إسرائيل... الطريق إلى تجذر الأصولية اليهودية

في ضوء القانون الجديد

مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
TT

إسرائيل... الطريق إلى تجذر الأصولية اليهودية

مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)
مئات من اليهود يصلون أمام {حائط المبكى} في القدس القديمة (أ.ف.ب)

هل تسارع دولة إسرائيل الزمن لإصدار قانون يرسخ وضعها بصفتها دولة يهودية قبل الزيارة القادمة للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الشرق الأوسط؟
المؤكد أن ذلك كذلك بالفعل فقد صادق الكنيست الإسرائيلي نهار الأربعاء 10 مايو (أيار) على القراءة التمهيدية الخاصة بمشروع قانون القومية الذي قدمه عضو الكنيست «آفي ديختر» عن حزب الليكود، وبحسب اتفاق تم مع الحكومة، لن يتم دفع مشروع القانون خلال الشهرين المقبلين، ليتم تنسيقه مع مشروع القانون الحكومي.
فكرة قانون القومية الجديد قائمة بالفعل على الأرض، فالأصولية اليهودية لا تحتاج إلى قانون لأنها كائنة وكامنة واقعيا هناك، غير أن حكومة نتنياهو تحاول إصباغ المشهد القانوني الرسمي، لتعزز من حضورها بصفتها دولة دينية لا دولة ديمقراطية كما تدعي.
ينص مشروع القانون على تعريف إسرائيل بأنها دولة يهودية وديمقراطية، وأن القدس عاصمة إسرائيل، وأن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية، وكذلك خفض مكانة اللغة العربية التي تعتبر حتى الساعة بموجب القوانين الانتدابية لغة رسمية، والاستعاضة عن ذلك بالقول إن للغة العربية مكانة خاصة.
يصادر القانون المقترح حق الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض الأصلي، في تقرير مصيره، وينص القانون الذي تجري من حوله النقاشات على أن حق تقرير المصير، يتمتع به الشعب اليهودي فقط... كيف يمكن أن تكون العنصرية أوضح شكلا من هذا الإطار؟
على أن القضية هنا ليست سياسية بالدرجة الأولى، بل أصولية في مبتدئها وخبرها دفعة واحدة، فالأصوليات بأبسط تعريفاتها هي ادعاء امتلاك الحق المطلق، وحرمان الآخر من أي حقوق، بل العمل على عزله وإقصائه، وإن وصل الأمر إلى إزاحته من الجغرافيا والتاريخ مرة وإلى الأبد.
والشاهد أنه لا يمكننا فهم ما يجري على الأرض في الداخل الإسرائيلي، إلا إذا أدركنا كم أن هناك جذوراً أصولية عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، وقانون قومية الدولة ليس إلا نتاجاً لها.
خذ إليك ما جاء به كل من «إسرائيل شاحاك» الكاتب والمؤلف والناشط الحقوقي اليهودي، و«نورتن ميزفنيسكي» أستاذ التاريخ وشؤون الشرق الأوسط في جامعة كونكتيكت الأميركية، اليهودي المعروف بعدائه الصريح للصهيونية.
في كتابهما «الأصولية اليهودية في إسرائيل» إشارة رئيسية إلى ما يجري حاليا، حيث النزعة اليهودية الأصولية المتطرفة التي يطلق عليها «النزعة المسيحيانية» هي الأعمق تأثيراً والأكثر خطراً، التي تعني تهيئة الأجواء لظهور «المسيح المخلص»، وعليه فلا بد من صبغ الدولة الإسرائيلية بصبغة يهودية كاملة براً وبحراً وجواً، عقلاً ونقلاً، نفساً وروحاً، حتى إن تطلب الأمر إصدار قوانين ملزمة.
لم تكن الأصولية اليهودية وليدة اليوم، فهي حاضرة بقوة منذ أزمنة بعيدة، غير أن ارتفاع مدها المدوي والخطير حديثا، تلازم مع حرب الستة أيام، التي يمر عليها خمسين عاما هذه الأيام، فقد تبلورت المبادئ الرئيسية للأصولية اليهودية ولليهود الأصوليين، حول جبرية استعادة وإحياء المجتمع الديني النقي والصافي الذي وجد في الأزمنة الغابرة بحسب الزعم.
يرى هؤلاء الآخرين لا سيما العرب شعوبا لا يمكن أن ترتقي أبدا إلى درجة وكرامة الذات اليهودية، وعليه فإنهم ينظرون لغير اليهودي نظرة احتقار وازدراء، حتى وإن كانت تلك الشعوب حليفة سياسية لهم، فنفس الآخر من الغوييم أو «الأغيار»، تعادل نفس الحيوان، كما تذهب بعض النصوص لديهم، ومن هنا فإن كل من ليس يهوديا، يحتل مرتبة سفلى... هل من تصريحات رسمية عند بعض قادة الأصولية اليهودية تقودنا إلى القطع بتلك الرؤى؟
يتحدث الحاخام الأكبر «كوك» المعروف بميوله وانتماءاته المتطرفة عن معنى ومبنى أن تكون يهوديا فيقول إن «الفرق بين روح اليهود وروح غيرهم جميعهم وفي كل المستويات، أكبر وأعمق من الفرق بين الروح البشرية وأرواح الأنعام»، ومن هنا يأتي الإيمان القاطع عند الأصوليين اليهود، بأن الله أعطى جميع أرض إسرائيل لليهود، ولهذا فإن العرب الذين يعيشون على تلك الأرض ليسوا إلا مجموعة من اللصوص فلماذا لا يكون إذن هناك دولة قومية يهودية وليذهب العرب - مسيحيين ومسلمين - إلى ما شاؤوا أن يذهبوا؟
وتضرب الأصولية اليهودية أطنابها اليوم في جنبات الدولة إلى الدرجة التي دعت الكاتب الإسرائيلي «جدعون ليفي» لأن يكتب في صحيفة «هآرتس» بتاريخ 3 أبريل (نيسان) الماضي تحت عنوان: «ظلام أصولي في إسرائيل»، يقول: «هكذا تبدو الدولة اليهودية التي يريد كثير من الإسرائيليين الحفاظ عليها بأي ثمن: حارس مسلح على مدخل المستشفى يقوم بتفتيش الحقائب... إنه لا يبحث عن القنابل أو الأحزمة الناسفة، ففي هذا الأسبوع يوجد عيد، هو يبحث عن شيء آخر، الحارس المسلح يبحث عن الخميرة، يقوم بفحص الطعام الذي يدخل إلى المستشفى، هو مراقب الحلال يحظر إدخال أي شيء غير حلال». حسب رأيه.
السنة هي سنة 2017، والواقع هو العصور الوسطى، تستطيع إسرائيل التلويح كما تشاء بالديمقراطية الوحيدة، لكنها ظلامية، قسرية ويزداد الظلام فيها.
هل إسرائيل اليوم في طريقها لأن تضحي دولة دينية شمولية كإيران من جراء تصاعد المد الديني اليميني الأصولي فيها؟
السؤال طرحته شبكة الأخبار الأميركية الشهيرة «سي إن إن» قبل نحو أسبوعين في برنامج خاص يواكب تطورات المشهد في إسرائيل، وقد جرت وقائعه لتبين للمشاهدين كيف أن المجتمع الإسرائيلي اليوم بات مختطفا من قبل الأصوليين الذين يعمدون إلى التفسيرات الدينية الضيقة جدا، وتاليا، يميلون إلى تكريس أوضاع الاحتلال عبر القوة والعنف، على الصعيدين الفردي والقومي معا.
يعن لنا هنا الإشارة إلى جزئية مهمة، وهي أن المطالبات داخل إسرائيل عادة ما ترتفع باعتبار الدولة يهودية بمطلق الحال، كلما جنح المجتمع الإسرائيلي لجهة اليمين المتطرف، والحال أنه أصبح الآن يشكل ما يقارب من 70 في المائة من المجتمع الإسرائيلي، وتشكل يهودية الدولة أداة لسن قوانين مصادرة أراضي العرب، ومبررا لاستيعاب الهجرة اليهودية، ورفض حق العودة للاجئين.
لا يمكن لنتنياهو أن يحاجج بالقول إن القانون يحمي يهود إسرائيل من الذين يحاولون انتزاع حقهم التاريخي في الأرض، ذلك أن أدراج الكنيست مليئة بمشروعات قوانين تعزز من عنصرية إسرائيل وتمييزها ضد الفلسطينيين، وتستهدف الوجود الفعلي للسكان الفلسطينيين في القدس والأراضي المحتلة عام 1948.
وعليه، فإن قانون الدولة القومية، لن يضيف للفلسطينيين شيئا، بل إنه سيختصم منهم أشياء، إذ سيزيد من انتقاص حقوقهم المعيشية، كما أنه يحرمهم من اللجوء إلى المحاكم الإسرائيلية مما سيجعلهم يتعرضون لمزيد من التمييز وعدم المساواة داخل المجتمع الإسرائيلي، وهذه هي الأصولية بذاتها.
في منتصف أبريل الماضي كتب «بواز هندل» مستشار رئيس وزراء إسرائيل السابق، صاحب الاتجاهات اليمينية الأصولية، مقالا في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، أشار فيه إلى أن الأصولية الإسلامية هي السبب في انتشار العنف والتطرف في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
يثني «هندل» في نهاية المقال على الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وفق ادعائه، أي دولة إسرائيل متسائلا: «لماذا الدولة الوحيدة التي نجحت في خلق ديمقراطية وليبرالية ورافقها ازدهار اقتصادي كانت تحديدا الدولة اليهودية التي يعيش فيها المسلمون، وليس في دولة إسلامية يعيش فيها اليهود والمسيحيون أيضا؟».
حديث «هندل» لا يخلو من مغالطات تاريخية، وإنكار لحقائق بعينها، ذلك أن فكرة الدولة القومية اليهودية اليوم، تجب مرة واحدة الحديث عن الدولة الديمقراطية، وتكاد تعود بنا إلى دائرة «الغيتو» اليهودي التاريخي في أوروبا القرون الوسطى تحديدا.
في مؤلفه الشهير «البندقية وغصن الزيتون جذور العنف في الشرق الأوسط» يتساءل الكاتب والصحافي البريطاني الشهير «ديفيد هيرست» قائلا: «إذا كانت الأصولية الإسلامية خطر على الغرب حسب المعتقد الغربي، فماذا عن الأصولية اليهودية؟».
يمكن القول جملة واحدة إن تعاظم المد الأصولي اليهودي في الداخل، وإصباغ الصبغة اليهودية بمطلقية المشهد على كل سكانها، ربما يكون أفضل أداة لزخم أصحاب التيارات الأصولية على الجانب الإسلامي، لا سيما من قبل أتباع «القاعدة» و«داعش» ومن لف لفهم، هؤلاء الذين يتخذون من القضية الفلسطينية - وإن بالباطل - تكأة وذريعة لاكتساب مزيد من الأتباع، السائرين على دروب العنف والدماء، والتذرع بالمقدسات الإسلامية التي تتعرض للتهديد، وحتمية الدفاع عنها وتخليصها من بين براثن اليهود، أما عن الارتدادات في الداخل الأوروبي والأميركي، فحتما ستكون سلبية، ذلك أن التيارات الراديكالية هناك، وإن افتقدت للتراتبية التنظيمية، فإنها ستجد من الذئاب المنفردة من هو كفيل باعتبار ما يجري على الأراضي الفلسطينية فصلا من فصول التهديد، والصراع بين الحق والباطل، وسيكون السعي للثأر للانتقام من اليهود والمسيحيين الأقرب لوجيستيا هو أيسر الحلول، ومن هنا يفهم المرء ما أشار إليه «هيرست» في كتابه المتقدم من أنه إذا كان هناك افتراض متداول عند الغرب بطبيعة الحال بأن الأصولية الإسلامية تشكل خطرا على الغرب، فإن الأصولية اليهودية على هذا النحو تشكل خطرا على العالم.
التنبيه والتشديد على خطر الدولة الأصولية اليهودية لا يقف عند حدود «هيرست» و«إسرائيل شاحاك»، أو «جون ميرشايمر» و«ستيفن والت»، وغيرهم كثير من العقول الغربية غير اليهودية، إذ بات يتجاوز هؤلاء ليصل إلى عقول من قلب المؤسسة اليهودية مثل «إبراهام بورغ» رئيس البرلمان الإسرائيلي السابق، وصاحب الصيحات التاريخية الصادمة للدولة الإسرائيلية، من عينة القول إن «تعريف إسرائيل على أنها دولة يهودية هو مفتاح نهايتها» وإنه «ينبغي إبقاء تيوردور هيرتزل خلفا» بل إن الرجل عينه قد نبه إلى كارثية قانون العودة ووصفه بأنه يؤدي إلى طلاق «بيننا وبين يهود الشتات وبيننا وبين العرب»، بل إنه ذهب إلى ما يهز أركان الدولة الإسرائيلية، عندما قال إن «إسرائيل حاليا أشبه ما تكون بألمانيا عشية الحكم النازي».
لم يكن لـ«إبراهام بورغ» أن يقف صامتا أمام تطورات الأحداث الأخيرة في داخل إسرائيل، ومشروع يهودية الدولة، ونتنياهو وآفي ديختر من خلفه.
في مقال أخير له عبر صفحات «هآرتس» جزم الرجل ابن الحاخام «بورغ» بأن التيارات الدينية الصهيونية التي هي قمة جيل الأصولية اليهودية، باتت تمثل تهديدا لمستقبل الدولة، بسبب تحركها الدائم للتأثير على دائرة صنع القرار، واتجاهات المجتمع الإسرائيلي، بما يتوافق مع منطلقاتها الآيديولوجية المتطرفة.
يخلص «بورغ» في مقاله القيم إلى أن «المرجعيات الدينية عملت على إرساء دعائم منظومات قيمية تكرس التطرف الديني والقومي، وتدفع نحو استسهال المس بالآخر، من خلال إعلاء قيم الفداء وقداسة الأرض».
الأصولية الإسرائيلية - اليهودية تنطلق اليوم لتنهش في الجسد الفلسطيني، والأرض الفلسطينية، وغدا سوف تقاتل اليهود أنفسهم، كما تتطلع حركة «لهفاه» المغرقة في الأصولية، والرافضة للقوانين الوضعية والمطالبة بأحكام الشريعة التوراتية، بالضبط كما يسعي «داعش» و«القاعدة».
أسوأ وأبشع مثال للأصولية اليهودية اليوم نجده عند منظمة «شارة ثمن» الإرهابية، التي تستهدف الفلسطينيين ودور عبادتهم، وهي نتاج طبيعي للأفكار ومنظومات القيم التي تروج لها مرجعيات التيار الديني، وأغنيتها المفضلة هي «الانتقام» للمطرب «دوف شورت».
آخر الأصوات التي ارتفعت لتحذر من الأصولية اليهودية الأيام الماضية كان الصحافي الإسرائيلي «يوس كلاين» عبر «هآرتس» أيضا، إذ اعتبر أن الأصولية الصهيونية الدينية المسيطرة حاليا، أشد خطرا على إسرائيل من «حزب الله».
والخلاصة أن الأصوليات دوما وأبدا مخزون من العنف والدماء والكراهية، تتضخم وتنتفخ، عندما تدفع بغلاف الهوية إلى خارج نطاق القانون بحسب «بورغ» وكذا بعيدا عن سيادة الدولة، أي العمل سرا وعلنا لتحقيق النهاية اليهودية التي تضر إسرائيل أكثر مما تفيدها.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.