رحلتي مع الكتاب في مدارات السرد

عواد ناصر
عواد ناصر
TT
20

رحلتي مع الكتاب في مدارات السرد

عواد ناصر
عواد ناصر

لم يكن في ذلك البيت - الواقع في إحدى عشوائيات بغداد الطينية - حيث نشأت، أي كتاب من أي نوع.
سأكتفي هنا بمدارات السرد (الروائي حصرا) وليس الشعر في كتبي الأولى، لأنها كانت المنطلق لخياراتي اللاحقة، ولربما صارت الرواية أحد أهم مصادر قصيدتي.
شدّني، في مراهقة قراءتي آرثر كونان دويل البريطاني مبتكر شخصية المحقق العبقري شيرلوك هولمز وصاحبه واطسون، ومع دويل صاحبه موريس لبلان مبتكر شخصية اللص الظريف أرسين لوبين، حتى كدت أجهز على كل مؤلفاتهما، تقريبا، وأنا في غاية الزهو كأنني أتأبط «أعمدة الحكمة السبعة».
كنت أبحث في تلك الكتب عن المتعة المتولدة من التشويق والدهشة، لا أكثر ولا أقل.. حتى بدأت بكتاب عراقيين، مثل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، ومن أجيال لاحقة.
المنعطف الأول في مسيرة الكتب والكتاب كان عبر البوابة المصرية العريضة التي أدخلتني عالم نجيب محفوظ الساحر، وقتها، بعد أن دس بين يديّ أحد أصدقاء أخي الأكبر ثلاثية محفوظ الشهيرة، إضافة إلى إعمال أخرى لصاحب نوبل - لاحقا - على أن المجلات المصرية كانت الأثيرة عندي، أكثر من اللبنانية، خصوصا مجلات «الهلال» و«روزاليوسف» و«آخر ساعة»، لكن ما إن شببت عن الطوق قليلا (قرائيا) حتى استغرقتني مجلات، مصرية طبعا، أكثر نخبوية، مثل «الطليعة» و«الكاتب».
حل المنعطف الثاني في حياتي على أيدي كتّاب من نوع مختلف، وكانوا مصريين، أيضا، مثل سلامة موسى ويحيى حقي وزكي نجيب محمود ولطفي الخولي وعبد الرحمن بدوي، وهؤلاء فتحوا أمامي بوابة أكثر اتساعا لأتنفس هواء العالم عبر كتبهم حيثما تناولوا، أو أشاروا إلى سماء مفكرين وفلاسفة وأدباء أجانب، فضلا عما كان يصل لبغداد من روايات ونقود أجنبية مترجمة.
كل كتاب، حقا، هو مجموعة من الكتب، كما ذهب ورّاق عصرنا الأمهر خورخه لويس بورخيس.
المنعطف الثالث، وهو الأهم، وينبغي أن يكون كذلك، هو عندما بلغت سن الرشد وتوطدت علاقتي بأبناء عمومتي، وأصدقائهم، وهم أكبر سنا مني بكثير، لأنهم كانوا قرّاء جيدين لم يكتفوا بالتغيير الذي أحدثته الكتب في عقولهم وأذواقهم، بل صاروا حالمين كبارا بتغيير العالم، لتستغرقني الرواية العالمية، وهكذا بدأت بأعمال روائية روسية رائدة: فيودور دوستويفسكي (على رأس اللائحة) وليو تولستوي ونيكولاي غوغول، وأخيرا جنكيز إيتماتوف. حدث هذا في مرحلة الدراسة الثانوية. بينما كنت أنظر إلى الشعر بتردد، وقليل من الشعراء كان يستفزني، لكن محمد مهدي الجواهري كان يقف على الهضبة ويومئ لي من بعيد، لكنني لم أذهب بعد.
انتقلت، بعدها، إلى الضفة الأخرى من العالم؛ أوروبا الغربية وأميركا، في رحلة مضطربة، وشاقة، لكنها أخاذة، لأن الإبداع، كما بدا لي وقتها، يأخذ بأردان بعضه بعضا، والمبدعون يتحاورون مع زملائهم عبر طرفي الأرض، فتجاور في مكتبتي الصغيرة الويليامان؛ شكسبير وفوكنر، وأرسكين كالدويل وجون شتاينبك وأنطون دي سانت أكزوبري جان بول سارتر وفرنسوا ساغان (كتاب وحيد) ود. هـ. لورانس وفرجينيا وولف والعشرات غيرهم، لـ«أعرّج»، نهاية سبعينات القرن الماضي، على القارة اللاتينية، بعد أن جرّني من ياقتي أشهر كتّابها؛ غابرييل غارسيا ماركيز.
وبدلا من أن يصبح الفتى قارئ الروايات روائيا، كما تقتضي منظومة القراءة هذه، فإنه صار شاعرا، منذ بداية السبعينات، بعد أن دخل سحرة الشعر وعرّافوه عبر حواسه السبع في مفارقة عجيبة، وأولهم محمد مهدي الجواهري الذي استجبت لندائه وهو يومئ لي من فوق الهضبة، وكأنه كان يغار من روائيي العالم؛ ما لك وهؤلاء الثرثارين؟ تعال معنا! فذهبت.

* شاعر عراقي من مجموعاته: «من أجل الفرح أعلن كآبتي».. «هنا الوردة فلترقص هنا» و«أحاديث المارة - مختارات شعرية»



مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي
TT
20

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدر كتاب «الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني» للفيلسوف وعالم النفس والتربية الأميركي جون ديوي، الذي عاش في الفترة من 1859 حتى 1952، ويعد بمثابة مؤسس الفلسفة البراغماتية التي تنظر لقيمة الأفكار والأشياء من منظور فائدتها العملية على أرض الواقع.

ترجم الكتاب الدكتور محمد لبيب النجيحي الذي يشير في المقدمة إلى أن ديوي ولد بمدينة فيرمونت والتحق بجامعتها في الخامسة عشرة من عمره، بسبب نبوغه المبكر إلى حد العبقرية. وبعد تخرجه عام 1879 نشر أول بحث له في الفلسفة بإحدى المجلات العلمية، وقوبل هذا البحث بالثناء، مما شجعه على احتراف هذا المجال. وفي عام 1884 منحته جامعة «جونز هوبكنز» درجة الدكتوراه في الفلسفة وهو بسن 25 عاماً فقط، وأُلحق بقسم الفلسفة بجامعة ميشيغان.

وفي عام 1894 انتقل ديوي إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسست آنذاك، وعُيِّن فيها رئيساً لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية؛ حيث قام بثورته التربوية المسماة «التربية التقدمية». وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شؤون الجامعة لم يُقرُّوا هذه التجارب، فاضطُّر إلى الاستقالة في عام 1904، منتقلاً إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا؛ حيث بقي بها حتى سن التقاعد في عام 1930.

وقد ظل ديوي يبدي نشاطاً في «اتحاد المعلمين» بنيويورك، إلى أن استطاع اليساريون أن يستحوذوا على السلطة فيه، ما جعله ينتقل إلى الاتحاد البديل الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين، وأسهم في تنظيمه، وكان أيضاً من مؤسسي «اتحاد الحريات المدنية للأميركيين»، وجمعية «أساتذة الجامعات الأميركيين».

وتكمن أهمية كتاب «الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني» في أنه يعد بمنزلة ثورة شاملة في فهم العلاقة بين علوم النفس والتربية من ناحية، وبين الفلسفة من ناحية أخرى؛ حيث يرى المؤلف أن تفسيرنا للسلوك الإنساني تفسيراً سليماً يتوقف على فهمنا للطبيعة الإنسانية، وللعوامل الاجتماعية المختلفة التي تشترك معها في تكوين هذا السلوك. كما يقضي الكتاب على أوجه التناقض والصراع المختلفة بين النظريات القديمة في هذا السياق، من حيث نظرتها للسلوك الإنساني، كما يبشر بعلم نفس تربوي اجتماعي يحرر الفرد من القيود والضغوط والكبت والحرمان، مستغلاً ذكاءه وتفكيره، متغلغلاً في ميادين متنوعة من العلاقات الإنسانية المعقدة.

وترتكز رؤية ديوي على أهمية البيئة المحيطة بالفرد، ودورها الحاسم في تشكيل نوعية سلوكه، فالعادات السلوكية للإنسان تحتاج إلى تعاون بين الكائن الحي وبيئته، فلا نستطيع أن نتصور تكوين عادة من العادات دون أن يكون هناك فرد إنساني من ناحية، وبيئة محيطة من ناحية أخرى. ولعل الفصل بين هذين القطبين أدى إلى فكرة خاطئة في الميدان الأخلاقي، تتمثل في أن المفاهيم الأخلاقية تختص بها الذات دون غيرها، وبذلك تُعزل الذات عن بيئتها الطبيعية والاجتماعية، وتُعزل الشخصية عن السلوك، وتُفصل الدوافع عن الأفعال الحقيقية.

ويؤكد جون أن الفضائل والرذائل ليست من الممتلكات الذاتية للفرد، ولكنها أنواع من «التكيف الواقعي» لقدراته مع القوى البيئية المحيطة به.

وهنا يطرح المؤلف عدة تساؤلات حاسمة، منها: هل يمكن أن تُعزَل الذات عن بيئتها الطبيعية والاجتماعية؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن يوجد ما يمكن أن نسميه الحياد الأخلاقي؟ هل نستطيع مقاومة الشر عن طريق إهماله وعدم الاهتمام به؟ هل يستطيع الفرد أن يبقي على ضميره نقياً طاهراً بأن يقف بعيداً عن الشر؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تأتي كلها بالنفي، فالحياد الأخلاقي لا وجود له، ومقاومة الشر عن طريق إهماله هي في حقيقة الأمر طريقة غير مباشرة من طرق الترويج له.