سفاح الأشجار «يقتل» البلوط في جنوب ألمانيا

جريمة قد تبدو غريبة بالنسبة لأغلب الناس

سفاح الأشجار «يقتل» البلوط في جنوب ألمانيا
TT

سفاح الأشجار «يقتل» البلوط في جنوب ألمانيا

سفاح الأشجار «يقتل» البلوط في جنوب ألمانيا

قام شخص ما بعمل سبعة ثقوب في الشجرة التي تقع في سلسلة جبال تاونوس في غرب ألمانيا، ثم ملأها بالسم.وكانت أول شجرة تسقط ضحية هي شجرة بلوط طويلة رائعة.
ويقول مايكل بيكر، المسؤول البيئي المحلي في قرية هونفيلدن بولاية هيسن: «نعتقد أنه كان (جليفوسات) وهو (مبيد أعشاب ضار)». ماتت الشجرة، ثم قام السكان بزرع المزيد من أشجار البلوط ووجهوا الاتهامات ضد شخص مجهول، إلا أن سفاح الأشجار في تاونوس ظهر من جديد، ولكنه استهدف في هذه المرة الأشجار الجديدة. إنها جريمة قد تبدو غريبة بالنسبة لأغلب الناس، إلا أنها صارت أمرا شائعا جدا بالنسبة ليواخيم شنابيل.
ويقوم المجلس الإقليمي لمدينة كاسل القريبة - والواقعة شمالي هيسن - باستدعاء خبير النباتات عندما تمرض الأشجار والأسيجة النباتية والشجيرات، أو تموت من دون سبب واضح.
ويقول شنابيل، الذي بدأ العمل في وظيفته قبل عشر سنوات: «لقد شهدت السنوات الأربع أو الخمس الماضية، ارتفاعا في حالات قتل الأشجار في هيسن».
ويقوم أفراد الشرطة أو رجال النيابة العامة بتفويض شنابيل لما يصل إلى 15 مرة في العام، ليقوم بتحليل حالات يحدث فيها تسمم للأشجار.
وهو يقول: «إن العدد الفعلي لحالات قتل الأشجار هو بالتأكيد أكبر بكثير».
من ناحية أخرى، تقول عمدة هونفيلدن، سيلفيا شو - منتسر: «لا يمكنني أن أفهم كيف يمكن لشخص أن يصل إلى هذا الحد».
وتتساءل أنه قد يكون شخصا لا يحب أوراق الشجر. ولكن في الواقع إن ما يدفع القاتل لارتكاب ذلك هو أمر محير. وتقول: «إننا - على الأرجح - لن نعرف أبدا ما حدث هنا».
وفي مكان ليس ببعيد عن المكان الذي كانت تقف فيه شجرة البلوط الشامخة من قبل، هلكت أيضاً شجرة زان نحاسية اللون. ومنذ ذلك الحين، تم زراعة شجرة من الدلبيات في مكانها، حيث يتم الآن مراقبة ميدان القرية الصغيرة بواسطة دائرة تلفزيونية مغلقة (سي سي تي في).
وتقول شو - منتسر، التي تقدر حجم الخسائر بأكثر من 10 آلاف يورو (10 آلاف و600 دولار): «على الأقل، قد نعمنا ببعض السلم منذ ذلك الحين».
وبحسب شنابيل، فهناك طرق كثيرة ومختلفة لقتل الأشجار. مثلما فعله سفاح الأشجار الذي استهدف هونفيلدن، يمكنك عمل ثقوب في جذع الشجرة وتملؤها بالسم، الذي انتشر فيما بعد في أنحاء الشجرة.
ويضيف شنابيل: «يمكن لشجرة كبيرة أن تموت في غضون ما يتراوح بين أربعة إلى ستة أسابيع بهذه الطريقة». أو يمكنك صب ملح الطعام أو الملح الصخري على التربة حول الشجرة.
ويقول: «إنه عمل شرير حقا... فمن المؤكد أن الأشجار سوف تجف من الداخل». وعلى شبكة الإنترنت، هناك الكثير من الصفحات الإلكترونية، التي يستغلها كارهو الأشجار لإسداء النصائح لبعضهم البعض. ومعظمهم من الأشخاص الذين لديهم مشكلات مع جيرانهم، إلا أن إدارة حماية النباتات في هيسن على علم بهم، إلا أنها تقول إنه ليس هناك الكثير الذي بوسعها القيام به حيالهم.
وكان لدى امرأة تدعى ماريان رول، شجرة زان مزروعة في قطعة أرض خاصة، ليست بعيدة عن الضحية الأولى التي ماتت في هونفيلدن، تم ثقبها وتسميمها. أما بالنسبة لابنها، فرانك رول، فقد كان الأمر يصعب تحمله. فقد كانت الشجرة ذكرى حية من والده الراحل، حيث كان قد زرعها قبل 60 عاما عند ميلاد ابنه.
وقد عرضت الأسرة مكافأة قدرها ألف يورو لمن يدلي بمعلومات عن مرتكب الواقعة.
كما قامت الشرطة وممثلو الادعاء بالتحقيق بشأن الحالات التي وقعت في هونفيلدن، ولكن لم تكلل تلك التحقيقات بالنجاح - ما الذي يدفع شخص لقتل شجرة عمدا؟ لكن هانس - أوتو ثوماشوف، وهو محلل نفسي من فيينا، يمكنه التكهن فقط بالسبب.
إذ يقول ثوماشوف: «من ناحية، هناك الجانب الواقعي البحت... إن الأشجار تزعجهم وإنهم يريدون التخلص منها».
ولكن بعض الناس، على الأرجح، يرون أنه من قبيل التسلية أن تقتل كائنا أعزل، كطريقة لجذب الاهتمام، بحسب قوله.
ويقول إن الشجرة «تعتبر شيئا كبيرا وقويا ومستقرا. إن شجرة البلوط تحديدا تعتبر رمزية جدا... إن رؤيتها وهي تهلك تمنحهم شعورا بالقوة وتُرضي عدوانهم».
وسوف يستغرق الأمر بضعة أشهر أخرى حتى تعرف أسرة رول ما إذا كانت شجرة الزان الخاصة بهم ستنجو من الحادث الذي تعرضت له. إذا صارت أوراقها أصغر في الربيع، ستكون تلك أول علامة على أن الأمر ليس على ما يرام، إلا أنه من المرجح أن تكون الشجرة قد امتصت السم بالفعل. ويقول فرانك رول: «نأمل أن تظل الشجرة على قيد الحياة»، مضيفا: «إلا أنها لا تبدو بحالة جيدة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)