«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (8): مهرجانات العرب تلتقي في «كان»

في الأيام الثمانية الأولى من دورة مهرجان «كان» السبعين، التي انطلقت في السابع عشر وتتوقف في الثامن والعشرين، شهدت أروقة المهرجان، وداخل ما يعرف بـ«القرية العالمية»، ولادة مهرجانات عربية جديدة، أو إعادة ترتيب القديم منها لينطلق من جديد.
لا نقاش حول هذه المسألة: مهرجان «كان»، بصرف النظر عن مستوى أفلامه التي تعلو وتهبط مثل كرة متدحرجة، هو الجامع الأكبر للمهرجانات والمناسبات العربية التي تتوخى الاستفادة من وجودها في هذا الحدث الفرنسي لكي تروج لنفسها، أو تبدأ الانضمام إلى حقل متزايد العدد من المهرجانات الجديدة.
على أنه إذا ما تكاثرت المناسبات العربية كماً، واختلفت نوعاً، في حاضرة مهرجان «كان» السينمائي، فإن ما يبقى على حاله من عام إلى عام، هو الحضور القوي والمنظم لـ«مهرجان دبي السينمائي الدولي». مستوى الاحتفاء بالسينما لا يوازيه سوى مستوى الاحتفاء بصانعيها. التميز الذي ينجزه مهرجان دبي في كل مرّة يحط فيها رحاله في قرية «كان» العالمية، حيث يستقبل في مساحته المطلة على البحر وافدين جدداً وزبائن قدامى في آن، يجعله القلب النابض لكل الحضور العربي، والنافذة العريضة التي يمكن منها متابعة نشاطاته وفعالياته التي لا تتوقف.
في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، سيدخل مهرجان دبي عامه الرابع عشر، وسيوجه الأنظار العربية والعالمية صوبه لتسعة أيام تبدأ وتنتهي، كما هي العادة، بالتذكير بكم اختلف الوضع السينمائي في العالم العربي عما كان عليه قبل ذلك المهرجان وبعده. ومعظم هذا الاختلاف تم لأن مهرجان دبي، الذي أقيمت دورته الأولى سنة 2004، اجتاز الامتحان سريعاً، ونما بقوّة ليصبح المهرجان الأهم في الساحة العربية، وأحد أفضل عشرة مهرجانات في الساحة العالمية.
وليس هناك مكان أفضل للإعلان الإعلامي عن مهرجان ما مثل وجوده في مهرجان آخر. بالنسبة لمهرجان دبي، فإن مهرجان «كان» يوفر له فرصة تجديد اللقاء مع صانعي الأفلام العرب، لكن هذا ليس كل شيء. يقول رئيس المهرجان عبد الحميد جمعة لنا:
«الحقيقة أن وجودنا هنا ضروري جداً، ولصالح مهرجان دبي أساساً. وجودنا هنا اختصار للجهد والوقت الذي يتطلبه تحضير المهرجان. لدينا ستة أشهر قبل حلول الدورة المقبلة، لكن وبسبب حضورنا مهرجان كان نستطيع أن نوجز العمل الذي يتطلبه التحضير بنسبة كبيرة. الجميع هنا، وكل ما هو مطلوب هو التواصل معهم الآن، عوض أن ننتظر إلى وقت لاحق».
* نقطة ضوء
«كان» أيضاً، بالنسبة لعبد الحميد جمعة، مهم لأنه يقع في منتصف الطريق بين دورة دبي الأخيرة وتلك المقبلة:
«إنه نداء استيقاظ بأنه لم يعد هناك أي مهرب من العمل الجاد والمتواصل».
هذا لا يعني أن رئيس المهرجان ومديريه الفني (مسعود أمرالله) والإداري (شيفاني بانديا) لا يفعلون شيئاً يذكر ما بعد نهاية كل دورة حتى حلول مهرجان كان:
«نعمل على نحو متواصل. بعد كل دورة نقوم، خلال الأشهر الثلاثة الأولى، بمراجعة شاملة لما تحقق، وما لم يتحقق. نبحث فيما لو وقعت مشكلات معينة، وكيف نتجنبها. ندرس الإقبال وردود الأفعال، ونقوي ما نجحنا به، أو ما نريد تحقيقه، لكي نصل به إلى حيث نريده أن يكون».
من هذه المراجعة، يقول عبد الحميد جمعة إنه يتم وضع الاستراتيجية الجديدة، ما يجعل من المهم اعتبار «كان» نقطة بداية تنفيذ الاستراتيجية، أو الخطة الموضوعة.
لابد من ملاحظة أن المهرجان يدرس فعلياً كل الشكاوى التي تصله. بحسب ما خبره هذا الناقد عاماً بعد عام، يحرص عبد الحميد جمعة على تشجيع ضيوف المهرجان المختلفين على الإعراب عن آرائهم بالنسبة للدورة المنتهية.
وإذا كان أحد سبل النجاح هو الاطلاع على هذه الآراء باهتمام، فإن السبيل المهم الآخر هو تجاوز ما يوجهه البعض إلى المهرجان من عبارات ثناء، والبحث عمن يستطيع إضفاء نقطة ضوء على مسألة ربما كانت غائبة، أو لم يكتمل حدوثها على النحو المطلوب.
لكن إذا ما كان المراقب يعتقد أن مهرجان دبي هو بالفعل من بين أهم عشرة مهرجانات حول العالم، فإن ذلك لا يعني أن عبد الحميد جمعة سيوافقه على الفور:
«هناك خمسة مهرجانات هي الأولى دائماً، وهي كان وبرلين وفينيسيا وتورنتو وصندانس. المراكز الخمسة اللاحقة هي لمهرجانات تتغير مراتبها تبعاً لكل دورة على حدة. تجد مهرجاناً ما في المركز السابع في العام الماضي، وقد تجده تراجع إلى التاسع. بالنسبة لمهرجاننا، أحب أن أعتقد أننا في المركز الحادي عشر أو الثاني عشر. أريد أن أكون واقعياً في ذلك، ولو أن هذا بحد ذاته، وعلى اعتبار أن هناك نحو 4 آلاف مهرجان في العالم، هو أمر جيد».
خلال السنوات الخمس المقبلة، يؤكد الرئيس جمعة على إصراره على دخول العشرة الأولى فعلاً، لكنه سيسعد إذا أخبرته أن العناصر التي تمنح مهرجان ما أهميته، وبالتالي مكانته بين هذا العدد المتمادي من المهرجانات، متعددة، ومن أهمها التنظيم والإدارة، وأهمية حدوثه بالنسبة لمحيطه وعالمه، ثم تميّزه على صعيد ما يمنحه للسينمائيين من فرص ونشاطات. بذلك، وإذا حسبنا كل هذه العناصر التي وفرها مهرجان دبي منذ عشر سنوات، ودعمها منذ ذلك الحين، فإن دبي هو بالفعل أحد العشرة الأوائل، وربما أقرب إلى قائمة الخمسة الأولى أكثر مما يُعتقد.
* أفلام طوال السنة
من ناحية أخرى، خلق مهرجان دبي منذ إنشائه حالة وله كبيرة بين المهرجانات العربية. ما لم يكن له فائدة أساساً توارى، أو حصر نفسه في أدني حد ممكن. المهرجانات الأخرى التي سبقت دبي في ميلادها سعت للتغيير والتطور على الفور، وبعضها نجح، وبعضها الآخر قارب النجاح، لكنها جميعاً أفضل حالاً اليوم من أي وقت سابق.
ثم هناك المهرجانات التي أقيمت بعد إنشاء مهرجان دبي، مثل «أبوظبي» و«الدوحة»، وهذه لم تنطلق بقوة ونجاح لولا أن دبي كان يشكل المستوى الذي على المهرجان الجديد تجاوزه.
وعلى الرغم من صعوبة الإنشاء، ثم العمل على صنع المهرجانات، فإن كثيراً منها لا يزال يلد بمعدل مهرجان إلى مهرجانين في العام. ما رأي رئيس المهرجان بهذه الإضافات؟
«السؤال الذي يجب أن يطرح في هذا المجال ليس حول فكرة تأسيس مهرجان ما، بل مسألة البقاء. أعتقد أن العالم العربي يحتاج إلى مهرجانات ناجحة، وأن مهرجان عمّان الذي أعلن عنه قبل أيام هو إضافة ضرورية، ونحن نلاحظ كيف أن الأفلام الأردنية، مثل «ذيب» و«كابتن رائد» وسواهما، تحظى باهتمام عالمي جيد».
في هذا النطاق، فإن أهم ما قام به مهرجان دبي في الأعوام الأخيرة هو استحداث سوق الفيلم الذي يراه عبد الحميد جمعة، وهو يكبر سنة بعد سنة وباضطراد، وتنفيذ خطة تقتضي تحقيق وجود دائم لمهرجان دبي في كل أسبوع من أسابيع السنة.
في الأولى، أنجز المهرجان النواة الصحيحة لإنشاء كيان لسوق سينمائي متعدد الجوانب. ارتفع عدد الحضور وزاد الإلمام به، وبما يستطيع أن يوفره من تبادل أعمال وعقد صفقات.
في الثانية، يكمن السعي لإيصال الثقافة السينمائية لما بعد أيام المهرجان ذاتها عبر استئجار صالة سينمائية في أحد مراكز دبي التجارية الأكبر لعرض أفلام فنية متميّزة طوال العام. إنه مشروع DIFF 265 الذي تدعمه شركة VOX، في تجربة أكدت نجاحها سريعاً هذه المرّة، بعد محاولات لم يتم لها النجاح عمد إليها المهرجان قبل سنوات قليلة.
** آراء النقاد تتعدد لكنها لا تختلف حول أفلام الأسبوع الأول
* دورة قد لا يمكن اعتبارها استثنائية
* بحلول هذا اليوم، يكون قد بقي على «كان» أربعة أيام فقط ذات قدرة على إنقاذه، أو إثبات موقعه بين الدورات السبعين الماضية، كأحد أكثرها ضحالة في الأعمال المتميّزة.
نعم، تم عرض أكثر من ستين فيلماً داخل وخارج مسابقتيه، وبعض ما تم عرضه خارج المسابقة الرسمية التي سيعلن عن نتائجها في الثامن والعشرين من هذا الشهر، كان أكثر إثارة للاهتمام مما عرض داخلها.
تستمع إلى آراء النقاد المنتظرين فتح بوابة الدخول، وهو الانتظار الكفيل بدفن الحماس حتى من قبل أن ينطلق الفيلم، فإذا بغالبية ما تسمعه يردد النغمة ذاتها: «اعتقدت أننا سنكون أمام دورة استثنائية، لكن معظم ما شاهدته هنا لم يكن كذلك».
نك جيمس، رئيس تحرير مجلة «سايت أند ساوند» العريقة، قال صباح يوم أمس، وقبل أن يبدأ عرض فيلم صوفيا كوبولا الجديد «المنخدعات»: «لم أجد أفلاماً مميزة. معظمها كان اعتيادياً».
وافقه على ذلك الناقد البريطاني ديريك مالكولم بقوله: «لا شيء حتى الآن يجعلني أشعر بأن حضوري كان أمراً لا بد منه».
* أسئلة الاختيار
لكن الدورة كانت استثنائية، من حيث الأمن القوي المنتشر في كل مكان؛ إنه أهم استثناء. لقد جعلنا جميعاً نشعر بالأمان لأن آخر ما تريد ملاحظته أن هناك ثغرة ما يمكن لإرهابي أن يستغلها. على أن هذا الاستثناء ليس من صنع المهرجان، بل من صنع الظروف القاتمة التي تحيط بهذا العالم، وتجعل الحياة فيه أقل بهجة مما كانت عليه.
وكان يمكن للمهرجان، لو أحسن اختيار أفلامه هذه السنة (كما الحال في بعض سنوات الأمس القريب)، أن يساعدنا على تجاوز الحاضر صوب رحابة فنية يطلبها كل من يحضر مهرجاناً وحدثاً سينمائياً كهذا الحدث، بل خصوصاً هذا الحدث تحديداً.
بدءاً من فيلم الافتتاح «أشباح إسماعيل»، وصولاً إلى فيلم صباح الأمس «المنخدعات»، تناثرت الأفلام كسلسلة دومينو. صحيح أن بعضها وجد ترحاباً أعلى من بعضها الآخر، إلا أن هذا الترحاب كان الأقل حجماً.
طبعاً، لا يكشف المهرجان (ولا أي مهرجان آخر) عن الأفلام التي تمت شاهدتها لينتقي منها ما تم اختياره بالفعل. إذا كان عدد الأفلام التي استلمها «كان» هذه السنة وصل إلى 1930 (يعلو الرقم ويهبط قليلاً في كل مرة يتم تداوله)، ليختار منها نحو 60 فيلماً في العروض الرسمية، فإن التساؤل المحق هو كيف كانت حال الأفلام الأخرى؟
هل ما تم اختياره هو الأفضل؟ كيف يكون الأمر هكذا بوجود أعمال كثيرة متردية عرضت علينا، كما لو أنها ستحدث الفرق المنتظر، وتصفو فوق كل الاعتبارات، فإذا بها من بين المحاولات التي - في أفضل الحالات - تقدر كأفكار وأساليب عمل، وتفشل على كل صعيد آخر.
في هذا المنوال لدينا «المهيب» لميشيل أزافيتزوس، و«رودين» لجاك دوالون، و«120 ضربة في الدقيقة» لروبان كامبيلو، وهي ثلاثة أفلام فرنسية غمست بماء الثرثرة بصرياً وحوارياً، ولم تنتج ما سيبحث عنه رئيس لجنة التحكيم بدرو ألمادوفار، الذي كان قد ذكر في مؤتمره الصحافي أنه يسعى للبحث عن فيلم يوازي أعمال عمالقة الأمس.
هؤلاء العمالقة تحوّلوا إلى أسماء متداولة، كجزء من شريح النوستالجيا الذي إذا ما كانت له فاعلية ما، فهي في تذكيرنا بالاختلاف البعيد بين سينما الأمس وسينما اليوم، بين عمالقة عرضوا هنا أعمالهم النفيسة، مثل أنطونيوني وفيلليني وكوبولا (الأب) وكلوزو ويلماز غونيه وأندري فايدا وبوب فوسي، من بين عشرات الآخرين.
هل حقاً لم يكن من بين ما ردته لجنة الاختيار إلى أصحابها ما هو أفضل من بعض ما عرض؟ هل تعلو النظرة النقدية الصارمة التي من شأنها معاملة كل فيلم حسب موقع الفن فيه عوض عوامل الإنتاج المهيمنة؟ ثم - وبالمرّة - لماذا حشد كل هذا العدد الفرنسي من الأفلام طالما أن كل فيلم يتم إدخاله المسابقة الرئيسية سيحتل فرصة وجود فيلم آخر، ربما كان أفضل، لكنه لا ينعم بشركة توزيع فرنسية تتقدّم به؟