إسرائيل... الطريق إلى تجذر الأصولية اليهودية

في ضوء القانون الجديد

مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
TT

إسرائيل... الطريق إلى تجذر الأصولية اليهودية

مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)

هل تسارع دولة إسرائيل الزمن لإصدار قانون يرسخ وضعها بصفتها دولة يهودية قبل الزيارة القادمة للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الشرق الأوسط؟
المؤكد أن ذلك كذلك بالفعل فقد صادق الكنيست الإسرائيلي نهار الأربعاء 10 مايو (أيار) على القراءة التمهيدية الخاصة بمشروع قانون القومية الذي قدمه عضو الكنيست «آفي ديختر» عن حزب الليكود، وبحسب اتفاق تم مع الحكومة، لن يتم دفع مشروع القانون خلال الشهرين المقبلين، ليتم تنسيقه مع مشروع القانون الحكومي.
فكرة قانون القومية الجديد قائمة بالفعل على الأرض، فالأصولية اليهودية لا تحتاج إلى قانون لأنها كائنة وكامنة واقعيا هناك، غير أن حكومة نتنياهو تحاول إصباغ المشهد القانوني الرسمي، لتعزز من حضورها بصفتها دولة دينية لا دولة ديمقراطية كما تدعي.
ينص مشروع القانون على تعريف إسرائيل بأنها دولة يهودية وديمقراطية، وأن القدس عاصمة إسرائيل، وأن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية، وكذلك خفض مكانة اللغة العربية التي تعتبر حتى الساعة بموجب القوانين الانتدابية لغة رسمية، والاستعاضة عن ذلك بالقول إن للغة العربية مكانة خاصة.
يصادر القانون المقترح حق الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض الأصلي، في تقرير مصيره، وينص القانون الذي تجري من حوله النقاشات على أن حق تقرير المصير، يتمتع به الشعب اليهودي فقط... كيف يمكن أن تكون العنصرية أوضح شكلا من هذا الإطار؟
على أن القضية هنا ليست سياسية بالدرجة الأولى، بل أصولية في مبتدئها وخبرها دفعة واحدة، فالأصوليات بأبسط تعريفاتها هي ادعاء امتلاك الحق المطلق، وحرمان الآخر من أي حقوق، بل العمل على عزله وإقصائه، وإن وصل الأمر إلى إزاحته من الجغرافيا والتاريخ مرة وإلى الأبد.
والشاهد أنه لا يمكننا فهم ما يجري على الأرض في الداخل الإسرائيلي، إلا إذا أدركنا كم أن هناك جذوراً أصولية عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، وقانون قومية الدولة ليس إلا نتاجاً لها.
خذ إليك ما جاء به كل من «إسرائيل شاحاك» الكاتب والمؤلف والناشط الحقوقي اليهودي، و«نورتن ميزفنيسكي» أستاذ التاريخ وشؤون الشرق الأوسط في جامعة كونكتيكت الأميركية، اليهودي المعروف بعدائه الصريح للصهيونية.
في كتابهما «الأصولية اليهودية في إسرائيل» إشارة رئيسية إلى ما يجري حاليا، حيث النزعة اليهودية الأصولية المتطرفة التي يطلق عليها «النزعة المسيحيانية» هي الأعمق تأثيراً والأكثر خطراً، التي تعني تهيئة الأجواء لظهور «المسيح المخلص»، وعليه فلا بد من صبغ الدولة الإسرائيلية بصبغة يهودية كاملة براً وبحراً وجواً، عقلاً ونقلاً، نفساً وروحاً، حتى إن تطلب الأمر إصدار قوانين ملزمة.
لم تكن الأصولية اليهودية وليدة اليوم، فهي حاضرة بقوة منذ أزمنة بعيدة، غير أن ارتفاع مدها المدوي والخطير حديثا، تلازم مع حرب الستة أيام، التي يمر عليها خمسين عاما هذه الأيام، فقد تبلورت المبادئ الرئيسية للأصولية اليهودية ولليهود الأصوليين، حول جبرية استعادة وإحياء المجتمع الديني النقي والصافي الذي وجد في الأزمنة الغابرة بحسب الزعم.
يرى هؤلاء الآخرين لا سيما العرب شعوبا لا يمكن أن ترتقي أبدا إلى درجة وكرامة الذات اليهودية، وعليه فإنهم ينظرون لغير اليهودي نظرة احتقار وازدراء، حتى وإن كانت تلك الشعوب حليفة سياسية لهم، فنفس الآخر من الغوييم أو «الأغيار»، تعادل نفس الحيوان، كما تذهب بعض النصوص لديهم، ومن هنا فإن كل من ليس يهوديا، يحتل مرتبة سفلى... هل من تصريحات رسمية عند بعض قادة الأصولية اليهودية تقودنا إلى القطع بتلك الرؤى؟
يتحدث الحاخام الأكبر «كوك» المعروف بميوله وانتماءاته المتطرفة عن معنى ومبنى أن تكون يهوديا فيقول إن «الفرق بين روح اليهود وروح غيرهم جميعهم وفي كل المستويات، أكبر وأعمق من الفرق بين الروح البشرية وأرواح الأنعام»، ومن هنا يأتي الإيمان القاطع عند الأصوليين اليهود، بأن الله أعطى جميع أرض إسرائيل لليهود، ولهذا فإن العرب الذين يعيشون على تلك الأرض ليسوا إلا مجموعة من اللصوص فلماذا لا يكون إذن هناك دولة قومية يهودية وليذهب العرب - مسيحيين ومسلمين - إلى ما شاؤوا أن يذهبوا؟
وتضرب الأصولية اليهودية أطنابها اليوم في جنبات الدولة إلى الدرجة التي دعت الكاتب الإسرائيلي «جدعون ليفي» لأن يكتب في صحيفة «هآرتس» بتاريخ 3 أبريل (نيسان) الماضي تحت عنوان: «ظلام أصولي في إسرائيل»، يقول: «هكذا تبدو الدولة اليهودية التي يريد كثير من الإسرائيليين الحفاظ عليها بأي ثمن: حارس مسلح على مدخل المستشفى يقوم بتفتيش الحقائب... إنه لا يبحث عن القنابل أو الأحزمة الناسفة، ففي هذا الأسبوع يوجد عيد، هو يبحث عن شيء آخر، الحارس المسلح يبحث عن الخميرة، يقوم بفحص الطعام الذي يدخل إلى المستشفى، هو مراقب الحلال يحظر إدخال أي شيء غير حلال». حسب رأيه.
السنة هي سنة 2017، والواقع هو العصور الوسطى، تستطيع إسرائيل التلويح كما تشاء بالديمقراطية الوحيدة، لكنها ظلامية، قسرية ويزداد الظلام فيها.
هل إسرائيل اليوم في طريقها لأن تضحي دولة دينية شمولية كإيران من جراء تصاعد المد الديني اليميني الأصولي فيها؟
السؤال طرحته شبكة الأخبار الأميركية الشهيرة «سي إن إن» قبل نحو أسبوعين في برنامج خاص يواكب تطورات المشهد في إسرائيل، وقد جرت وقائعه لتبين للمشاهدين كيف أن المجتمع الإسرائيلي اليوم بات مختطفا من قبل الأصوليين الذين يعمدون إلى التفسيرات الدينية الضيقة جدا، وتاليا، يميلون إلى تكريس أوضاع الاحتلال عبر القوة والعنف، على الصعيدين الفردي والقومي معا.
يعن لنا هنا الإشارة إلى جزئية مهمة، وهي أن المطالبات داخل إسرائيل عادة ما ترتفع باعتبار الدولة يهودية بمطلق الحال، كلما جنح المجتمع الإسرائيلي لجهة اليمين المتطرف، والحال أنه أصبح الآن يشكل ما يقارب من 70 في المائة من المجتمع الإسرائيلي، وتشكل يهودية الدولة أداة لسن قوانين مصادرة أراضي العرب، ومبررا لاستيعاب الهجرة اليهودية، ورفض حق العودة للاجئين.
لا يمكن لنتنياهو أن يحاجج بالقول إن القانون يحمي يهود إسرائيل من الذين يحاولون انتزاع حقهم التاريخي في الأرض، ذلك أن أدراج الكنيست مليئة بمشروعات قوانين تعزز من عنصرية إسرائيل وتمييزها ضد الفلسطينيين، وتستهدف الوجود الفعلي للسكان الفلسطينيين في القدس والأراضي المحتلة عام 1948.
وعليه، فإن قانون الدولة القومية، لن يضيف للفلسطينيين شيئا، بل إنه سيختصم منهم أشياء، إذ سيزيد من انتقاص حقوقهم المعيشية، كما أنه يحرمهم من اللجوء إلى المحاكم الإسرائيلية مما سيجعلهم يتعرضون لمزيد من التمييز وعدم المساواة داخل المجتمع الإسرائيلي، وهذه هي الأصولية بذاتها.
في منتصف أبريل الماضي كتب «بواز هندل» مستشار رئيس وزراء إسرائيل السابق، صاحب الاتجاهات اليمينية الأصولية، مقالا في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، أشار فيه إلى أن الأصولية الإسلامية هي السبب في انتشار العنف والتطرف في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
يثني «هندل» في نهاية المقال على الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وفق ادعائه، أي دولة إسرائيل متسائلا: «لماذا الدولة الوحيدة التي نجحت في خلق ديمقراطية وليبرالية ورافقها ازدهار اقتصادي كانت تحديدا الدولة اليهودية التي يعيش فيها المسلمون، وليس في دولة إسلامية يعيش فيها اليهود والمسيحيون أيضا؟».
حديث «هندل» لا يخلو من مغالطات تاريخية، وإنكار لحقائق بعينها، ذلك أن فكرة الدولة القومية اليهودية اليوم، تجب مرة واحدة الحديث عن الدولة الديمقراطية، وتكاد تعود بنا إلى دائرة «الغيتو» اليهودي التاريخي في أوروبا القرون الوسطى تحديدا.
في مؤلفه الشهير «البندقية وغصن الزيتون جذور العنف في الشرق الأوسط» يتساءل الكاتب والصحافي البريطاني الشهير «ديفيد هيرست» قائلا: «إذا كانت الأصولية الإسلامية خطر على الغرب حسب المعتقد الغربي، فماذا عن الأصولية اليهودية؟».
يمكن القول جملة واحدة إن تعاظم المد الأصولي اليهودي في الداخل، وإصباغ الصبغة اليهودية بمطلقية المشهد على كل سكانها، ربما يكون أفضل أداة لزخم أصحاب التيارات الأصولية على الجانب الإسلامي، لا سيما من قبل أتباع «القاعدة» و«داعش» ومن لف لفهم، هؤلاء الذين يتخذون من القضية الفلسطينية - وإن بالباطل - تكأة وذريعة لاكتساب مزيد من الأتباع، السائرين على دروب العنف والدماء، والتذرع بالمقدسات الإسلامية التي تتعرض للتهديد، وحتمية الدفاع عنها وتخليصها من بين براثن اليهود، أما عن الارتدادات في الداخل الأوروبي والأميركي، فحتما ستكون سلبية، ذلك أن التيارات الراديكالية هناك، وإن افتقدت للتراتبية التنظيمية، فإنها ستجد من الذئاب المنفردة من هو كفيل باعتبار ما يجري على الأراضي الفلسطينية فصلا من فصول التهديد، والصراع بين الحق والباطل، وسيكون السعي للثأر للانتقام من اليهود والمسيحيين الأقرب لوجيستيا هو أيسر الحلول، ومن هنا يفهم المرء ما أشار إليه «هيرست» في كتابه المتقدم من أنه إذا كان هناك افتراض متداول عند الغرب بطبيعة الحال بأن الأصولية الإسلامية تشكل خطرا على الغرب، فإن الأصولية اليهودية على هذا النحو تشكل خطرا على العالم.
التنبيه والتشديد على خطر الدولة الأصولية اليهودية لا يقف عند حدود «هيرست» و«إسرائيل شاحاك»، أو «جون ميرشايمر» و«ستيفن والت»، وغيرهم كثير من العقول الغربية غير اليهودية، إذ بات يتجاوز هؤلاء ليصل إلى عقول من قلب المؤسسة اليهودية مثل «إبراهام بورغ» رئيس البرلمان الإسرائيلي السابق، وصاحب الصيحات التاريخية الصادمة للدولة الإسرائيلية، من عينة القول إن «تعريف إسرائيل على أنها دولة يهودية هو مفتاح نهايتها» وإنه «ينبغي إبقاء تيوردور هيرتزل خلفا» بل إن الرجل عينه قد نبه إلى كارثية قانون العودة ووصفه بأنه يؤدي إلى طلاق «بيننا وبين يهود الشتات وبيننا وبين العرب»، بل إنه ذهب إلى ما يهز أركان الدولة الإسرائيلية، عندما قال إن «إسرائيل حاليا أشبه ما تكون بألمانيا عشية الحكم النازي».
لم يكن لـ«إبراهام بورغ» أن يقف صامتا أمام تطورات الأحداث الأخيرة في داخل إسرائيل، ومشروع يهودية الدولة، ونتنياهو وآفي ديختر من خلفه.
في مقال أخير له عبر صفحات «هآرتس» جزم الرجل ابن الحاخام «بورغ» بأن التيارات الدينية الصهيونية التي هي قمة جيل الأصولية اليهودية، باتت تمثل تهديدا لمستقبل الدولة، بسبب تحركها الدائم للتأثير على دائرة صنع القرار، واتجاهات المجتمع الإسرائيلي، بما يتوافق مع منطلقاتها الآيديولوجية المتطرفة.
يخلص «بورغ» في مقاله القيم إلى أن «المرجعيات الدينية عملت على إرساء دعائم منظومات قيمية تكرس التطرف الديني والقومي، وتدفع نحو استسهال المس بالآخر، من خلال إعلاء قيم الفداء وقداسة الأرض».
الأصولية الإسرائيلية - اليهودية تنطلق اليوم لتنهش في الجسد الفلسطيني، والأرض الفلسطينية، وغدا سوف تقاتل اليهود أنفسهم، كما تتطلع حركة «لهفاه» المغرقة في الأصولية، والرافضة للقوانين الوضعية والمطالبة بأحكام الشريعة التوراتية، بالضبط كما يسعي «داعش» و«القاعدة».
أسوأ وأبشع مثال للأصولية اليهودية اليوم نجده عند منظمة «شارة ثمن» الإرهابية، التي تستهدف الفلسطينيين ودور عبادتهم، وهي نتاج طبيعي للأفكار ومنظومات القيم التي تروج لها مرجعيات التيار الديني، وأغنيتها المفضلة هي «الانتقام» للمطرب «دوف شورت».
آخر الأصوات التي ارتفعت لتحذر من الأصولية اليهودية الأيام الماضية كان الصحافي الإسرائيلي «يوس كلاين» عبر «هآرتس» أيضا، إذ اعتبر أن الأصولية الصهيونية الدينية المسيطرة حاليا، أشد خطرا على إسرائيل من «حزب الله».
والخلاصة أن الأصوليات دوما وأبدا مخزون من العنف والدماء والكراهية، تتضخم وتنتفخ، عندما تدفع بغلاف الهوية إلى خارج نطاق القانون بحسب «بورغ» وكذا بعيدا عن سيادة الدولة، أي العمل سرا وعلنا لتحقيق النهاية اليهودية التي تضر إسرائيل أكثر مما تفيدها.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».