إسرائيل... الطريق إلى تجذر الأصولية اليهودية

في ضوء القانون الجديد

مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
TT

إسرائيل... الطريق إلى تجذر الأصولية اليهودية

مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)

هل تسارع دولة إسرائيل الزمن لإصدار قانون يرسخ وضعها بصفتها دولة يهودية قبل الزيارة القادمة للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الشرق الأوسط؟
المؤكد أن ذلك كذلك بالفعل فقد صادق الكنيست الإسرائيلي نهار الأربعاء 10 مايو (أيار) على القراءة التمهيدية الخاصة بمشروع قانون القومية الذي قدمه عضو الكنيست «آفي ديختر» عن حزب الليكود، وبحسب اتفاق تم مع الحكومة، لن يتم دفع مشروع القانون خلال الشهرين المقبلين، ليتم تنسيقه مع مشروع القانون الحكومي.
فكرة قانون القومية الجديد قائمة بالفعل على الأرض، فالأصولية اليهودية لا تحتاج إلى قانون لأنها كائنة وكامنة واقعيا هناك، غير أن حكومة نتنياهو تحاول إصباغ المشهد القانوني الرسمي، لتعزز من حضورها بصفتها دولة دينية لا دولة ديمقراطية كما تدعي.
ينص مشروع القانون على تعريف إسرائيل بأنها دولة يهودية وديمقراطية، وأن القدس عاصمة إسرائيل، وأن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية، وكذلك خفض مكانة اللغة العربية التي تعتبر حتى الساعة بموجب القوانين الانتدابية لغة رسمية، والاستعاضة عن ذلك بالقول إن للغة العربية مكانة خاصة.
يصادر القانون المقترح حق الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض الأصلي، في تقرير مصيره، وينص القانون الذي تجري من حوله النقاشات على أن حق تقرير المصير، يتمتع به الشعب اليهودي فقط... كيف يمكن أن تكون العنصرية أوضح شكلا من هذا الإطار؟
على أن القضية هنا ليست سياسية بالدرجة الأولى، بل أصولية في مبتدئها وخبرها دفعة واحدة، فالأصوليات بأبسط تعريفاتها هي ادعاء امتلاك الحق المطلق، وحرمان الآخر من أي حقوق، بل العمل على عزله وإقصائه، وإن وصل الأمر إلى إزاحته من الجغرافيا والتاريخ مرة وإلى الأبد.
والشاهد أنه لا يمكننا فهم ما يجري على الأرض في الداخل الإسرائيلي، إلا إذا أدركنا كم أن هناك جذوراً أصولية عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، وقانون قومية الدولة ليس إلا نتاجاً لها.
خذ إليك ما جاء به كل من «إسرائيل شاحاك» الكاتب والمؤلف والناشط الحقوقي اليهودي، و«نورتن ميزفنيسكي» أستاذ التاريخ وشؤون الشرق الأوسط في جامعة كونكتيكت الأميركية، اليهودي المعروف بعدائه الصريح للصهيونية.
في كتابهما «الأصولية اليهودية في إسرائيل» إشارة رئيسية إلى ما يجري حاليا، حيث النزعة اليهودية الأصولية المتطرفة التي يطلق عليها «النزعة المسيحيانية» هي الأعمق تأثيراً والأكثر خطراً، التي تعني تهيئة الأجواء لظهور «المسيح المخلص»، وعليه فلا بد من صبغ الدولة الإسرائيلية بصبغة يهودية كاملة براً وبحراً وجواً، عقلاً ونقلاً، نفساً وروحاً، حتى إن تطلب الأمر إصدار قوانين ملزمة.
لم تكن الأصولية اليهودية وليدة اليوم، فهي حاضرة بقوة منذ أزمنة بعيدة، غير أن ارتفاع مدها المدوي والخطير حديثا، تلازم مع حرب الستة أيام، التي يمر عليها خمسين عاما هذه الأيام، فقد تبلورت المبادئ الرئيسية للأصولية اليهودية ولليهود الأصوليين، حول جبرية استعادة وإحياء المجتمع الديني النقي والصافي الذي وجد في الأزمنة الغابرة بحسب الزعم.
يرى هؤلاء الآخرين لا سيما العرب شعوبا لا يمكن أن ترتقي أبدا إلى درجة وكرامة الذات اليهودية، وعليه فإنهم ينظرون لغير اليهودي نظرة احتقار وازدراء، حتى وإن كانت تلك الشعوب حليفة سياسية لهم، فنفس الآخر من الغوييم أو «الأغيار»، تعادل نفس الحيوان، كما تذهب بعض النصوص لديهم، ومن هنا فإن كل من ليس يهوديا، يحتل مرتبة سفلى... هل من تصريحات رسمية عند بعض قادة الأصولية اليهودية تقودنا إلى القطع بتلك الرؤى؟
يتحدث الحاخام الأكبر «كوك» المعروف بميوله وانتماءاته المتطرفة عن معنى ومبنى أن تكون يهوديا فيقول إن «الفرق بين روح اليهود وروح غيرهم جميعهم وفي كل المستويات، أكبر وأعمق من الفرق بين الروح البشرية وأرواح الأنعام»، ومن هنا يأتي الإيمان القاطع عند الأصوليين اليهود، بأن الله أعطى جميع أرض إسرائيل لليهود، ولهذا فإن العرب الذين يعيشون على تلك الأرض ليسوا إلا مجموعة من اللصوص فلماذا لا يكون إذن هناك دولة قومية يهودية وليذهب العرب - مسيحيين ومسلمين - إلى ما شاؤوا أن يذهبوا؟
وتضرب الأصولية اليهودية أطنابها اليوم في جنبات الدولة إلى الدرجة التي دعت الكاتب الإسرائيلي «جدعون ليفي» لأن يكتب في صحيفة «هآرتس» بتاريخ 3 أبريل (نيسان) الماضي تحت عنوان: «ظلام أصولي في إسرائيل»، يقول: «هكذا تبدو الدولة اليهودية التي يريد كثير من الإسرائيليين الحفاظ عليها بأي ثمن: حارس مسلح على مدخل المستشفى يقوم بتفتيش الحقائب... إنه لا يبحث عن القنابل أو الأحزمة الناسفة، ففي هذا الأسبوع يوجد عيد، هو يبحث عن شيء آخر، الحارس المسلح يبحث عن الخميرة، يقوم بفحص الطعام الذي يدخل إلى المستشفى، هو مراقب الحلال يحظر إدخال أي شيء غير حلال». حسب رأيه.
السنة هي سنة 2017، والواقع هو العصور الوسطى، تستطيع إسرائيل التلويح كما تشاء بالديمقراطية الوحيدة، لكنها ظلامية، قسرية ويزداد الظلام فيها.
هل إسرائيل اليوم في طريقها لأن تضحي دولة دينية شمولية كإيران من جراء تصاعد المد الديني اليميني الأصولي فيها؟
السؤال طرحته شبكة الأخبار الأميركية الشهيرة «سي إن إن» قبل نحو أسبوعين في برنامج خاص يواكب تطورات المشهد في إسرائيل، وقد جرت وقائعه لتبين للمشاهدين كيف أن المجتمع الإسرائيلي اليوم بات مختطفا من قبل الأصوليين الذين يعمدون إلى التفسيرات الدينية الضيقة جدا، وتاليا، يميلون إلى تكريس أوضاع الاحتلال عبر القوة والعنف، على الصعيدين الفردي والقومي معا.
يعن لنا هنا الإشارة إلى جزئية مهمة، وهي أن المطالبات داخل إسرائيل عادة ما ترتفع باعتبار الدولة يهودية بمطلق الحال، كلما جنح المجتمع الإسرائيلي لجهة اليمين المتطرف، والحال أنه أصبح الآن يشكل ما يقارب من 70 في المائة من المجتمع الإسرائيلي، وتشكل يهودية الدولة أداة لسن قوانين مصادرة أراضي العرب، ومبررا لاستيعاب الهجرة اليهودية، ورفض حق العودة للاجئين.
لا يمكن لنتنياهو أن يحاجج بالقول إن القانون يحمي يهود إسرائيل من الذين يحاولون انتزاع حقهم التاريخي في الأرض، ذلك أن أدراج الكنيست مليئة بمشروعات قوانين تعزز من عنصرية إسرائيل وتمييزها ضد الفلسطينيين، وتستهدف الوجود الفعلي للسكان الفلسطينيين في القدس والأراضي المحتلة عام 1948.
وعليه، فإن قانون الدولة القومية، لن يضيف للفلسطينيين شيئا، بل إنه سيختصم منهم أشياء، إذ سيزيد من انتقاص حقوقهم المعيشية، كما أنه يحرمهم من اللجوء إلى المحاكم الإسرائيلية مما سيجعلهم يتعرضون لمزيد من التمييز وعدم المساواة داخل المجتمع الإسرائيلي، وهذه هي الأصولية بذاتها.
في منتصف أبريل الماضي كتب «بواز هندل» مستشار رئيس وزراء إسرائيل السابق، صاحب الاتجاهات اليمينية الأصولية، مقالا في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، أشار فيه إلى أن الأصولية الإسلامية هي السبب في انتشار العنف والتطرف في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
يثني «هندل» في نهاية المقال على الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وفق ادعائه، أي دولة إسرائيل متسائلا: «لماذا الدولة الوحيدة التي نجحت في خلق ديمقراطية وليبرالية ورافقها ازدهار اقتصادي كانت تحديدا الدولة اليهودية التي يعيش فيها المسلمون، وليس في دولة إسلامية يعيش فيها اليهود والمسيحيون أيضا؟».
حديث «هندل» لا يخلو من مغالطات تاريخية، وإنكار لحقائق بعينها، ذلك أن فكرة الدولة القومية اليهودية اليوم، تجب مرة واحدة الحديث عن الدولة الديمقراطية، وتكاد تعود بنا إلى دائرة «الغيتو» اليهودي التاريخي في أوروبا القرون الوسطى تحديدا.
في مؤلفه الشهير «البندقية وغصن الزيتون جذور العنف في الشرق الأوسط» يتساءل الكاتب والصحافي البريطاني الشهير «ديفيد هيرست» قائلا: «إذا كانت الأصولية الإسلامية خطر على الغرب حسب المعتقد الغربي، فماذا عن الأصولية اليهودية؟».
يمكن القول جملة واحدة إن تعاظم المد الأصولي اليهودي في الداخل، وإصباغ الصبغة اليهودية بمطلقية المشهد على كل سكانها، ربما يكون أفضل أداة لزخم أصحاب التيارات الأصولية على الجانب الإسلامي، لا سيما من قبل أتباع «القاعدة» و«داعش» ومن لف لفهم، هؤلاء الذين يتخذون من القضية الفلسطينية - وإن بالباطل - تكأة وذريعة لاكتساب مزيد من الأتباع، السائرين على دروب العنف والدماء، والتذرع بالمقدسات الإسلامية التي تتعرض للتهديد، وحتمية الدفاع عنها وتخليصها من بين براثن اليهود، أما عن الارتدادات في الداخل الأوروبي والأميركي، فحتما ستكون سلبية، ذلك أن التيارات الراديكالية هناك، وإن افتقدت للتراتبية التنظيمية، فإنها ستجد من الذئاب المنفردة من هو كفيل باعتبار ما يجري على الأراضي الفلسطينية فصلا من فصول التهديد، والصراع بين الحق والباطل، وسيكون السعي للثأر للانتقام من اليهود والمسيحيين الأقرب لوجيستيا هو أيسر الحلول، ومن هنا يفهم المرء ما أشار إليه «هيرست» في كتابه المتقدم من أنه إذا كان هناك افتراض متداول عند الغرب بطبيعة الحال بأن الأصولية الإسلامية تشكل خطرا على الغرب، فإن الأصولية اليهودية على هذا النحو تشكل خطرا على العالم.
التنبيه والتشديد على خطر الدولة الأصولية اليهودية لا يقف عند حدود «هيرست» و«إسرائيل شاحاك»، أو «جون ميرشايمر» و«ستيفن والت»، وغيرهم كثير من العقول الغربية غير اليهودية، إذ بات يتجاوز هؤلاء ليصل إلى عقول من قلب المؤسسة اليهودية مثل «إبراهام بورغ» رئيس البرلمان الإسرائيلي السابق، وصاحب الصيحات التاريخية الصادمة للدولة الإسرائيلية، من عينة القول إن «تعريف إسرائيل على أنها دولة يهودية هو مفتاح نهايتها» وإنه «ينبغي إبقاء تيوردور هيرتزل خلفا» بل إن الرجل عينه قد نبه إلى كارثية قانون العودة ووصفه بأنه يؤدي إلى طلاق «بيننا وبين يهود الشتات وبيننا وبين العرب»، بل إنه ذهب إلى ما يهز أركان الدولة الإسرائيلية، عندما قال إن «إسرائيل حاليا أشبه ما تكون بألمانيا عشية الحكم النازي».
لم يكن لـ«إبراهام بورغ» أن يقف صامتا أمام تطورات الأحداث الأخيرة في داخل إسرائيل، ومشروع يهودية الدولة، ونتنياهو وآفي ديختر من خلفه.
في مقال أخير له عبر صفحات «هآرتس» جزم الرجل ابن الحاخام «بورغ» بأن التيارات الدينية الصهيونية التي هي قمة جيل الأصولية اليهودية، باتت تمثل تهديدا لمستقبل الدولة، بسبب تحركها الدائم للتأثير على دائرة صنع القرار، واتجاهات المجتمع الإسرائيلي، بما يتوافق مع منطلقاتها الآيديولوجية المتطرفة.
يخلص «بورغ» في مقاله القيم إلى أن «المرجعيات الدينية عملت على إرساء دعائم منظومات قيمية تكرس التطرف الديني والقومي، وتدفع نحو استسهال المس بالآخر، من خلال إعلاء قيم الفداء وقداسة الأرض».
الأصولية الإسرائيلية - اليهودية تنطلق اليوم لتنهش في الجسد الفلسطيني، والأرض الفلسطينية، وغدا سوف تقاتل اليهود أنفسهم، كما تتطلع حركة «لهفاه» المغرقة في الأصولية، والرافضة للقوانين الوضعية والمطالبة بأحكام الشريعة التوراتية، بالضبط كما يسعي «داعش» و«القاعدة».
أسوأ وأبشع مثال للأصولية اليهودية اليوم نجده عند منظمة «شارة ثمن» الإرهابية، التي تستهدف الفلسطينيين ودور عبادتهم، وهي نتاج طبيعي للأفكار ومنظومات القيم التي تروج لها مرجعيات التيار الديني، وأغنيتها المفضلة هي «الانتقام» للمطرب «دوف شورت».
آخر الأصوات التي ارتفعت لتحذر من الأصولية اليهودية الأيام الماضية كان الصحافي الإسرائيلي «يوس كلاين» عبر «هآرتس» أيضا، إذ اعتبر أن الأصولية الصهيونية الدينية المسيطرة حاليا، أشد خطرا على إسرائيل من «حزب الله».
والخلاصة أن الأصوليات دوما وأبدا مخزون من العنف والدماء والكراهية، تتضخم وتنتفخ، عندما تدفع بغلاف الهوية إلى خارج نطاق القانون بحسب «بورغ» وكذا بعيدا عن سيادة الدولة، أي العمل سرا وعلنا لتحقيق النهاية اليهودية التي تضر إسرائيل أكثر مما تفيدها.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟