات التي يرفعها خصوصاً النقابيون والطلاب والشباب المحسوب على التيارات اليسارية.
* ازدواجية في المواقف
بعدها، تخوف المراقبون في تونس من مخاطر التصعيد الخطير الذي وصلت إليه الأحداث بعد تفاقم العنف في عدة مدن جنوبية وحدودية مع ليبيا والجزائر، وسط قلق حقيقي من أن يستغل آلاف المسلحين والإرهابيين الفارين من حرب ليبيا الوضع كي يتسللوا إلى تونس. وفي هذا السياق، تحولت مناقشة هذا الملف في البرلمان ووسائل الإعلام إلى مناظرات وتبادل علني للاتهامات بالخيانة الوطنية والضلوع في العنف والإرهاب من جهة، مقابل اتهامات بالضلوع في الفساد والسرقة والرشوة وجهت إلى رموز الائتلاف الحاكم من قبل بعض الحقوقيين والمعارضين، مثل الوزير السابق محمد عبو وزوجته البرلمانية سامية عبو، والأمين العام لحزب الرئيس السابق المرزوقي الوزير السابق عماد الدايمي.
هذا المناخ ورّط كبرى الأحزاب والأطراف السياسية، وبينها قيادات أحزاب الائتلاف الحكومي، مثل النداء والنهضة وآفاق والجمهوري والمسار، في ازدواجية المواقف. وتراوحت تصريحات بعض تلك القيادات بين مساندة ما وصفته بشرعية تحركات الشباب المضربين والمعتصمين في الطرقات المؤدية إلى المدن ومضخة النفط، وانتقاد هجومها على مؤسسات الأمن والإدارة والنفط وحرق مقرات مؤسسات أمنية وإدارية وسيارات تابعة للدولة.
ولعل هذه الازدواجية برزت، خصوصاً، في التصريحات الصادرة عن قيادات حزب النداء، الذي يتزعمه حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وبعض زعامات حركة النهضة الإسلامية التي يتزعمها راشد الغنوشي، ونائب البرلمان التونسي عبد الفتاح مورو. وبرزت التناقضات أكثر بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس التونسي يوم 10 مايو (أيار) الحالي، وأعلن فيه عن تكليف الجيش بحماية المؤسسات الاقتصادية الوطنية، وبينها مضخات النفط ومناجم الفوسفات، إذ رد عدد من الساسة وزعمائها النقابيين بانتقادات لاذعة، واتهموا السلطات بمحاولة عسكرة البلاد، ودفع الأوضاع نحو إلغاء الديمقراطية والتعددية، وتسليمها إلى الجيش.
وكانت المفاجأة أن كان من بين من صدرت عنهم تلك الانتقادات الرئيس السابق المرزوقي ورئيس حكومة النهضة عام 2012 حمادي الجبالي وحقوقيون ونقابيون، بينهم سامي الطاهري، الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل.
* المنعرج الأخطر
هذا الاستقطاب داخل النخب السياسية دفع الأوضاع في محافظة تطاوين وعدد من المحافظات الجنوبية نحو تجاوز كل الخطوط الحمراء، من حيث نوعية العنف المستخدم. وكان المنعرج الأخطر إقدام مجموعة من الشباب المعتصمين على غلق مضخات نفط في محافظتي تطاوين وقبلي، وحرق عدد من المؤسسات الأمنية والإدارية، ما تسبب في مواجهات وأعمال عنف كانت حصيلتها عشرات الجرحى بين الأمنيين والمتظاهرين، ومقتل الشاب أنور سكرافي بعدما دهسته سيارة أمن. ويومها، قالت السلطات إن السيارة كانت تتراجع للفرار من المداهمين الذين أحرقوا سيارات أمن وإسعاف مجاورة لها. كما تسببت تلك التطورات في إيقاف عشرات المشتبه فيهم والمتهمين.
ومن ثم، أعلنت السلطات أن التحقيقات مع الموقوفين في تطاوين والعاصمة وبقية المحافظات «تورّط» مجموعة من المهرّبين و«الحيتان الكبيرة» السياسيين في إشعال فتيل الأحداث، وقالت إن بينهم رجال أعمال وتجاراً يؤثرون في الحياة السياسية وفي توجهات وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية الخاصة منذ سنوات.
* أكبر «بركان سياسي»
وبعد أسابيع من الاتهامات المقنعة التي وجهها الرئيس التونسي قائد السبسي وبعض أعضاء حكومة يوسف الشاهد إلى أطراف يسارية وإلى حزب المرزوقي، وكذلك إلى «المتشددين» الإسلاميين، بركوب الاحتجاجات الشبابية وتأجيج الأحداث، كان «البركان السياسي» الأكبر في تاريخ تونس منذ انهيار حكم زين العابدين بن علي في يناير 2011، إذ تطور نسق الأحداث بسرعة، وعقدت جلسات طارئة في البرلمان والمجلس الأعلى للأمن، وفي مستوى رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة والقيادات المركزية للحزبين الكبيرين النداء والنهضة.
وبدأت إشارات «البركان» بتصريح مثير صدر عن عماد الحمامي، الأمين العام المساعد في حزب النهضة الإسلامي وزير التشغيل المكلف من قبل الحكومة، بالتفاوض مع شباب تطاوين.
الحمامي، الذي عرف بهدوئه المبالغ فيه، وبدوره في تهدئة الأوضاع ميدانياً عبر تصويت وافق فيه 90 في المائة من المعتصمين على وقف التحركات مقابل وعود مالية واجتماعية وسياسية كبيرة قدمتها الحكومة للجهة وشبابها، أطلق نار التهم على حزب المرزوقي وعلى عدد من المهربين ورجال الأعمال الفاسدين.
وتسارع النسق عندما صدرت تصريحات مماثلة عن رئيس الحكومة الأسبق العريّض ووزير الزراعة والقيادي اليساري سمير الطيب، ثم عن نواب وساسة من أحزاب ليبرالية مشاركة في الائتلاف الحاكم.
وفي الوقت نفسه، انطلق مسلسل إيقافات شمل شخصيات مؤثرة في عالمي المال والإعلام، وفي اللعبة السياسية، وعشرات من التجار في «السوق السوداء» وضباط الجمارك الحاليين والسابقين، ومتهمين بامتلاك مخازن للسلع المهربة وبتزعم عصابات «بارونات» التهريب وتبيض الأموال.
وفي وقت قياسي، تغير إيقاع الأحداث في عموم تونس بنسبة 180 درجة، من التحركات الرامية إلى إسقاط «حكومة الوحدة الوطنية» برئاسة يوسف الشاهد، إلى تنظيم تحركات شعبية وحملة إعلامية مساندة لحربها الشاملة ضد الفساد.
ومع حلول شهر رمضان، وموسم الإجازات والمهرجانات الصيفية، وابتعاد التونسيين عن الشؤون السياسية، تكون الحكومة قد ضمنت خروجًا بأقل الأضرار من الأزمة التي فجّرتها احتجاجات الشباب العاطل عن العمل في الجنوب التونسي. وتعود تطاوين مجدداً إلى حجمها الطبيعي، في شكل مدينة سياحية تاريخية صغيرة، بعدما حاول بعض شبابها أن يصنعوا منها عبر «فيسبوك» والمواقع الاجتماعية «كوكباً سياسياً» جديداً يضاهي كوكب تطاوين في فيلم «حرب النجوم» الواسع الانتشار.
* تطاوين: مهمشون على ربع مساحة تونس
مدينة تطاوين، في الجنوب التونسي، هي عاصمة محافظة تطاوين الصحراوية التي تجمعها حدود مشتركة مع غرب ليبيا وشرق الجزائر، وهي أكبر محافظات تونس مساحة، إذ تمثل نحو ربع مساحة البلاد، وتمتد على نحو 40 ألف كلم مربع، على الرغم من أن تعداد سكانها يحوم حول 150 ألف نسمة فقط.
معيشياً، يعتمد أبناء هذه المحافظة، على غرار نسبة كبيرة من سكان الجنوب التونسي عامة والجنوب الشرقي خاصة، على عائدات العمالة التونسية في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا وليبيا، والمبادلات التجارية القانونية وغير القانونية مع ليبيا. وللعلم، تنتمي معظم عائلات المحافظة وقبائلها إلى القبائل والعائلات المنتشرة في غرب ليبيا نفسها، خصوصاً في الجبال الصحراوية الليبية الممتدة إلى سلسلة جبال مطماطة في محافظة قابس التونسية، على مسافة 400 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس.
وتعتبر محافظة تطاوين منذ عشرات السنين أهم مركز لمضخات النفط، وموطناً رئيساً للسياحة الصحراوية والثقافية. كما تعد السلسلة الجبلية المعروفة باسم جبال الضاهر من أهم المشاهد الطبيعية في تطاوين وعموم الجنوب الشرقي التونسي. ولقد كانت تلك الجبال مخبأ رئيسياً للثوار الوطنيين التونسيين والليبيين ضد الاستعمارين الفرنسي والإيطالي بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن نحو نصف أراضي محافظة تطاوين صحراوية قاحلة، تعاني مثل غالبية جهات الجنوب التونسي من نقص فادح في الأمطار والموارد المائية السطحية ومراعي الأغنام.
* قرارات بالجملة لفائدة المحافظة
أعلنت رئاسة الحكومة التونسية عن حزمة من الإجراءات، نصت على أكثر من 60 قراراً لفائدة محافظة تطاوين، على هامش زيارة عمل أداها إليها رئيس الحكومة يوسف الشاهد رفقة عدد من الوزراء ورجال الأعمال والبرلمانيين، منها:
- الإعلان عن تمويل 453 مشروعاً (223 عن طريق البنك التونسي للتضامن ومؤسسات التمويل الصغير وبنك المؤسسات الصغرى والمتوسطة، و40 مشروعاً فلاحياً و190 مشروعاً عن طريق الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل).
- الإعلان عن 350 وظيفة في إطار عقد الكرامة (حصة تطاوين 1042).
- تأسيس لجنة بإشراف وزارة التكوين المهني والتشغيل تتولى إسناد البطاقة المتعلقة بالتشغيل في الصحراء.
- الانتداب الفوري لـ500 عون بشركة البيئة والبستنة.
- تمويل 670 مشروعاً صغيراً في إطار المسؤولية المجتمعية للمؤسسات.
- تمويل 150 مشروعاً في إطار التمكين الاقتصادي للمرأة قبل نهاية 2017.
- إحداث مركب للتشغيل والعمل المستقل سنة 2018.
- انطلاق أشغال إعادة تهيئة المناطق السقوية بمعتمديات رمادة والبئر الأحمر وغمراسن والذهيبة سنة 2018.
- انطلاق أشغال حماية مدينة تطاوين من خطر الفيضانات.
- إحداث مناطق سقوية جديدة بمعتمديات غمراسن ورمادة والبئر الأحمر.
- انطلاق أشغال تعزيز وتجديد قنوات جلب المياه بالجنوب الشرقي في نهاية 2017.
- انطلاق تدعيم التزويد بالماء الصالح للشراب بمنطقة تلالت من معتمدية تطاوين الشمالية والمناطق العليا من مدينة غمراسن ومنطقة قصر الحدادة من معتمدية غمراسن سبتمبر (أيلول) 2017، بكلفة 0.72 م.د.
- فتح مطار رمادة العسكري للطائرات المدنية، وذلك قبل 25 مايو 2018.
- الانطلاق في بناء ورشة جهوية لصيانة الحافلات سنة 2018.
- انطلاق الأشغال المتعلقة بوصلة الربط بين تطاوين والطريق السيارة أ1 بولايتي مدنين وتطاوين، وذلك بداية سنة 2018.
- انطلاق أشغال تهذيب الطريق الجهوية رقم 111 بين الصمار وحدود ولاية مدنين بطول 23 كلم.
- انطلاق أشغال بناء جسر على وادي تلالت بالطريق الوطنية رقم 19 في يوليو (تموز) 2017.
- انطلاق أشغال تدعيم الطريق الجهوية رقم 115 الرابطة بين منطقة واد الغار وحدود ولاية مدنين بطول 26 كلم.
- انطلاق أشغال تعصير وتدعيم الطرقات داخل المناطق البلدية بكل من بلدية تطاوين وبلدية غمراسن وبلدية الصمار في يونيو (حزيران) 2017.
- الانطلاق في تهذيب حي وسط المدينة ببلدية رمادة (طرقات - تنوير عمومي - ماء صالح للشراب).
- انطلاق أشغال تأهيل وتوسعة وتجهيز المستشفى الجهوي بتطاوين (عيادات خارجية، والاستعجالي، ومبيت للأطباء، وقطب جامعي إقليمي في طب النساء والأطفال، وإحداث صيدلية) سنة 2018.
- إحداث وحدة طب استعجالي بالمركز الوسيط ببني مهيرة نهاية 2017.
- انطلاق أشغال إحداث مركز تكوين في الطاقة والمواد الإنشائية في سبتمبر المقبل.
- إحداث المنطقة الصناعية ببونمشة بولاية تطاوين تمتد على 50 هكتاراً، وانطلاق الأشغال في مايو 2018.
- إحداث مسلخ بلدي سنة 2018.
- انتهاء أشغال توسيع وإعادة تهيئة محطة التطهير لمدينتي تطاوين وغمراسن قبل نهاية 2017.
- انتهاء أشغال تطهير 3 أحياء شعبية بتطاوين أبريل 2018.
- انطلاق توسيع شبكة التطهير بمدينة تطاوين قبل نهاية 2017.
- إعادة بناء دار الثقافة برمادة سنة 2018.
- إحداث متحف للتراث الثقافي والطبيعي بتطاوين سنة 2018.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.