هاكان فيدال.. كاتم أسرار أردوغان

رئيس الاستخبارات التركية.. «الشاويش» المتدين متهم بدعم المنظمات الراديكالية في سوريا

هاكان فيدال.. كاتم أسرار أردوغان
TT

هاكان فيدال.. كاتم أسرار أردوغان

هاكان فيدال.. كاتم أسرار أردوغان

خلال الأسبوعين الماضيين، حفلت الصحافة الغربية بسلسلة مقالات ذات طابع سلبي عن الدور التركي في المنطقة، كان قاسمها المشترك واحدا، وهو رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، الذي اتُّهم بدعم المنظمات الراديكالية في سوريا وتنمية نفوذها، وصولا إلى تسليم جواسيس إسرائيليين لإيران.. لكن تركيا تصرفت على أساس أن هذه الانتقادات تتخطى فيدان ودوره لتطال رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان.
المعروف عن فيدان أنه قريب جدا من أردوغان إلى درجة أن البعض حار في توصيفه على أنه الرجل الثاني بعد أردوغان، أو الثالث في تركيا بعد أردوغان والرئيس عبد الله غل.
الوصف الذي اختاره له أردوغان كان.. «إنه حافظ أسراري. إنه حافظ أسرار الدولة»، بينما يقول الكاتب التركي المعروف جنكيز قاندار إنه بمثابة «كعب أخيل» لأردوغان، في إشارة إلى أن استهدافه غربيا هو استهداف لدور أردوغان.
يشير قاندار إلى الأهمية التي تعاملت فيها تركيا مع هذه الأخبار التي وردت في مقالات متعددة في صحيفة «وول ستريت جورنال» في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث تحدثت الصحيفة عن الدور المهم لفيدان في دعم المنظمات الراديكالية في سوريا، ثم في صحيفة «واشنطن بوست» في 16 أكتوبر التي تحدث تقريرها عن تسليم فيدان 10 جواسيس إسرائيليين لإيران، تلاه في 18 من الشهر ذاته تقرير لـ«نيويورك تايمز» يتحدث عن تراجع التعاون التركي - الإسرائيلي بسبب مخاوف من تسريب فيدان المعلومات إلى الاستخبارات الإيرانية وإلى المجاهدين في سوريا.
وعلى الرغم من أن تركيا كانت عند نشر التقارير في عطلة عيد الأضحى، فإن الردود انهمرت من كل حدب وصوب، فتحدث نائب رئيس الوزراء بشير بوزداغ دفاعا عن فيدان، مؤكدا أن ولاء ووطنية رئيس الاستخبارات التركية «هاكان فيدان» ليست موضوعا للنقاش. وقال بوزداغ: «على الجميع أن يعي هذه الحقيقة، وأن حكومة حزب العدالة والتنمية هي من وضعت فيدان على رأس عمله، ولن تعزله ولن تسمح لأحد بعزله».
أما وزير الخارجية أحمد داود أوغلو فقال إن «هذه المعلومة الخاطئة تظهر مدى امتياز العمل الذي يؤديه فيدان»، منددا بهذا «الافتراء» الهادف إلى تلطيخ «السمعة المحترمة»، التي تحظى بها تركيا.
وبينما تبارت الصحف الحكومية، أو تلك القريبة منها، في الرد على الاتهامات، مذكرة - كصحيفة «صباح» - بالأصول الأرمينية للكاتب الأميركي ديفيد إغناتيوس، وصف مسؤولون في أنقرة تقرير الصحيفة بأنه جزء من محاولة لتشويه سمعة تركيا من جانب قوى خارجية لا تشعر بالارتياح لتنامي نفوذ تركيا في الشرق الأوسط.
ويرى البار بيردال رئيس تحرير جريدة «صول» المعارضة، أن الحملة التي تشن الآن من أميركا وإسرائيل على فيدان هي «نتاج لبداية توسيع الهوة في وجهة النظر بين أميركا وتركيا حيال ما يجري في الشرق الأوسط».
ويقول بيردال لـ«الشرق الأوسط»: «لو نظرنا إلى الفترة التي بدأت بها الحملة لرأينا أنها أتت مباشرة بعد الادعاءات باستخدام سوريا السلاح الكيماوي، ومن ثم الاتفاق بين روسيا وأميركا على حل الأزمة السورية بالطرق السلمية، مما أدى إلى وقوع فراغ كبير وخيبة أمل من قبل حزب العدالة والتنمية، الذي كان يعد العدة للحرب على سوريا وابتلاعها، ولهذا بدأ أردوغان الانتقاد اللاذع للولايات المتحدة، وبدأ الخلاف يظهر على الساحة». ويستنتج أن «الولايات المتحدة التي بدأت تشعر بالقلق من تصرفات وتصريحات أردوغان اختارت هاكان فيدان، ليكون عنوانا لتوجيه انتقاداتها وهجومها لأردوغان».
وإذ يعترف بيردال بوجود «خلاف بين الحكومة والجماعات الدينية (في تركيا) حول اقتسام المناصب»، فهو يشير إلى أن «جماعة فتح الله غولان تعمل بأوامر من واشنطن، ولهذا لا أستغرب أن تكون الجماعة شنت الحملة على فيدان، ولكن لا أعتقد أن هناك تعاونا أو تنسيقا بين الجماعة ومخابرات دول أخرى»، مشددا على أن الولايات المتحدة «تريد أن توصل رسالة إلى أردوغان وطاقمه مباشرة، وسنرى تأثيراتها في الانتخابات المقبلة».
أما الكاتب إمري أوصلو من جريدة «طرف»، فيرى أن فيدان يعتبر الرجل الثاني في تركيا بعد أردوغان، في إدارة العمليات العسكرية والاستراتيجية، ومن الطبيعي أن يهتم الإعلام والشارع بهذا الرجل الغامض الذي يدير أهم العمليات في تركيا، ولا يظهر للإعلام مباشرة، مثل رئيس الوزراء أو الوزراء الذي نشاهدهم كل يوم، كما أن هذا الشخص هو المسؤول عن أهم العمليات التي تقوم بها تركيا في منطقة الشرق الأوسط، كما أنه هو الشخص الأكثر تأثيرا على أردوغان، وهو الذي يوجه في أغلب الأمور، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، سواء كانت هذه المعلومات أو هذا التوجيه على صواب أم على خطأ».
وإذ يستبعد أوصلو وجود حملة غربية ضد فيدان، يقر بوجود حملة إسرائيلية يضعها في إطار «الصراع بين الاستخبارات التركية والموساد»، ملاحظا أن «بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية تعدت حدود المتعارف عليه إعلاميا، وهددت بتفجير سيارته».
تزامن بروز فيدان على الساحة التركية مع سياسة «العودة إلى الجذور» التي اتبعها رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان وعرابها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، صاحب نظرية «العمق الاستراتيجي» وسياسة «صفر مشكلات» مع دول الجوار، التي تُرجمت بعودة تركيا إلى العالم العربي، بعد انقطاع طويل فرضته سياسة التتريك، التي أطلقها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال وسياسة الاتجاه غربا التي عمل عليها.
لم يكن فيدان بعيدا عن داود أوغلو؛ فهو من المقربين منه، وكذلك من أردوغان الذي احتضن «ضابط الصف» المتدين الذي لم يكن لأحد أن يتوقع له هذا البروز، باعتبار أن «الشاويش» لا مستقبل عسكريا له.
ولد هاكان فيدان في العاصمة أنقرة عام 1968. درس وتخرج في مدرسة قوات المشاة المحاربة عام 1986، ومن ثم درس في مدرسة اللغات التابعة للقوات المشاة. كذلك فإن لديه خبرة عملية في ميدان الاستخبارات، وعمل بين عامي 1986 و2001، في «وحدة التدخل السريع» التابعة للحلف الأطلسي، وعمل في صفوف فرع جمع المعلومات السريعة في ألمانيا. وفي تلك الفترة نال إجازة في العلوم السياسية من جامعة ميريلاند الأميركية، قبل أن ينجز الماجستير والدكتوراه في جامعة بيلكنت في أنقرة، مسقط رأسه. ويلقي أوصلوا بمجموعة من علامات الاستفهام حول دور فيدان، الذي كان «شاويشا»، وهو منصب لا مستقبل له في الجيش التركي، لأنه لن يترفع كثيرا من خلاله مهما طالت مدة خدمته، مشيرا في هذا الإطار أيضا إلى أن فيدان ذهب للخدمة في قواعد «الناتو» لمدة أربع سنوات، وكان يُعرف عن هاكان فيدان أنه متدين، ولكن في تلك الفترة كان المتدينين يطردون من الجيش التركي، فكيف يكافئ متدينا ويرسل للعمل في أهم مؤسسات «الناتو»؟ وهنا تكثر الشبهات حول فيدان، لأن الفترة التي أرسل بها هاكان إلى ألمانيا كانت تركيا تعيش فترة انقلاب 28 فبراير (شباط)، ولهذا بالنسبة لي يبقى إرساله على أساس أنه متدين إلى ألمانيا محلا للسؤال والشك!
ويضيف: «ولكن الذي يثير اهتمامي أن هاكان فيدان بعد الاستقالة مباشرة بدأ العمل في السفارة النمساوية في أنقرة كمستشار سياسي. واللافت للنظر هو أن هناك شخصين مهمين الآن في تركيا أيضا كانا قد عملا مستشارين للسفارة النمساوية في أنقرة، أحدهما وزير المالية محمد شمشيك، والآخر سعاد كينيكلي أوغلو، وهو عضو في اللجنة المركزية للعدالة والتنمية وعضو برلمان عن الحزب وأيضا من أصول عسكرية».
وتابع: «السؤال الذي يطرح نفسه هل الجهات التي فتحت لمحمد شمشيك وسعاد كينيكلي أبواب السفارة النمساوية هي التي فتحت أبواب السفارة لهكان فيدان؟».
وبعد أن أنهى فيدان فترة خدمة استمرت 15 عاما في صفوف القوات المسلحة استقال عام 2001 وهو برتبة ضابط صف، والتحق مباشرة بوزارة الخارجية مستشارا سياسيا واقتصاديا، ومن ثم عُيّن رئيسا لإدارة مؤسسة التعاون والتنمية التابعة لرئاسة الوزراء، وفي الوقت نفسه مساعدا لمستشار لرئاسة الوزراء، ومن ثم عين مستشارا للمسؤول عن السياسة الخارجية والأمن الدولي، ومن ثم عمل موفدا خاصا لرئاسة الوزراء.
وفي تلك الفترة، كان يرافق مستشار رئاسة الوزراء للسياسة الخارجية أحمد داود أوغلو في رحلاته الإقليمية، كما كان يعمل عن قرب ويرافق نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية آنذاك عبد الله غل في رحلاته الخارجية، كما كان يشارك في كثير من الوفود التي ترافق أردوغان في زياراته لخارج تركيا، أو عند استقباله للضيوف الأجانب من رؤساء ومسؤولين.
وبعد أن اعتلى غل منصب رئاسة الجمهورية، كان فيدان من بين المرشحين لرئاسة السكرتارية في القصر، لكنه عين في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2008 لعضوية وكالة الطاقة الدولية. كما كان عضوا في منتدى التعاون والتنمية بين الشعوب التابع للأمم المتحدة، وعضو في هيئة إدارة جامعة أحمد يوسفس التركية في كازاخستان، وعضو في هيئة إدارة جمعية يونس أمري. عمل كثيرا من الأبحاث والدراسات في الأمن الدولي وفي التنمية الدولية والسياسة الخارجية التركية، كما قام بتدريس مادة العلاقات الدولية في جامعة حجة تبا وبلكنت.
ولم تكن الاستخبارات بعيدة عن طموحات فيدان، الذي كانت أطروحته لنيل الدكتوراه تحمل عنوان: «دراسة مقارَنة بين أنماط عمل أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية والتركية»، ومن ثم عين مساعد لمستشار المخابرات التركية.
وقبل تعيينه في 27/ 5/ 2010 مستشارا للمخابرات التركية، حصلت حادثة أظهرت النفوذ الذي يتمتع به فيدان. فقد استدعى قاضي التحقيق في قضية التنظيم السري لحزب العمال الكردستاني المحظور (بي كي كي) فيدان للتحقيق معه كمشتبه به مع أربعة من قيادات جهاز المخابرات، بعد الاشتباه في تقديمه الدعم للحزب الكردستاني المحظور، أو غض بصره عن معلومات مسبقة عن عمليات مسلحة وهجمات نفذها الحزب ضد رجال الأمن في تركيا، لكن حكومة أردوغان عمدت فورا إلى إرسال قانون يعطي الحصانة لرجال المخابرات من الإدلاء بأقوالهم أمام المحاكم الجنائية. وواجه القانون، الذي جرى إقراره خلال 48 ساعة فقط، انتقادا شديدا من المعارضة.
وفيدان هو المستشار الثاني الذي يعتلي ذلك المنصب من خارج المؤسسة الاستخباراتية، حيث كان تبتان جوسال هو المستشار الأول الذي عُيّن من خارج المؤسسة عام 1992. المعترض الأول على تعيينه كان «الموساد» الإسرائيلي؛ فحينها نشرت صحيفة «هآرتس» تقريرها عنه، ونقلت فيه مخاوف «الموساد» إزاء تعيينه، وذلك بسبب دوره في تنظيم «أسطول الحرية»، وبسبب قربه اللصيق من رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم («العدالة والتنمية»)، ولدفاعه عن المصالح النووية الإيرانية.
لكن أردوغان كان يريد (وفق الصحف التركية) من تعيين الرجل المقرب منه المزيد من تحديث «وكالة الاستخبارات الوطنية» ومأسستها، وإبعادها عن سطوة العسكر، بما أنه لا يزال 50 في المائة من موظفيها من سلك الجيش. فعمل فيدان على تقسيم الاستخبارات إلى جهازين، أحدهما للداخل، والآخر للخارج، على غرار مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية، لتعزيز حضور الاستخبارات التركية في المناطق الساخنة، ولتلبية حاجات دور تركيا المتنامي، بدءا من الشرق الأوسط وجيرانها الروس والقوقاز وآسيا وأفريقيا وحتى الأميركيتين وأوروبا وإسرائيل.
بعد دوره البارز في كثير من الملفات، تصاعدت أصوات في تركيا توحي بوجود «دور مستقبلي» لفيدان في السياسة التركية الداخلية، لكن بيردال يستبعد أن يكون الأمر عبارة عن «تلميع» لصورة فيدان لإعداده لمنصب رئيس الوزراء أو وزير الخارجية في المستقبل، كما تردد في بعض الأروقة التركية. ويقول: «المتابع للسياسة التركية يرى أن الأمور لا تسير بهذا الشكل؛ فأردوغان يحكم قبضة على الحزب بكل قوة، وفيدان هو فقط رجل من رجال طيب أردوغان الذين يعتمد عليهم ويثق بهم، والدليل على هذا أن استخرج من أجله قوانين تحميه من ملاحقة القضاء له»، معتبرا أن «ما يجري الآن في كواليس السياسة هو مستقبل أردوغان، وليس مستقبل فيدان».
وإذ يدحض أوصلو «نظريات المؤامرة»، التي تتحدث عن تحضير فيدان لدور سياسي قد يكون رئاسة الوزراء، يشير إلى أن فيدان نفسه قد يعمل من أجل هذا من تلقاء نفسه. ويربط أوصلو مصير فيدان بمصير مرحلة الحل مع الأكراد، مشيرا إلى أنه إذا «نجحت الحكومة في إنجاح مرحلة الحل، فإن جميع الإيجابيات ستُسجل في خانة فيدان، وسيقوم الجميع بتقديره، وإذا عمّ السلام في الجنوب التركي فإن فيدان من الأوفر حظا للترشيح لرئاسة الوزراء لأن نجاحاته ستكون هي الدافع له، ولكن إذا عاد حزب العمال الكردستاني لحمل السلاح، وفشلت مرحلة الحل، إلى جانب الفشل الذريع الذي نالته الحكومة في سوريا وعلاقة الحكومة مع مصر التي لا تبشر بالتفاؤل، وبما أن فيدان لعب دورها في الثلاثة محاور، فإن الفاتورة سيدفعها فيدان، أي هو الآن على كف عفريت».



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.