«الدين في السياسة»... جوانب دستورية وأخلاقية

قرارات ترمب كانت «خطوة أولى ممتازة» في مجال حرية التعبير والمعتقد

القرار أنهى زمن إجبار الكنائس على دفع الضرائب من طرف الحكومة الفيدرالية مقابل انخراطها في العمل السياسي
القرار أنهى زمن إجبار الكنائس على دفع الضرائب من طرف الحكومة الفيدرالية مقابل انخراطها في العمل السياسي
TT

«الدين في السياسة»... جوانب دستورية وأخلاقية

القرار أنهى زمن إجبار الكنائس على دفع الضرائب من طرف الحكومة الفيدرالية مقابل انخراطها في العمل السياسي
القرار أنهى زمن إجبار الكنائس على دفع الضرائب من طرف الحكومة الفيدرالية مقابل انخراطها في العمل السياسي

يمثل كتاب الدين والسياسة «جوانب دستورية وأخلاقية» لمايكل ج بيري، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر سنة 2014، نموذجاً من التنظيرات المعاصرة الدارسة للعلمانية الأميركية، المواكبة لطبيعة النقاش المجتمعي حول العلمنة والدين. وتكمن أهمية التعرض لمثل هذه الأبحاث في قدرتها على تفسير الدور المتنامي الذي يلعبه الدين في السياسة والمؤسسات الأميركية الفيدرالية الصانعة والمتحكمة في قرار الدولة.
ويأتي توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم الخميس 4 مايو (أيار) الحالي على قرار تنفيذي يخص الدفاع عن حرية الدين والتعبير، في هذا السياق؛ كما أن هذا الخيار الرئاسي، مؤشر قوي على المكانة القوية للدين في المجال السياسي، والتي تكرست بشكل بارز في العقدين الماضيين؛ ويبدو أن التدخل الديني في السياسة سيشهد انعطافاً تاريخياً جديداً مع الرئيس الحالي.
فبمناسبة توقيع القرار التنفيذي الجديد، والذي يمنح لرجال الدين والمؤسسات الدينية صلاحيات المشاركة والتدخل في الحقل السياسي؛ قال ترمب موجهاً خطابه للقساوسة الذين حضروا حفل التوقيع «استخدمت الحكومة الفيدرالية لوقت طويل قوة الدولة كسلاح ضد أصحاب العقيدة لدرجة من التسلط وصلت إلى حد عقاب الأميركيين لاتباعهم عقائد دينية». وهذا يعني أن القرار الجديد، أنهى زمن إجبار الكنائس على دفع الضرائب من طرف الحكومة الفيدرالية مقابل انخراطها في العمل السياسي.
وفي الوقت الذي عبر اتحاد الحريات المدنية الأميركي عن رفضه للقرار باعتباره غير دستوري أكد مؤسس تحالف الإيمان والحرية رالف رعد، إن قرار الرئيس «خطوة أولى ممتازة» في مجال حرية الدين والتعبير. يأتي هذا النقاش ليؤكد المنطلقات العلمية التي انطلق منها الفقيه الدستوري مايكل ج. بيري، والتي تعتبر «مواطني الولايات المتحدة الأميركية هم الأكثر تديناً في ديمقراطيات العالم الصناعي المتقدم»، وأن «الولايات المتحدة هي بلد متدين، وفي الوقت نفسه بلد تعددي (الآن أكثر من أي وقت مضى)، فإن قضية الدور الحقيقي للدين في السياسة ليست هامشية، على الإطلاق، بل هي قضية مركزية وحاضرة في سياسة الولايات المتحدة».
بالنسبة لمايكل ج. بيري فالروح التي حكمته وهو يؤلف «الدين في السياسة جوانب دستورية وأخلاقية»، لا تخرج عن الطبيعة المعقدة للدين في الفضاء العام الأميركي؛ وكما قال الفقيه الدستوري بيري: «أريد أن أؤكد، لقد كتبته بوصفي مسيحياً، على وجه الخصوص، مسيحياً كاثوليكياً مشبعاً بروح المجمع الفاتيكاني الثاني. ولكن مسيحياً حذراً جداً من الحديث عن الله الذي تنخرط فيه أغلبية المسيحيين. لقد كتبته بالضبط بروح المسيحية القائمة على اللاهوت السلبي. ولقد وضعت هذا الكتاب كمن يقف بين كل الذين لا يؤمنون من جهة وعدد من المؤمنين من جهة أخرى».
قسم الكاتب مؤلفه إلى ثلاثة فصول؛ تمحور الفصل الأول، حول القانون الدستوري للحرية الدينية؛ بينما خصص الفصل الثاني لعرض ومناقشة الأطروحات الدينية في النقاش السياسي العام. أما الفصل الأخير، فقد خصصه للأطروحات الدينية كقاعدة للخيار السياسي، وختمه بتعليق ختامي موجه للمسيحيين المحافظين لاهوتيا.
ونظراً لكون الباحث، ناقش قضية التداخل بين الدين والسياسة في مؤلف سابق تحت عنوان «الحب والسلطة الدين والأخلاق في السياسة الأميركية»؛ فقد أشار في مقدمة كتابه إلى أن هذا الموضوع معضلة تتطلب التفكير وإعادة التفكير. ذلك أن العلاقة بين الدين والسياسة في الخبرة التاريخية والواقعية الأميركية، تتصف بالتعقيد والتشابك، يحتاج الباحث لمعالجته وتنظيمه وفهمه لقواعد منهجية ودستورية.
ورغم أن دستور الولايات المتحدة يعتبر وثيقة علمانية فإن صاحب كتاب «الدين في السياسة جوانب دستورية وأخلاقية»، يقترح العودة للوثيقة الدستورية للاسترشاد بالثوابت المرعية في هذا المجال؛ والتي تؤكد أنه بحسب القانون الدستوري الأميركي «لا يجوز للحكومة أن تؤسس لدين ما» ولا يجوز للسلطة السياسية منع الحرية الدينية.
وفي هذا الإطار يمكن الاستدلال بالتعديل الأول لدستور الولايات المتّحدة الأميركيّة الذي نص على أنه، «يحظر على الكونغرس إصدار قانون يؤسّس لدين من الأديان أو يمنع الممارسة الحرّة لهذا الدين، أو الحدّ من حرّية التعبير أو الصحافة». كما جاء في نصّ التعديل الرابع عشر أنّه: «لا يجوز لأي ولاية أن تضع أو تطبّق أي قانون ينتقص من امتيازات أو حصانات مواطني الولايات المتّحدة. كما لا يجوز لأي ولاية أن تحرم أي شخص من الحياة أو الحرّية أو الممتلكات من دون مراعاة الإجراءات القانونية، ولا أن تحرم أي شخص خاضع لسلطاتها من المساواة في حماية القوانين». أما نصّ التعديل الدستوري التاسع فقد أشار إلى أن «تعداد الدستور لحقوق معيّنة لا يجوز أن يفسر على أنّه إنكار لحقوق أخرى يتمتّع بها الشعب، أو انتقاص منها».
لكن كيف يمكن تفسير الحضور الديني في السياسة الأميركية؟ بالنسبة لعلمانيي الولايات المتحدة، فإن التفسير التاريخي يتطلب العودة للخمسينات من القرن العشرين وبالضبط في عهد الماكرثية، التي استخدمت بشكل مكثف في وثائقها الرسمية عبارة «أمة واحدة تحت رعاية الرب». كما أن عبارة «نحن نثق بالرب» أو «في أمان الرب» الموجودة على العملة الورقية الأميركية، مستحدثة في منتصف القرن الماضي.
بالنسبة لكاتب: «الدين في السياسة: جوانب دستورية وأخلاقية»؛ فالمهم هو فهم مسألة الحرية الدينية وكيفية حمايتها من طرف القانون الدستوري للولايات المتحدة الأميركية من جهة؛ وارتباط ذلك بالدور الذي يمكن للطرح الديني أن يلعبه في السياسة، دون حظر أو انحياز لأي نوع من السلوك البشري على أساس اعتقادي يقوم على أن هذا السلوك يحابي أو ينافي الأخلاق.
يسجل الفقيه الحقوقي والدستوري بيري: «إن الخيارات السياسية التي تعنيني في هذا الكتاب هي التي تمنع أو تتحيز ضد نوع أو آخر من السلوك البشري بناء على الاعتقاد بأن هذا السلوك غير أخلاقي... إن الخلاف حول الدور المناسب للأطروحات الدينية في السياسة يشمل نقاشين: نقاشا حول الدور المناسب دستورياً للأطروحات الدينية في السياسة، ونقاشاً ذا علاقة، ولكنه مختلف، حول الدور المناسب أخلاقيا لهذه الأطروحات» (ص12).
ومن هنا، لا بد من استحضار قاعدتي عدم التأسيس وحرية الممارسة الدينية. وتعني أن الحكومة لا يمكنها أن تبني خياراً سياسياً على أطروحات دينية بما فيها تلك المتعلقة بالسلوك البشري؛ ويجوز لها فعل ذلك فقط على أساس علماني، ففي «أثناء تبني خيار سياسي، خصوصاً إذا كان خياراً سياسياً متعلقاً بأخلاقية السلوك البشري، يعتمد المشرعون والموظفون الرسميون في بعض الأحيان على طرح ديني مع طرح علماني مستقل: طرح علماني، إذا قُبل، يُدعم الخيار من دون مساعدة طرح ديني» (ص70).
غير أن هذا لا يجب أن يحجب عنا حقيقة واقعية تتمثل في كون بعض المواطنين والمشرعين يلجأون بشكل حتمي إلى الأطروحة الدينية، خصوصاً في مشاركتهم في العملية الانتخابية أو في الاستفتاء؛ أكثر من ذلك يلعب العامل الديني دوراً بالغ الأهمية في تحريك جماعات من المشرعين أو المواطنين لتبني خيار سياسي معين، وقبول الطرح العلماني الذي يدعم هذا الخيار.
لمناقشة هذا الاتجاه الفكري، يستدعي بيري، رأي الفيلسوف الأميركي ريتشارد روتي، الذي دعا لخصخصة الدين والإبقاء على الأطروحات الأخلاقية المبنية على أساس ديني بعيداً عن الفضاء والنقاش العام؛ ويعقب على هذا بحقيقة تاريخية، هي «أن التاريخ الأميركي لا يقول إن النقاشات الدينية حول قضايا الخلافية - التمييز العنصري مثلا أو الحرب - هي دائما أكثر مدعاة للفرقة من النقاشات العلمانية حول القضايا نفسها أو قضايا أخرى».
من جهة أخرى، يستدعي المؤلف هذه المرة رأي الفيلسوف جيرمي والدرون، ليؤكد بيري، أن الخطاب الأخلاقي المبني على الدين ليس دائماً طائفياً، أكثر من الخطاب الأخلاقي العلماني، بل يمكن أن يكون أقل عنصرية، وحتى ولو سقط الخطاب الديني في الطائفية، فإنه يكون قادراً على «أن يساهم مساهمة قيمة في النقاش العام حول قضايا أخلاقية صعبة».
بالنسبة لبيري، فإن القانون الدستوري الأميركي يحمي الحرية الدينية، التي تتوافق ووثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق ذات الصلة، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وهذا الجانب الحقوقي هو ما يجعل من القضاء حارساً للقواعد الدستورية المنظمة للعلاقة بين الأطروحات الدينية والعلمانية، داخل المجال السياسي الأميركي.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية
- جامعة محمد الخامس الرباط



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».