القصيدة الشعبية... الشعر ومأزق التصنيف

الثقافة العربية لم تعرف وجود لغتين مختلفتين

صلاح جاهين  -  الحميدي الثقفي  -  جوزيف حرب
صلاح جاهين - الحميدي الثقفي - جوزيف حرب
TT

القصيدة الشعبية... الشعر ومأزق التصنيف

صلاح جاهين  -  الحميدي الثقفي  -  جوزيف حرب
صلاح جاهين - الحميدي الثقفي - جوزيف حرب

في السعودية ودول الخليج، هناك شعر شعبي وشعر نبطي. وفي بلاد عربية أخرى، هناك شعر عامي وشعر حميني وزجل، إلى جانب أسماء وتصنيفات أخرى. ومدار هذه الأسماء والتصنيفات هو أحد اثنين: اللغة التي كتبت بها القصيدة، أو الخلفية الاجتماعية التي تنتمي إليها. وهناك خلاف ومعارك حول أي تلك التصنيفات أو الأسماء هو الصحيح. أما الضائع المنسي في ذلك الخضم، فهو في الغالب الشعر نفسه: تضيع أدبية الكلام، جمالياته، سماته الفنية، في خضم الانشغال بصحة أو عدم صحة هذا الاسم أو ذاك.
طبعاً هناك من لا يعنيه ذلك كله، وهم السواد الأعظم، إما لأنه يؤمن بصحة اسم أو تصنيف معين، أو لأن المسألة برمتها لا تعني له شيئاً. وإن كان أحد سيجادل في أهمية الموضوع، فهم كالعادة الدارسون، وأحياناً الشعراء الذين يعنيهم التصنيف لأنه تصنيف لهم، يمسهم. والدارسون يهمهم التصنيف لأنه جزء من المعرفة العلمية أو النقدية التي لا مناص من مواجهتها، مثلما أنه لا مناص لعالم الأحياء من تصنيف الكائنات، أو عالم الاجتماع من تصنيف المجتمعات والجماعات. والدارسون أيضاً، نتيجة لهمهم التصنيفي التقعيدي، لا يولون أدبية النصوص أو جمالياتها اهتماماً كبيراً، مثلما أن أهل الأحياء لا يهمهم من الأسماك لونها وشكلها إلا من حيث أنها تساعد على تصنيفها، لا على تذوق تناسقها والاستمتاع بجمالها.
الموقف الذي يتفق عليه الجميع - فيما أظن - هو أن الشعر المشار إليه ليس فصيحاً، أي أن مفرداته وعباراته لا تنسجم مع قواعد النحو العربي، أي أنه ملحون. ولأن اللحن، أو الخروج على قواعد النحو، وجد منذ استنبطت تلك القواعد نتيجة لتعدد اللهجات أصلاً، وخروج بعضها على ما استنبط من قواعد نحوية، كان من الطبيعي أن يوجد أحد يعبر باللغة أو اللهجة التي تعلمها ويفهمها ويتذوقها من حوله. وكان من المتوقع أن يؤدي ذلك الوضع إلى الموقف الآخر شبه المتفق عليه: الحد من، أو محاربة، ذلك اللون من التعبير، مما أدى إلى النتيجة الطبيعية المتمثلة في صعوبة العثور على نماذج من ذلك التعبير الخارج على القواعد. وليس من تفسير لذلكما الموقفين، في تقديري، إلا أنهما جاءا نتيجة الهيمنة التي فرضها العقل النخبوي الساعي إلى حفظ التراث المدون بالفصحى، وذلك بمنع الإخلال بقواعد النحو، ومحاربته حيث وجد، وكذلك محاربة كل المظاهر التعبيرية التي يفرزها.
كان هناك دائماً خطاب «فصيح» يرفض الخروج على أسسه سعياً لما فيه مصلحة ثقافية عليا ترى أنه إن أمكن التساهل مع لحن الناس في حديثهم اليومي، أي عدم انضباط اللهجات بقواعد الفصحى، فإنه من الواجب عدم التساهل مع تحول ذلك اللحن إلى أدب يتداوله الناس، فينافس أدب الفصحى، ثم يحل محلها تدريجياً. ولا شك أن هذه الحساسية تجاه الأدب غير الفصيح تعلو وتنخفض باختلاف المناطق والبيئات الاجتماعية والثقافية، لكن ثمة اتفاقاً شبه جماعي على تشجيع التخلص من العاميات، وما ينتج عنها من تعبير، على الرغم من أن كل الراغبين في ذلك التخلص لا يستطيعون تخليص ألسنتهم من العامية.
هذه الازدواجية بين فصيح وعامي، أو رسمي وشعبي، عرفته الثقافات الأخرى، وأشهر أمثلتها الثقافات الأوروبية التي عرفت الخروج على اللاتينية في العصور الوسطى، في نماذج مبكرة آذنت أو بينت ظهور معظم اللغات الأوروبية بشكلها الحالي. ولعل المثال الأشهر بين تلك النماذج «الكوميديا الإلهية» لدانتي، التي كتبت في إيطاليا أوائل القرن الرابع عشر الميلادي باللغة التوسكانية، أي لغة إقليم توسكاني، التي تحولت فيما بعد إلى اللغة الإيطالية المعروفة. لم يرَ شاعر إيطاليا الكبير أن يدون ملحمته حول العالم الأخروي باللاتينية (لغة النخبة) لأنه أراد أن يقرأها أو يتلقاها عامة الناس الذين لم يكن كثير منهم يعرفون اللاتينية في عصر سادت فيه الأمية.
غير أن ذلك الوضع لا ينسحب على ثقافات أخرى كثيرة، ومنها الثقافة العربية التي لم تعرف وجود لغتين مختلفتين كاللاتينية من ناحية ولغات محلية من ناحية أخرى، وليس من المتوقع أن يتطور فيها أمر لغة أو لهجة محلية لتكون هي السائدة، على الأقل ليس في المستقبل المنظور. إن الثقل الذي يمثله القرآن الكريم وحده كفيل بإبقاء الفصحى وأدبها في مكانة لا يدانيها فيه أحد، فإذا أضفنا الموروث الثقافي العربي الإسلامي بأكمله، الديني منه والعلمي والفكري والأدبي، لم يبد لنا أن لهجة من اللهجات، أو شعراً بإحدى تلك اللهجات، يتهدد الفصحى. أما إذا أضفنا عاملاً آخر، هو انتشار التعليم، واتخاذه الفصحى أداته اللغوية الرئيسة، فسنتبين أننا أمام وضع له انعكاساته على التعبير باللهجات المحلية، ومنه الشعر الشعبي، أو بالعامية. ويتمثل ذلك الوضع في تضاؤل الفجوة بين الفصيح والعامي، ونشوء ما يمكن وصفه بالعاميات المثقفة المتأثرة بالفصيح من التراكيب والألفاظ، إلى حد وصفها باللغة البيضاء؛ اللغة التي يكتب بها اليوم بعض شعر العامية.
هذه اللغة البيضاء، التي نجد بعضها في شعر الأغاني، يتمثل مجملها، بل وفي أفضل نماذجها، في القصيدة الشعبية الحديثة التي لا تمثل الشعر العامي أو الشعبي بأكمله. نحن هنا أمام لغة شعراء مثقفين، تتخلل الفصحى مفرداتهم وتراكيبهم، ويعلو فيها مد المخيلة المستمدة صورها من معرفة لا تتوفر لغالبية الناس. من أمثلة ذلك قصيدة للشاعر السعودي الحميدي الثقفي يوظف فيها مالك بن الريب، صاحب قصيدة الاعتراف الشهيرة «ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة»، التي يقال إنه رثى نفسه فيها. لكن الثقفي يحول الشاعر والفارس العربي القديم إلى قناع له هو ولكل شاعر ومثقف في مثل مأزقه:
يا مالك ابن الريب.. يا ريب مالك
لا تعترف لأحدٍ.. ولا يعترف لك
صمتك ضجيج.. وضجتكْ صمتْ حالك
صاح السكون أبمن تكون وهتف لك
من بعت شمسك واشتريت بضلالك
في صفحة الماء نجمة ترتجفْ لك
هذا أنتْ في قاع المدينة لحالك
مالك بها ممشى ولا ينْوقف لك...
هنا يصبح مفهوما العامية والشعبية ملتبسين، أو بلا معنى، ويتضح أن كلا التصنيفين أقرب إلى طبقية القيم التي ترى أن ما كتب بلهجة غير فصيحة أقل بالضرورة، إما بعاميته، أي انتمائه للعامة، أو بشعبيته التي تعني أنه ساذج أو شعبوي الذائقة والتفكير، وهذا كله غير صحيح بالطبع، وإنما الصحيح هو أننا في نهاية الأمر أمام شعر في المقام الأول، بل وشعر مرهف وعميق أحياناً، الأمر الذي يصدق على قدر لا بأس به مما يكتب من شعر اللهجات العامية، وتكون مشكلته الوحيدة أنه جاء بالعامية. رباعيات صلاح جاهين، بالعامية المصرية، وقصائد جوزيف حرب، بالمحكي اللبناني، مثلاً، وغير ذلك مما كتب في بلاد عربية أخرى، ليس ذلك كله أقل شعرية وقيمة إبداعية عن شعر جاء بالفصحى (وأذكر مثلاً الرثاء الجميل الذي كتبه محمود درويش ذات يوم لصلاح جاهين في مجلة «اليوم السابع»، والذي تعرفت من خلاله على قيمة جاهين الشعرية). ولا شك أنه ليس من الصعب تبين مدى القرب بين كثير من نصوص ذلك الشعر وما يكتب بالفصحى عند التأمل في تراكيب ومفردات النص المقتبس للثقفي هنا. أما العمق، فليست اللغة أو اللهجة شرطاً لتحقيقه، كما يتبين من إلقاء نظرة سريعة على كثير من الغثاء الفصيح.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.