المثقفون السوريون يخشون مصيرا مثل الفلسطينيين ويرفضون استغلالهم في الـ«بروباغندا»

نصفهم في بيروت.. محطة الانطلاق الثقافي المشترك

الإبداع والنزوح
الإبداع والنزوح
TT

المثقفون السوريون يخشون مصيرا مثل الفلسطينيين ويرفضون استغلالهم في الـ«بروباغندا»

الإبداع والنزوح
الإبداع والنزوح

يخشى المبدعون السوريون أن يصيبهم ما نال الثقافة الفلسطينية، بعد أن تشتتوا في البلاد، وتبعثروا في الأصقاع. يسألون اليوم عن مدنهم وآثارهم وأسواقهم القديمة التي دمرت. لم يجدوا في إسطنبول ضالتهم، ولا في القاهرة ملاذهم، يتمركز أكثر من نصفهم في بيروت، ويقيمون ما يشبه «بلاتفورم» مشتركا مع زملائهم اللبنانيين، ويتحدثون عن مختبر تفاعلي يتشكل وفق ثقافة جديدة، تنمو في الظل. هنا تحقيق من بيروت والقاهرة ودمشق، يلقي الضوء.
في مبادرة هي الأكبر من نوعها، منذ بدء الثورة، باتجاه المبدعين السوريين الذين خرجوا من بلادهم، أطلق «المجلس الثقافي البريطاني»، مؤخرا، برنامجا يحمل اسم «منح الفنانين السوريين»، يمول مشاريع ثقافية من كل الميادين بدءا من مبلغ ألف جنيه إسترليني للمشروع وحتى ثلاثة آلاف، تبعا لما تحدده اللجنة المشرفة. ومن أصل 220 طلبا تم تقديمها - بحسب ما تقوله المسؤولة الإقليمية في المجلس ألما سالم - كان 150 منها من لبنان، أي أكثر من النصف. وتمت الموافقة على تمويل 75 مشروعا إبداعيا يعيش أصحابها في 15 بلدا مختلفا. لكن اللافت أن 43 شخصا من الذين تم اختيارهم هم من المقيمين حاليا في لبنان. وهو ما يعطي فكرة عن عدد المبدعين السوريين الذين لجأوا إلى لبنان، نسبة إلى الباقين الذين توزعوا في بلدان أخرى. وهو ما يجعل بيروت مختبرا رئيسا، غير معلن، لتفاعل ثقافة الشتات السورية بعد الثورة.
في البدء، عواصم ثلاث كانت مؤهلة للعب هذا الدور. إسطنبول التي تحولت إلى مقر لغالبية المعارضة السياسية لم يجد فيها المبدعون مستقرا مناسبا نظرا لاختلاف اللغة وصعوبة الاندماج، أما القاهرة فمع تصاعد أعمال العنف السياسي، كما تشرح الشاعرة رشا عمران المقيمة هناك «لم يبق من المثقفين السوريين سوى قلة قليلة، وصار نشاطهم كمجموعة معدوما». ومع أن عمران تشيد بالترحاب الذي تجده في مصر وبالعلاقة الممتازة مع المثقفين المصريين، والأعمال السينمائية والدرامية المشتركة «فإن الكتّاب لم يعد يوجد منهم إلا قلة قليلة جدا، وحتى من كان منهم يعيش في مصر، قبل الثورة غادرها الآن».
أما بيروت، فبسبب القرب الجغرافي، والعلاقات التي سبقت الثورة «تحولت إلى (بلاتفورم) ثقافي مشترك»، يقول المسرحي السوري عبد الله الكفري، الذي كان له دور كبير مع «مسرح شمس» في إقامة عدد من الأنشطة الثقافية السورية، بينها «مهرجان منمنمات» حيث خصص شهرا كاملا لسوريا.
إلى بيروت جاء أكاديميون، مفكرون، شعراء، سينمائيون، رسامون، راقصون «البعض انخرط في مؤسسات لبنانية وعمل بصفته المهنية» يشرح الكفري، ويضيف «وهذا ما يسمح به بلد مثل لبنان، حيث يستقبل المبدعين لمواهبهم بصرف النظر عن جنسياتهم. لكن البعض الآخر للأسف توقفوا عن العمل، لأنهم بحاجة للبحث عن مداخيل مالية، وهناك من يعتبرون أن الوقت غير ملائم للإبداع، وأنهم بحاجة لمزيد من الزمن وتخمير التجربة»، لافتا إلى أن «المثقفين السوريين اصطدموا في لبنان بصعوبات عديدة، أهمها أنهم كانوا في بلادهم مدعومين من الدولة، وتتوافر لهم البنى التحتية الأساسية، فيما كل الأنشطة في لبنان تحتاج إلى مبادرات شخصية وجهد ذاتي، وهذا مفيد أحيانا».
وجد بعض السوريين، في بيروت، أماكن لهم في المسارح والغاليريهات التشكيلية، وفي التعليم الجامعي الخاص والصحافة والترجمة، وإحدى التجارب الناجحة هي عمل فرقة «سيما» للرقص في مسرح بابل، ثم افتتاحها معهدها الخاص.
يجمع الذين تحدثنا معهم على أن الثقافة والفنون لم تكن أولوية بالنسبة للهيئات الدولية، في وجود حاجات صحية وغذائية متنامية كان يتوجب تأمينها للاجئين الذين يتدفقون بمعدل لاجئ كل دقيقة إلى لبنان، بحسب تقرير للأمم المتحدة. «منذ بدء الثورة، كان هناك تساؤل عن الأولويات، وجدوى تمويل الثقافة حين تكون الحاجة ملحة لتأمين المأكل وعلاج الجرحى. لكن مع الوقت استطعنا أن نشرح أن ما يحدث في سوريا هو بالدرجة الأولى معركة حرية رأي، قبل أي شيء آخر، وحاجة كبرى للخيال والإبداع»، تشرح ناشطة سورية ترفض الكشف عن اسمها. وتضيف «كان همنا تأسيس شتات مدني. ما حدث في فلسطين لا يزال ماثلا في أذهاننا. لم تتدمر فلسطين وحدها، وإنما حركتها الثقافية: غاليريهات القدس، وإذاعة القدس، وتفتيت النخبة. أشعر بالرعب على النخبة السورية». وتشدد الناشطة، كما عبد الله الكفري، على ضرورة تحييد الثقافي عن السياسي، مضيفة «أكثر ما آذى الثورة السورية هي البروباغندا. نحن بحاجة لمن يحترم الأعمال، وحرية الفنانين، وعدم تحويل نتاجاتهم إلى أبواق إعلامية لخدمة أي غرض سياسي مهما كان. عانت الثورة السورية من تسييس كل شيء، وعلينا أن نتخلص من هذه الآفة، لأنها شوهت صورتنا. هناك في شرعة حقوق الإنسان بنود نعمل وفقها تضمن للفنانين حرية التعبير، وليس لأي ممول أن يفرض على أي فنان ما ينطق به محتوى عمله».
لا يخفي المثقفون السوريون الذين تحدثنا معهم أن ثمة التباسا في أذهان الناس، في ما يخص الثورة السورية. هناك حذر وشيء من الضبابية أمام الفوضى القائمة في الداخل أدى إلى تشويش رؤية الرأي العام عموما، وهذا ينطبق على العرب وغيرهم.
ليست الثقافة السورية بعد ثلاث سنوات من بدء الثورة أقل تشظيا وتشتتا من الوضعين السياسي والاجتماعي.
رشا عمران، كما أدباء غيرها، تعتقد أن «المثقفين السوريين وقع عليهم ما أصاب غيرهم من السوريين، ربما أنهم منحوا تسهيلات في دول لجأوا إليها عربية وأوروبية أكثر من غيرهم، ودعموا من قبل منظمات المجتمع المدني الغربية».
وتضيف عمران «لكن خشيتي على الثقافة السورية هي خشيتي على سوريا كلها. القادم سيكون أشد سوءا ضمن المعطيات الحالية. لن يكون ثمة دور أو وجود لأي حالة ثقافية ولا أي حالة مدنية أصلا. صوت العنف ورائحة الدم وصراخ التطرف أوضح من حضور العقل والاعتدال والمدنية، إذ تنهزم الحياة بكل تجلياتها والثقافة أحد تجلياتها».
الناشطة السورية التي رفضت ذكر اسمها لها مخاوف من نوع آخر.. تقول «الثقافة هي ذاكرة أيضا وتراث. أسواق قديمة دمرت، آثار سرقت، مدن باتت على الأرض. دمار حلب القديمة كارثة علينا. كثير من المعالم السورية لم يبق منها إلا بعض الصور.
حين نتحدث عن الثقافة فهذا يعني تشعبات عدة، منها جمع الشمل السوري في الشتات من خلال بناء حوار وكسر الحواجز»، شارحة أن الفنانين السوريين يقيمون ورش رسم في مخيمات النزوح، كما أن هناك مسرحيين يتنقلون في المناطق اللبنانية لإقامة عروض في أماكن وجود النازحين».
هذا التشظي الثقافي والإنساني لم يسلم منه أولئك الذين قرروا البقاء في سوريا. د.مية الرحبي، أديبة وناشطة، أسست خلال الثورة دار نشر في دمشق، تحمل اسم «دار الرحبة». إصرارها على البقاء والإنتاج يبدو غريبا، خاصة حين تشرح لك أن الحركة الثقافية في دمشق تشهد ركودا غير مسبوق، باستثناء دار الأوبرا التي تحاول الاستمرار في عروضها، وأن بيع الكتاب وتوزيعها ليس أفضل حالا. الدكتورة الرحبي تخبرنا بأن دور النشر «تعاني أولا من قلة إنتاج المفكرين، فمن بقي منهم في البلد مشكلته عدم قدرته على التركيز والكتابة، ومن في الخارج يفضلون بالطبع التعاقد مع دور نشر وتوزيع خارج سوريا. كما نعاني أيضا من فقدان المواد الأولية كالورق لفترات طويلة، وأغلب المطابع التي كان مقرها ضواحي دمشق لم يعد بالإمكان الوصول إليها، مما يخلق صعوبات جمة في طباعة الكتب، لذا توقفت أغلب دور النشر عن طباعة الكتاب داخل سوريا ولجأ بعضهم إلى بيروت لإتمام عمليات الطباعة». السوق الداخلية للكتاب - بحسب ما توضح الرحبي «لم تعد واردة في حساباتنا، ويبقى التوزيع الخارجي عبر بيروت والمعارض في الدول العربية هو المنفذ الوحيد للتوزيع. نحن مستمرون بحكم إصرارنا على الاستمرار، لكن الصعوبات جمة».
المشاكل متشعبة، لذلك يسأل المسرحي عبد الكفري «عن أي ثقافة نتحدث وآلاف الأطفال السوريين محرومون من التعليم منذ ثلاث سنوات، ولا نعرف كم سنة أخرى سيبقون كذلك. نحن نتحدث عن جيل كامل تكتب له الأمية، وسيكون من العسير إنقاذه». ويقلق آخرون من تقاعس الهيئات الدولية عن تمويل كل ما هو ثقافي، فرغم أن مؤسسة «هنريش» قدمت بعض الدعم، وكذلك فتح الصندوق العربي المعروف بـ«آفاق» بابا سريعا «إكسبريس» لدعم السوريين، وكان لمؤسسة «الأمير كلاوس» الهولندية مساهمتها، فإن كل ذلك يبقى محدودا جدا، وتظلل العلاقة مع السوريين غمامة سياسية، يعتبرها من تحدثنا إليهم أسوأ المشكلات مطالبين بحريتهم في التعبير، بعيدا عن الأحكام السياسية والحسابات الخانقة.
من الظواهر التي لا بد من الإشارة إليها العالم الافتراضي الثقافي السوري الذي تشكل، وأفلام اليوتيوب التي أطلقت.
وهنا تتحسر الناشطة السورية، على «ذيوع أشرطة القتل والذبح وأكل الأكباد، فيما مئات الأشرطة الفنية التي نشرت، وتمتعت بمستوى عال لم تلق رواجا».
وتذكر الناشطة بالفيلم الوثائقي المؤثر «العودة إلى حمص» من إخراج طلال ديركي، الذي عرض في مهرجانات غربية عدة وحصد جوائز، ومع ذلك لم يسلط الضوء عليه، لأن الرغبة هي في تقديم سوريا مجرد «صندوق أسود»، بحسب تعبير عبد الله الكفري.
في بيروت يجتمع مثقفون سوريون في المقاهي، والمسارح، على أن اختلاطهم المستمر مع اللبنانيين يخلق ما تراه الناشطة السورية «ثورة ثقافية جديدة، وتفكيرا جديدا، ورؤى مختلفة عن تلك التي نسمع عنها في نشرات الأخبار».
هناك أبحاث تجرى من قبل مؤسسات غربية على هذه التفاعلات. يخبرنا أحدهم «ثمة ما يتشكل في الظل، بمنأى عن كل الجعجعة الإعلامية الموظفة سياسيا، وهذا ما يبعث فينا الأمل، ونريده أن يثمر قمحا».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!